نصوص أدبية
ناجي ظاهر: كمين ليلي

دخل علي في غفلة من عين الليل. تسلّل إلي عبر خطوط الفيسبوك الغامضة. سمعت رنته الغريبة.. الا انني لم اعرها اهتمامًا يذكر. كنت افكر في تفاصبل قصة الحت علي منذ سنوات. قصة تحكي عن كاتب موتور. حمل ضغينته سنوات وسنوات. لينتقم من معذبه.. بعد اربعين عاما وقال لنفسه.. لقد تسرّعت.
قطع عليّ حبال تفكيري. اوقف التفكير في القصة الجديدة. ارسل ابتسامة بالوان قوس قزح. تجولت بين كل الوانها لأتوقف عند لونها الاصفر:
-ماذا تريد؟ سألته. بجفاء.
-اريد منفعتك وفائدتك.. قال مرفقا ردّه بابتسامة. قبل ان اتوجّه اليه بسؤال آخر تابع يقول: اريد اولًا ان احييك على قصصك الاخيرة.. لقد تفوقت فيها على نفسك.. وكتبت ما يستحق القراءة ويلامس حفاف الخلود. يسرني ان اكرر تحيتي.. وان اقدّم لك كل تقدير واحترام.. كاتبًا عربيًا يرفع الراس.. ويساهم بجهوده الجبارة وقدراته الفائقة في وضع قصتنا العربية على خارطة الوجود.
تمعّنت في وجهه.. انه وجه معروف لدي.. لكن أين رايته؟ لا اتذكر.. لأدعه اذن يواصل كلامه.. ولأمنح نفسي فرصة أن امسك طرف خيط ذاكرتي،، فأتذكر.. وتتالت كلماته.. لأراه بعد الف كلمة وكلمة، يدخل إلى مكتبي ابان عملي محررًا ادبيًا في اكبر صحيفة تصدر في البلاد، وليقدم لي سبع ورقات.. طالبًا مني أن اقرأ ما ابتدعه فيها في الرواية والقصة.. تقبلت لحظتها ما قاله لي برحابة صدر.. دأبت على ان اتمتع بها وامتع غيري من زائري الصحيفة.. وشرعت في قراءة ورقاته السبع.. خلال قراءتي الصفحة الاولى. الكلمة الاولى الحرف الاول.. كان لا بد من اتناول قلم الحبر الاحمر.. لأشير الى ما حفلت به تلك الورقة من اخطاء.. بعد انتهائي من الورقة الاولى، ارسلت نظري إليه ضمن محاولة اعتدت عليها في مثل تلك المواقف.. لمعرفة ما يدور حولي.. فسارع إلى القول: اعرف انني ضعيف في الاملاء واللغة.. لقد تعلمت في مدرسة عبرية.. قال وتابع: ارجو أن تجد قصتي الاولى مساحة ولو متواضعة في الصحيفة. قال هذه الكلمات وانصرف وهو يمضي باتجاه باب الخروج خطوة إلى الامام واخرى الى الخلف. وخرج.. إلا أنه ما لبث ان عاد.. كان ذلك وانا اضع التصويبات الخطيرة الحمراء على اوراقه السبع. تناول الاوراق من يدي وهو يطويها في جيبه: شو هاي الاحمر طغى على الاسود. لا.. لا اريد ان انشرها. حمل اوراقه وتوجّه نحو باب غرفة التحرير. توقف في مدخل الغرفة وراسل نحوي قذائف من كلمات: من انت حتى تشوّه قصتي بأحمرك القذر؟.. وقبل ان ارد عليه قائلًا بإمكانك ان توجّه سؤالك هذا إلى اصحاب الجريدة.. اعتقد انك ستجد الاجابة الصافية لديهم.. كان قد اختفى.. وها هو يطل علي من خطوط الفيسبوك بعد ثلاثين عامًا على تلك الواقعة.. ترى هل يكون هو .. هل شبه لي؟ لا اعرف اختلط علي الامر، فعاد يقول لي:
-اعترف ان قصصك الاخيرة مكنتني من التجوال في بساتين بلادنا الغناء واعماق انسانها المعطاء.. شكرًا لك..
ما ان قال هذه الكلمات حتى رأيتها فرصة مناسبة لتبين جلية ما يحدث في تلك اللحظات العصيبة.. قلت له:
-كل كاتب في العالم يتمنّى ان يستمع إلى مثل هكذا كلام.. في مديح انتاجه.. شكرًا لك.. هل تريد ان تضيف شيئًا؟
ارسل ابتسامة ملأى بالغموض الواضح:
-طوّل روحك علي.. وتعامل معي تعامل كاتب مبدع مع قارئ معجب..
هززت راسي علامة تقبّل كلماته.. لعلّه يمضي في طريقه ويخلي لي ما تبقى من الليل لأواصل وحدتي معه.. إلا انه فأجاني بموقف غير متوقع.. خرج من خطوط الفيسبوك واتخذ مجلسه قبالة مكتبي.. وضع رجلّا على رجل:
-انت تستحق كل تكريم.. كاتب مبدع مثلك يستحق ان يقرأ في اكثر من لغة.
هزّتني كلماته هذه. اثارت طيور طموحي فراحت تحلق شاقة الافاق غير عابئة بالليل واهله. نسيت ما انا فيه. وقلت له:
-اهلي لا يقرؤنني.. فهل يقرؤني الناس في لغات اخرى؟
ارسل ضحكة دوّت في ارجاء الغرفة، قال:
-اهلك لن يقرؤك يا مُعلم.. الا اذا قرأك ابناء لغات اخرى.. عندها سيعرفون قيمتك وقيمة ابداعك.. كما عرفت انا.
عندها سألته عمّا اذا كان يعمل مترجمًا ادبيًا، فاخبرني انه تعلّم في مدرسة عبرية، وأن بإمكانه ان يفتح لي طاقة مشرّفة في هذه اللغة.. الاغلب ان توصلني إلى ما تبقى من لغات.. وتابع يقول:
-اعطني مجموعةً او مجموعتين من قصصك يا تشيخوف العرب.. وسوف ترى ماذا بإمكان زائر غريب يأتيك في آخر الليل وأول الصباح ان يفعل.. انتابني شعور غامر بالفرح.. وانا استمع إلى كلماته المعبّرة المؤثرة الرائعة.. خاصة عندما وصفني بما تمنّاه كل كاتب عربي ولم يكن لاحد منهم. تشخوف العرب.. تناولت مجموعة قصصية كتبتها مستوحيًا احداثَها من حياة الكاتب الروسي العظيم انطون تشيخوف.. محبوبي وفاتني.. واخرى من حياة نظيره الكاتب الفرنسي المفلّق جي دي موباسان. ناولته المجموعتين.. بيدين آملتين، فتناولهما بيدين واثقتين.. وخرج نازلًا ادراج بيتي.. درجة بعد درجة.. وكأنما هو يعد ادراجه.. بعد دهرٍ من الانتظار.. رأيته يبتعد عن بيتي.. ويأخذ في تطيير اوراق مجموعتي الغاليتين.. عن تشيخوف وموباسان.. واحدة عقب الاخرى.. كان يطير اوراقهما في الهواء القاتل.. وعندما ابقى عددًا من الاورق في يده.. تمكّنت من احصائها فتوقفت عند الرقم سبعة.. بعدها رأيته وهو يتناول قلمًا احمرَ يشبه قلمي ايام كنت محررًا فعالًا قبل حوالي الثلاثة عقود من الزمان.. وراح يشطّب كلماتي الرائعة.. كلمة اثر كلمة.. وسطرًا بعد سطر.. عندها.. عندها فقط.. همست في اذني.. قائلًا لها .. لقد وقعت اخيرًا يا مُعلّم.. وقعت في كمينك الليلي.. اي كمين هذا؟
***
قصة: ناجي ظاهر