نصوص أدبية
ناجي ظاهر: ضمامة جوري

أحبّته جميلة الخازن كما لم تحب امرأة رجلًا، أحبت فيه طموحه وتطلعه إلى الأعالي والمرتفعات الابداعية، أحبت فيه عنفوانه في مواجهة العقبات والعثرات. صحيح أن زوجها الراحل في حرب عام 1982، قبل نحو الاربعين عاما كان رجلًا حقيقيًا، ولا تفوته فائتة، وتشابه معه في العديد من الصفات الرجولية، إلا أنه تفوّق عليه في اشرئبابه نحو المجهول وفي عزمه على ارتياد متاهات واغوار سحيقة في دنيا الامل. حُبّها هذا له جعلها تنتظر يوم الثلاثاء لتلتقي به ولتتبادل معه النظرات والحكايات التي فاتها أن تتبادلها مع زوجها الراحل.. قبل نحو الأربعين عامًا. أما هو الفنّان المبدع صاحب سفينة الحلم والامل الماخرة في عُباب بحرها الوردي، فقد أعجب بها وذكرته بأيامها العذبة، أيام ارتبطت بزوجها وتركته يلوك اطراف الحسرات والندم ويلعن التهجير الذي قذف باهله وبه بالتالي إلى مدينة الأضواء والاحلام الهاربة. في تلك الأيام تمنى أن يرتبط بها، وحلم أيامًا ولياليَ بنظراتها الساحرة وشعرها المسترسل المُسبل وكأنما هو من عالم الف ليلة وليلة إلا أنه قال لنفسه " أنت وين وهي وين؟..". وتمضي السنوات كأنما هي لحظات، ليتابعها.. تتزوّج وتترمل بعد تلك الحرب وليعود للتفكير فيها، غير أن فارق المنبت المريع بينهما جعله دائم الاحجام وأبعد ما يكون عن الاقدام. الأمر الذي دفعه دفعًا إلى عالم الغناء والموسيقى، فأبدع في عالمه هذا أجمل المقطوعات و.. أحلى الأغاني.
هكذا توقفت هي عند حُبّها له في أخريات الأيام، بالضبط كما توقّف هو في حبّه لها منذ اوائلها!!، هي تكتم حبّها لأنها آلت على نفسها أن تكون محافظة على علوّ منبتها الرفيع، كما آلت على نفسها أن تكون وفيّة لذكرى زوجها الراحل، امانة لوعد قديم أبرمته معه، وهو الفنان زين العمر، وهذا هو اسمه الكامل، تشرّب من أيام الحرمان، الحب والعذاب، وبقي رهنها لا يتقدّم خطوة. ومع أنهما كانا يلتقيان كل يوم ثلاثاء، إلا انهما بقيا لسببها من ناحية ولسببه من أخرى، مثل تمثالين واقفين في حديقة مُزهرة غنّاء، كلّ منهما يُحدّق في الآخر ولا يتقدم. ونحن إذا ما تعمّقنا في الامر وتمعّنا في خباياه وخفاياه، فإننا سنلاحظ أن بذور البُعد والإركان إلى عالم الحرمان والعُزلة إنما تمّ بثُّها دائمًا وطوال الوقت بيدها البضّة الرخصة.. في أرضه العطشى لتنبت زهورًا شائكة تُدمي الراح وتُضني القلب.
هي.. وليس سواها مَن اختارت البُعد ونعمت في رحابه الضيّقة. وهي مَن اتخذت قرار الكتمان، كتمان ما أضمره قلبُها وفاضت به روحُها.. خاصة في ليالي الوحدة الطوال. وحتى عندما لفت نظرها موظّف يعمل في دائرة الجمارك، وسهّل عليها كلّ ما واجهها في استيراد هذه اللعبة أو تلك السيّارة، نعم السيارة، انصاعت لأوامر قلبها وعينها.. وابتدأت تبادله النظرات والاشارات الموحية بالقبول، غير أنها ما إن حاول ذلك الموظف المسكين أن يُعبّر لها عمّا أضمره لها من مَعزّة، لا نقول محبّة حفاظًا على نقاوة التعبير والقول في مثل هكذا مواقف، حتى في حالة وقوفها على حافة بداية جديدة بعد بدايتها المعتّقة مع زوجها ذاك، حتى في مثل هكذا حالة فضّلت الانسحاب وانصرفت إلى موظّف آخر، فغي بلدة أخرى بعيدة، تطلب منه ما تحتاج إليه من خدمات..
لقاؤها الأسبوعي المُغلق كلّ يوم ثلاثاء بمن أراد الاقتراب منها طوال أيام العمر ومتاهاتها المتشابكة، كان أحد الأسباب، بل ليكن واضحًا أكثر، كان السبب رقم واحد في رفضها تلك الهدية السماوية التي جادت بها عليها دائرة الجمارك، فرفضتها ونبذتها.. كما تنبذ امرأة عربية أصيلة المحتدّ وسليلة المجد، حُلمًا وفداءً لعينيّ فنّانها الموسيقي المغني زين العمر صاحب الاغنية المشهورة " العيون السود قمرهم ليل..". من أجل عينيه لم تعد ترى أي عينين أخريين، وكانت تعي وتُدرك تمام الادراك أن هناك الف مَن يتمنّاها رغم انها مرت بتجارب، مواقع وأفكار ناف عمرُها على عمر كلّ عمر تقريبًا وزاد بشحطات.. لم تُبعدها عن تلك الصبيّة الفاتنة ذات الشعر الاملس المسترسل.. إلا لتقرّبها منها.
أما هو، زين العمر، فقد دأب على اللقاء بها كلّ يوم ثلاثاء، وكان عندما تطلب منه هذه الإذاعة أو تلك المؤسسة التربوية، أن يقيم احتفالًا تربويًا موسيقيًا غنائيًا يقول لها إنه فاضي الاشغال وحاضر للأعمال كلّ أيام الأسبوع باستثناء يوم الثلاثاء. وعندما كان مَن يسأله يطلب منه أن يُخبره بما يشغله في هذا اليوم بالذات وهو الأشد مناسبة لا قامة الاحتفال، كان يَشعر بحُمرة خفيفة تجتاح وجهه المُغنّي الشيخ المليء شبابًا، ويدير وجهه إلى البعيد.. البعيد مُرسلًا نظرة غامضة.. لا يمكن لأي عبقري تفكيك شفرتها وفهمها. هذه الحُمرة كانت مِن يعض نواحيها، تذكّره بحُمرة مماثلة في وجهها.. هي مُلهمته وسارقة لُبّه.. جميلة الخازن. فكان يحلم بها في غيابها، بالضبط كما كان يفعل خلال لقائه بها.. في يومه الموعود.. يوم الثلاثاء اللعين والمبارك في الآن..
هكذا أمضت جميلة أكثر من عشر سنوات في التفكير فيه وفي أغانيه المُطربة، وأمضى هو زين العمر، مدة مساوية وربما تزيد عليها قليلًا،. وفي حين كان يعذّبه بُعدها عنه.. بنفس قربها منه.. وربّما يزيد، كان ينتظر اللحظة التي ستعترف له بحبها التاريخي له. كان مُدركًا أنه مهما طال الزمن أو قصر، فإنها ستقدّر له حبه الصامت.. مديد العمر.. وسوف تأتي إليه ذات ليلة ليلاء لتعبث بشاربه الفنّان.. الكثّ .. والمُهذّب أيضًا.
مع مُضيّ الوقت وتعاقب السنين ابتدأ فنّان البلاد المُبدع.. العالم الكبير في عالم الموسيقى والغناء.. في الغرق أكثر فأكثر، وهكذا ابتدأ سؤال الحبّ المُلحّ يطرح نفسه بحدة أكثر فأكثر.. وكان ما يزيد في الحاح هذا السؤال هو تيقنه/ زين العمر، مِن انه هي/ جميلة الخازن/ ذاتها، إنما تُحبّه كما لم تُحب امرأة رجلًا في هذه البلاد العاقر، فلماذا هي تتمنّع عليه وقد زالت كلّ نلك العقبات التي اعترضت مَسيل الحُبّ بينهما.. هما الاثنان.. هي وهو.. زاد في هذا السؤال إلحاحًا أن الفنّان.. استيقظ ذات صباح ليجد في باحة بيته وردة تنادي عليه وتسأله حزّر فزّر أي يد مُحبّة القتني هنا في ديارك ورحابك الساحرة. للحقيقة شعر هو أنها إنما ملّت مِن كتمانها المُزمن، وأرادت أن تُصارحه بما خبأته له من محبّة لا تقلّ عن محبته لها.. وجودًا وعنفوانًا، وعندما تحوّلت الوردة في الصباح التالي إلى إضمامة ورد.. كان لا بدّ له.. هو الفنان المبدع.. مِن أن يسهر الليل بعرضه وطوله.. ليتأكّد من أنها هي وليس سواها مَن القى بتلك الورد في ساحة بيته.. في الليلة الثالثة، شعر بحركة دافئة في القرب من باحته.. فاقترب مِن السور المحاذي ليرى معطفَ طيفِ امرأة مديرًا ظهره وموليًا.. حتى لا يراه أحد.. من أهل البيت، يحاول أن يقذف بإضمامة ورد جوريّ أحمر إلى باحة بيته، عندها اعتلى السور.. ليتأكد مَن تكون تلك المرأة وليعلّم عليها إذا كانت هي.. غير أنه لم يتمكن من رؤيتها.. فقد مضت بإضمامة وردِها الرائعة.. عائدة من حيث أتت.
***
ناجي ظاهر