نصوص أدبية

سمرقند الجابري: رشـــــيد

منذ شهور، إنتقل جارنا المزعج الى قير وبئس المصير، وحل بدله رجل أشقر محمرّ، يبني منذ شهور بيته الفخم، متحديا قِدم بيوتنا التي تشبه أحلامنا المتواضعة.

أغدق الجار الجديد على أولاد الحي الحلوى، وعلى كبارها الخراف المذبوحة، أضاء شارعنا المظلم بمصابيح كبيرة، بدل تلك التي كسرها أولادنا وهم يخطئون التهديف على الحمامات، فصار جيبه الدافئ عربون محبة للرائح والغادي.

أما انا، فقد كنت أسترق السمع لدبيب نملهم، أحصيت كل قطعة أثاث دخلت بيتهم، حتى أنني أعرف ستائر غرفة النوم وألوان ثيابهم الشتوية والصيفية، ساعدتني شرفة الدار– برج مراقبتي- في تعزيز معلوماتي المهمة عن الشراشف المنشورة على حبال غسيل كل الجيران، وأعرف محتويات كل كيس خضار لأي رجل عاد في الظهيرة الى بيته،  شاكرة أكياس هذا الزمن النصف شفافة لأنها تعزز شغفي ولا تتعبني في التكهن.

لن أذهب في الشهور الاخيرة الى أبعد من رصد الجار الجديد، فغنيّ الحي ـ لا فقيره ـ يغويني، زوج أشقر وامرأته الحسناء، لا أطفال لهم، وأرجوحة قد يكون القمر نسج فضتها، تلتمع في حديقة غناء، عنادا لحديقة خربة مجدبة يحويها بيتي.

لي أن أراقب الغزالة الجبلية التي حطت على حين غرة قربي، تتبضع من الرجل المخبول ذاته، غير أنها لا تتذمر من دكانه العفن، وتظّل تطلق كلمات كالسكر، كي يملأ صندوق سيارتها بخير ما نزلت به فاكهة الموسم، تاركة خلفها جيوش العطر تمزق أكفان رائحة النساء المزدحمات بتولِّـه، مراقبات بصمت مثلي بين مغتاظة ومندهشة.

لماذا تذكرنا بأن علينا أن نعيد علاقتنا بالمرآة وبالألوان، وبحسن إخراج الكلمات من أفواه ما اعتادت غير الأكل وإطلاق الشتائم؟

أمواج بحري المتطفل لا تكف عن التلاطم عندما ياتي المساء وأصعد سطح داري، لأمد النظر الى باحة منزلهم، يأتي لأذني صوت أنين رجل في الاربعين كان اسمه (رشيد)، علمت انه شقيق الرجل الأشقر، بدين مثل فيل هندي، يبكي عند الغروب أمه، مُلقيا لعناته عليهم لأنهم قتلوها غرقا طمعا في الإرث، كان أولادي يرمونه بالحجارة ويفرون ضاحكين، غير أنه لا يكترث بأي شيء عدا مخاطبة روح ما بحزن يغرس المسامير في قلبي المكلوم كلما سمعته.

كان يأكل بشراهة كل ما تقدمه الحسناء الجبلية، أما علاقته بأخيه، فكانت كصراع ذئبين على أرنب في الغابة.

بعد شهور بنى الأشقر لأخيه المأزوم غرفة في أقصى الحديقة، وأثثها بأشياء وضيعة، كان يرمي له طعام الكلب تاركا إياه يغص بفضلاته، حتى أن اولادي بدؤوا يرمون له من سطح الدار، الخبز وأنصاف الفاكهة، بدل الحجارة!

نسيت غيرتي من حليِّ الجارة ولون شعرها وأسماء عطورها، صار شاغلي الثروة المغموسة بالدم وآلام الرجل البدين، كان عزائي أن الله لعن الأشقر بحرمانه من الذرية!

تركت برج مراقبتي للريح، يلاحقني تأنيب ضميري، فأنا ما رأيت رشيد قرب أفران الصمون دافعا الأرغفة في فمه بشراهة حتى شعرت برغبة لآخذه بين أحضاني، او تخيلت نفسي أحمّمه بالصابون أو غسل ثيابه، واحترت ماذا أعدّ له من طعام فهو لا يجيب على أحد ولا يردد غير:

-" وينك يمه جوعان، راح أموت من الجوع يا يمه تعالي ".

ذات ليلة ماطرة، حلمتُ بامرأة جميلة مبللة تقول لي:

-" أوصيك بولدي رشيد خيرا، فهو يحب البطاطا المقلية.

***

سمرقند الجابري/ العراق

.....................

* من مجموعتي القصصية (علب كبريت)

في نصوص اليوم