نصوص أدبية

محمد الدرقاوي: أعماقه بركان هادر!

كانت تحاول أن تحرك لسانه فيتكلم، يحكي، أن يستفرغ ولو قليلا مما يكتم ..

تسأله وكأنها تستشيره في بعض أمورها أو أمور تمس مستقبلها معه حتى لا تحسسه بحرج مما عنه يتكتم .يحاول ثم يتراجع، يطبق شفتيه، يتنهد بغصة حارقة..صمته لا يزيدها منه الا خوفا ..

تعلقت به لأناقته ولباقته، مظهره الذي يعكس أكثر من ميزة كأنه يتعمد إخفاءها رغم أن كلماته القليلات منه كثيرا ما كانت تفضح جذورا أصيلة، ثقافة ووعيا ..

تتعمد أن تشجعه على أن يلمس يدها، أن يبقي على احتضان كفها بين يديه، دون أن تسحبها أو تبدي اقل معارضة، كانت تلاحظ نوعا من غيبوبة تسرقه عنها كلما لمسها، تستغرقه دقائق وكأنها ترحل به بعيدا عنها، عن كل ما يحيطه ويجمعها به، يضغط على يدها كأنه يتأكد من وجودها المتفاعل معه، إذ يخشى أن يفتح عينيه فلا يجدها أوعنه تتحول الى غير ما يعرفه عنها ومنه قد تأكد ..

مرة وقد التصقت عيونه بوجهها تفجرت مقلتاه دمعات ساحت على خديه، غمرتها فرحة داخلية تكتمت عنها حتى لا تشعره بحرج قد يثنيه عن الكلام ..

سألها : "ألا تجدينني ثقيل الظل ؟.."

بسرعة ردت : ابدا، أحترم صمتك وأعلم أن في أعماقك تجيش مشاعر حب نحوي تكفيني لأحضنك ومنها أستمد سعادتي .. منذ نظرتي الأولى اليك أحسست رغبة قوية لان أرتبط بك صديق عمل ثم مع الأيام صرت محور تفكيري، حبيبا بلا اعتراض اوتوجس من غد ..إنسان صادق في إنسانيته لاتنقصه الا بسمات تمحوهذا الحزن الدفين ألذي يطل خوفا مؤثرا من هذا الوجه الذي أحب ..

ـ أخشى ألا أستطيع ترتيب أفكاري، بالدقة التي تمنح حبيبتي الصبر على متابعتي، لذا فالصمت كان افضلية مني تبقى على اسراري، أما وقد أدركت رغبتك فقد عولت على الكلام ..

ـ يكفيني هذا الإحساس الذي يغمرني كلما وجدت نفسي معك، أنا لك بحقيقة أناي بكل قيمها ومبادئها الإنسانية ..

تقولها وأعماقها تتحرق لهفة لأن تسمعه، ماذا عنها يخفي و أعماقه بسرعة تتحول الى بركان حارق هادر يقاوم شرارات غضبه حتى لا تتأثر بها وعنه قد تبتعد ..

مرة أخرى تكويه دموعه على خده، يستل منديلا من جيبه وينشف به خده ..

تتابعه بقلق تتعمد أن تخفيه، حتى لا يتبدى الحاحا ورغبة فضول على وجهها ..

ـ "كان عمري عشر سنوات حين ماتت أمي وتركتني وحيدا مع أبي تخدمنا امرأة شابة كنت أناديها خالتي متوهما أنها كانت أخت أمي..

خالتي أبعدت عني كل ما يمكن أن يخلفه موت أم في طفل صغير، تغلبت على أحداث جسيمة، عميقة بقدرة صلبة تفل الحديد.. فالبيت هو البيت كما كان في وجود أمي التي لم تكن تتحرك فيه الا وهي تستعد للاستحمام أو في مناسبات تقام في بيتنا، فكسل أمي الذي فاجأ الجميع كان قد اورتها سمنة فاقت الحد، يعشقها أبي أو هكذا كان يتخيل لي أو يمثله في حضوري؛ كانت خالتي هي ربة البيت الحقيقية، أصغر من أمي وان لم تكن اقل منها جمالا ، أملود لينة تستطيع أن تخضع لرغباتها جميع من تتعامل معهم، بدلع طفولي أحيانا كأنها أحد أترابي أو اقل، أوعبر عيون واسعة ناعسة تنومها في اثارة لا ادري ان كانت بها واعية أوغير واعية، تمارسها مع أبي كما معي ومع أي ممن يأتي لبيتنا، كانت تلبي رغباتنا في البيت بسرعة وبسمات حب وإرادة لم نتعودها من أمي حتى قبل أن تسمن وتلازم سريرها ، كل ذلك في حرص على ألا يطلع على حقيقتها أي كان من افراد عائلتنا، قليلة الكلام لا ترد الا بمقدار السؤال، ولعل ذلك ما جعلها حاضرة البديهة بصفاء لايمكن أن يكشف دواخلها الحقيقية كما أن السحر الذي في عيونها هو ما تعوض به لسانها، فهي لا تنم أحدا أو تسمح أن يذكر أحد في حضورها بنميمة أو تتدخل فيما ليس مخططا في عقلها او تبدي تهافتا لكل ما قد يحقق لها منفعة وفائدة .. هكذا كانت تظهر لي أو تجاهد النفس لتبدو كذلك، سياسة لمواقفها الشخصية لتحقيق أغراض بكفاءة جبارة ..

أحيانا كانت الغيرة من سلوكها كاستحواذية على أبي تثير حولها اقاويل عائلية لكنها كانت لا تبالي ولا تشغل نفسها برد أو عداوة :

ـ "تظل الأقوال في فم القوالين كلمات واهية هم أول من يتلطخ بها "

كانت لأمي غرفة نوم تستغلها بمفردها ولأبي أخرى قريبة منها ليس بينهما غير جدارفاصل، غرفة نومي تقابل الغرفتين وجميع الغرف في الطابق الفوقي، كل غرفة لها حمامها الخاص بها، لكن كثيرا ما كنت أنهض صباحا فاجد أبي يستحم في أحد حمامات الطابق السفلي حيث غرفة نوم خالتي .. لم أكن يومها أدرك أن غيثة خالتي هي عشيقة لأبي، أشياء لم أكن أدركها بل لم تكن تخطر على بالي خصوصا وأن معاملة غيثة لامي هي معاملة حب وأخوة وحرص من خالتي أن تكون أمي سعيدة لا تقنط من حالتها ولا تسأم، وحرص من أمي أن تكون خالتي راضية بوجودها بيننا تتصرف وكأنها ربة بيت تنازلت لها أمي عن كل ما قد يغير نظام البيت، طقوسه وعاداته اليومية خصوصا أمام كل زائر من أفراد عائلتنا.."

يصمت ثم يتنفس بقوة كأنه يزفر ما يريد أن يتابع قوله، أو أنه يرتب أفكارا تتزاحم على عقله، أو ربما يختارمن بين ما يتداحس عليه من أفكار ما لا قد يثيرني أو يوقظ تساؤلات هو في غنى عن الرد عليها ..

ـ"كلما ازدادت أمي سمنة توثقت علاقة أبي بغيثة حتى أنهما ماعادا يشعران بحرج أن أضبطهما في أوضاع كثيرا ما ابكتني، لكن غيثة بقوة شخصيتها وديبلوماسيتها كانت تمحو كل أثر قد يجعلني افضح أمرهما لأمي ..

ـ حبيبي صالح، ربما لا تعرف اني وابوك متزوجان بعقد ورغبة من أمك التي كانت تصر على ألا يصلك خبر خشية على مشاعرك الطفولية، لذا ارجو حبيبي لاداعي لاخبار أمك بما رأيت..

" كنت أثق بأقوالها، أصدق كل ما تصبه في أسماعي وياتيني هدايا من أبي يغدقها علي من أموال لم تكن له وانما هي مما استحوذ عليه من أمي بمساعدة خالتي غيثة وإمضاءات مزورة لا ادري كيف كانت خالتي تغري أمي بتوقيعها ...

تموت أمي بعد عملية جراحية لشفط الشحوم أصرعليها أبي بإيعاز من خالتي، رغم شكوك الطبيب الذي كان يخشى على قلبها ...

وثائق كثيرة وقعتها أمي ليلة العملية بإغراء من خالتي والتي على إثرها وجدت نفسي بلا أم ولا عائلة، غصن مقطوع من شجرة، طفل لقيط ولد تني رذيلة من مجهولين، لا اصل ولا فصل، جنين في سلة قمامة أتى بي أبي الى البيت بعد يأس من قدرته على الخلفة، ورغم وجودي في دفتر الحالة المدنية أحمل نسب أبي فما تركته أمي موقعا بيدها كان الحجة القاطعة أني منذ اليوم الأول لوفاة أمي صرت نغلا بلا اصل ، وحدها خالتي غيثة تحمل عبء أمي حملها لكل ثروتها ..

ضمني أبي الى صدره وقال : لا شيء سيتغير أنت ابني وذي خالتك هي أمك، في خيرها كنا نعيش وسنعيش ..

حين خلت بي خالتي توهمت ضغطات عناقها ودمعاتها التمساحية حبا يحتويني ويعوضني أمومة عشتها سرابا وهميا من وضعي الذي فاجأني باكتشاف..

بعد خمس سنوات من موت أمي صار بيتنا يغلي بخصومات بين أبي وخالتي، كراهية تسير بينهما كدلال حقد وتنابز يجهدان النفس على ألا يصلني ..

سألت خالتي عن السبب ولماذا تغير حالهما من حب وتوادد الى كراهية حيث استقل ابي بغرفة أمي وعادت خالتي الى غرفتها في الطابق السفلي ؟

لأول مرة أرى خالتي في صورة لم أكن لأتخيلها ابدا أو تخطر ولو في حلم على بالي : عيون قدت من جمرولسان يرمي بشرر بدئء :

ـ اهتم بنفسك ولا تتدخل في ما لا يعنيك أو ألحقك بها ..

انكتمت بل أخرسني وجهها الذي بدا شيطانا وعيناها سماء رمادية تحلق داخلهما النسور .. رعب مفزع يساورني في يقظة ومنام ..

حتى أبي صار لا يحرك ساكنا في حضورها، وما كنت أستغرب له أنه صار يسمن كما سمنت أمي يتركن زاوية في البيت لا يتحرك منها الا بمساعدة خادمة أتت بها غيثة لتلبي مطالبه الضرورية لان منظره صار مقرفا وكما سمعتها تقول لخادمتها يوما :

ـ افعلي به ما تشائين ماعاد يصلح لعادة ولا لعبادة وعيناي لا تحتملان الوقوع عليه .، وليس لي وقت لذلك .

صارت تقضي يومها بين فنادق حمامات التجميل والسباحة وزيارات الصويحبات ..ومولات التقليعات الحديثة ..

حين أرادت يوما أن تصالحني أتى سلوكها مخجلا لا يليق بها كأنثى ربتني وعاملتها معاملة أمي ..انسحبت فارا الى غرفتي ابكي طفولتي التي انكسرت في لحظة وعي بوجود ما كنت أدري حقيقته من زيفه، وشبابي الذي تعاظمت فيه غربتي وقد صممت أن أعالج قهري بالصمت لان لا احد صار يستحق أن يعرف حقيقتي الى أن تعرفت عليك كأنثى تشاركني مكتب عملي، وفي نفسي تقذف صورا رائعة عن أنثى لم أعرفها في بيتي ولا في معاهدي الدراسية

يموت أبي بما ماتت به أمي سمنة مفرطة والمتهم بقتله أنا ..

ادعت غيثة أني مذ عرفت حقيقتي وأنا أحمل له حقدا، من أجل ذلك تم حبسي على ذمة التحقيق الى أن كشفت الأبحاَث الحقنة التي سببت سمنة أمي ثم أبي من بعدها وموتهما ..

صمت وكأن منه الصوت قد غار و ضاع، شرعت أصابعه تتحرك بعصبية وأنفاسه كأنها كير حداد تنفخ صدره فطواه ألم جعلني ابادر باستدعاء سيارة إسعاف ..

يومان قضاهما في عيادة لم افارقه فيهما وهو ما كشف علاقتي به بين أمي وأبي، كانت تمهيدا لأن يتقدم الى خطبتي وأن يعرف أبي حقيقته فيتبناها كمحامي استطاع أن يكشف سر خالته كخادمة لا تربطها بأبيه أية رابطة موثقة، تمكنت بذكاء أن تلعب دورا في حياته وأن تقتل أمه بتأييد من أبيه ثم تستولي على أبيه لتنفرد بثروة خططت لها وكان زوجي نفسه في الطريق ..

***

محمد الدرقاوي ـ المغرب 

في نصوص اليوم