شهادات ومذكرات

علي حسين: في ذكرى رحيلة.. ماذا قرأت لجون شتاينبك؟

نصحه أصدقاؤه بمغادرة نيويورك، فالناس ثائرة وتريد أن تحرق روايته "عناقيد الغضب" أمام باب بيته، فيما حذّره صديق من محاولة اغتيال يدبرها له عدد من ملاك الأرضي الزراعية لأنه بالغ في فضح تعسفهم، حيث كان وصفه مؤلماً لأحوال الفلاحين. فكر أن يذهب للعيش في كوخه القديم المليء بالحشرات لكي يشحذ موهبته من جديد ضد المستغِلين، سيعود من جديد الى حياة الفقر، ويتذكر إنه كان يتسلم مبلغاً شهرياً من أبيه رجل الأعمال لكي ينفق على أسرته. ولهذا ظل يفضل العيش برفقة المتشردين والعمال. كان في العشرين من عمره عندما جلس امام الآلة الكاتبة، وقال ممازحاً أحد أصدقائه إنه سيكتب رواية تجلب له الذهب. بعد فترة سينهي  كتابه الأول، وحفّزته والدته التي كانت تقرأ له روايات الفروسية ان يواصل طريق الرواية . يكتب جون شتاينبك تعليقاً على رغبة سكان نيويورك حرق روايته "عناقيد الغضب": "إنهم يرفضون مواجهة الواقع، ولا يريدون أن يدركوا أن هناك نوعاً من البشر وقع عليه ظلم كبير بسبب الجشع وحب المال" .

جون أرنست شتاينبك المولود في السابع والعشرين من شباط عام 1902 في مدينة مونتري في كاليفورنيا، المدينة التي ظلت صورتها ترافقه وهو يكتب اعماله الادبية، مما جعلها الخلفية لكل رواياته، كان الابن الوحيد في العائلة مع ثلاث شقيقات أكبر منه، ولهذا تلقى عناية خاصة من والدته التي كانت تعمل في مجال التعليم، وجد الصغير جون ان مكتبة البيت تمتلأ بروايات ولتر سكوت وجاك لندن ومارك توين، ورحلات جيلفر التي ادهشته، ونجده في واحدة من حواراته يعلق على مطالعاته الاولى، فيتذكر انه قرأ " الجريمة والعقاب " و " مدام بوفاري " وفصول من " الفردوس المفقود " لجون ميلتون، وبعض روايات جورج اليوت:" لقد قرأت هذه جميعها، عندما كنت في مستهل حداثتي " ويضيف::"لا أتذكرها ككتب، بل كأشياء وقعت في حياتي". وتتذكر إحدى شقيقاته أن أخاها كان يقرأ الكتب ثم يأخذ فيما بعد بتمثيلها،، ورغم إنه كان يقضي وقته في القراءة إلا أنه أحب أن يجرب العمل في كل المهن، فمرة نراه عاملاً بالأجرة في أحدى المزارع القريبة من بيته، ومرة مساعداً لموظف البريد، وفي الثانوية أصّر أن يعمل في أحد مصانع السكر، وكثيراً ما كان يناقش زملاءه حول الأشتراكية، لكنه في العام 1925 قرر أن يترك جميع المهن ليصبح كاتباً، فسافر الى نيويورك يجرب حظه، وبعد أربع سنوات يصدر أولى  ورواياته "كأس من ذهب" في آب عام 1929، ولم تكن هذه الرواية محاولة شتاينبك الأولى، فقد جرّب قبلها كتابة ثلاث روايات، إلا إنها الرواية الأولى التي سجلت اسمه في سجل الكتاب الخالدين، وقد كتب شتاينبك بعد  سنوات على صدور" كاس من ذهب "  إنه اعاد كتابتها ست مرات، وكانت في الاصل قصة قصيرة .

في حياة شتاينبك الشاب الكثير من المواقف، يتذكر احد زملائه في مكتب البريد انه اخذه ذات يوم أحد الى الكنيسة، حتى اذا اخذ القس يلقي موعظته، راح شتاينبك يعترض على الخطبة ويقول للقس بصوت واضح " انا لا ارى فائدة في موعظك، علينا ان نطعم اجسادنا اولا، والروح تتدبر شأنها "

في " كأس من ذهب " يروي شتاينبك حكاية الفتى الذي يحلم بالانطلاق في عرض البحر والانضمام الى القراصنة، وعندما يصل إلى الميناء يخدعه صديقه ويبيعه باعتباره عبداً، إلا أن الفتى يصر على تحقيق حلمه، وما أن تحين الفرصة حتى ينضم الى مجموعة من القراصنة يصبح هو زعيمهم، ويطمح بالاستيلاء على مدينة بنما "كأس الذهب" حيث يصبح حاكماً لها وغير اسمه إلى السير هنري مورغان، وعندما سأل شتاينبك عن روايته هذه قال، أردت أن أتخذ من فاوست مصدراً جيداً لروايتي هذه. لكن رغم نجاح " كاس من ذهب إلا ان شتاينبك لم يكن فخورا بها، وكتب في رسالة الى احد النقاد انه كان باستطاعته ان يكتب عملا افضل منها .

عام 1933 يضع شتاينبك رؤوس اقلام لرواية جديدة بعنوان " البحث عن آله مجهول "، لكنه سيؤجل اصدارها بسبب عدم وجود ناشر لها، حيث رفضها عدد من الناشرين، وكان بطل الرواية قد وقع في حب غابة، ويسيطر عليه هذا الحب، ليقتل نفسه في النهاية قربانا للغابة التي احترقت، يكتب شتاينبك الى احد الناشرين:" كان ينبغي ان تكون البحث عن آله مجهول، قطعة مسرحية، أذ انني تصورتها اول ما تصورتها، مسرحية، وكنت افكر بها، واتحدث عنها لعدة سنوات خلت، على انها مسرحية، وبودي ان اعيد كتابتها " وبعد ثلاثة اشهر كتب يقول ان اعادة كتابة " البحث عن آله مجهول ازعجه كثيرا، لسبب ما في الرواية من عيوب، ثم يكتب في احدى رسائله:" ليس لدي نية لمحاولة ترقيعها "، بعدها يعود للرواية من جديد، ليجد نفسه كتب رواية جديدة يشكل فيها بطل الرواية جوزيف علاقة صوفية مع الارض التي يقدم نفسه ضحية من اجل خصوبتها . وبينما كان شتاينبك يبحث عن ناشر لروايته " البحث عن آله مجهول " التي انهى آخر مسوداتها نهاية عام 1933، راح يقرأ ما كتبه النقاد عن روايته مراعي الفردوس " التي صدرت في منتصف العام، يكتب في يومياته:" لقد لحظت ان عدد المراجعين، يشكون انني اعني بمن هم دون الطبيعيين وذوي العلل النفسية من الناس، ولو أن هؤلاء الذين يقال عنهم نقاد، تطلعوا جيدا الى الناس الذين يجاورونهم في الشارع ذاته، لوجدوا انني انما اعني بالطبيعيين والعاديين " – عالم شتاينبك الرحب ..بيتر ليسيكا – في تلك الفترة بدأ بكتابة روايته " تورتيلا فلات " التي نشرت عام 1935 وفيها يصف حياة الفلاحين، بكل ما تحمله هذه الحياة من مباهج وعذابات، وآمال وآلام، وقد عدت هذه الرواية اول انجاز روائي حقيقي لشتاينبك . تدور احداث " نورتيلا فلات " حول هزيمة الانسان الفوضوي الذي لا يخضع لقانون الحياة ونظامها . عام 1937 ينشر شتاينبك روايته " الفئران والرجال  " والتي تدور حول حياة اثنين من فلاحي الارض، وقد جلبت هذه الرواية لشتاينبك الشهرة والمال، حيث حولت الى فيلم سينمائي حاز على اعجاب المشاهدين، فيما اصبحت ضمن الاعمال المسرحية التي تقدم على مسارح برودواي، كانت نية شتاينبك ان يكتب مسرحية للقراءة وليست للتمثيل، لكنه وجد ان الاحداث تدفع به الى ان يحولها الى رواية .في نهاية عام 1937 حصل شتاينبك على جائزة النقاد المسرحية بعد ا قام باعداد مسرحي لروايته " الفئران والرجال " .وقد كان قرارا اللجنة يشير الى ان شتاينبك استطاع ان يقدم عالما قوي التاثير، وعالج موضوعا ذي جذور في الحياة الامريكية .وقد انفق شتاينبك مبلغ الجائزة بشراء سيارة حديثة انطلق بها الى مزارع اوكلاهوما، ليلتحق بمجموعة من العمال المهاجرين، يعيش معهم ويكتب عنهم في تحفته الروائية " عناقيد الغضب "، التي تعد واحدة من أفضل ما أنتجه الأدب الأميركي في القرن العشرين،

 وبعد نشر الرواية كتب شتاينبك في يومياته إنه استطاع أخيراً أن يكتب العمل الذي كان يطمح إليه طوال حياته، حيث يجد القارئ نفسه بمواجهة رواية تتحدث عن الأوضاع الاجتماعية القاسية للفلاحين . يصور شتاينبك الأحداث كما جرت، ونجده يعتمد على عدد من المقالات الصحفية التي كتبت عن هجرة العمال الى كاليفورنيا.

يكتب في يومياته: "لقد أردت أن أضع لطخة من العار على أبناء الزنا، المسؤولين عن أعوام اليأس". قضى خمسة أشهر متواصلة في كتابتها:"لم أجهد نفسي قط في حياتي ولم أكتب هذا العدد من الصفحات"، واختار لها عنوان عناقيد الغضب لأنه يشير الى الحالة الثورية، وفي 26 أيلول عام 1938، يضع كلمة النهاية بأحرف كبيرة، ثم كتب في يومياته"انتهى هذا اليوم وآمل من الله أن يكون جيداً".

خرجت"عناقيد الغضب"من المطبعة في 14 نيسان 1939، لتتحول الى الرواية الاميركية الأكثر قراءة وشهرة والأكثر إثارة للجدل،  تمت مناقشتها في الراديو، كما هاجمها القراء الغاضبون، بل إنها منعت من قبل بعض المكتبات، ورابطة الفلاحين في كاليفورنيا، كانت ضدها أيضاً وقالت إنها"حزمة من الأكاذيب"، لكن الرواية لقيت الترحاب من قبل الروائية الشهيرة بيرل باك، مؤلفة"الأرض الطيبة"التي خاضت معارك في الصحافة للدفاع عن شتاينبك. بيعَ من " عناقيد الغضب "  نصف مليون نسخة في سنتها الأولى، وفي العام 1940 نالت الرواية جائزة البوليتزر وتم تعميم قراءتها في المدارس والمعاهد والكليات في كافة أرجاء الولايات المتحدة الأميركية، وعندما منح شتاينبك"جائزة نوبل"للأدب عام 1962، أعلنت اللجنة"إن عناقيد الغضب عمل كبير".

يضع النقاد رواية " عناقيد الغضب " جنبا الى جنب رواية هارييت ستو " كوخ العم توم "، فقد نادت هرييت ستاو بالغاء نظام الرق لانه نظام فاسد في جوهره، فيما اكد شتاينبك في " عناقيد الغضب " على ضرورة الاصلاح والتغيير وازالة الفوارق بين الطبقات .

نال شتاينبك جائزة نوبل في 1962، تزوج ثلاث مرات وعمل مراسلاً في الحرب العالمية الثانية وتوفي في  في 20 كانون الاول عام 1968 عن ستة وستين عاماً خلال جائحة إنفلونزا  ضربت امريكا آنذاك بمرض تصلب الاوعية . وفقًا لرغباته، تم حرق جثته ودفنها في 4 اذار 1969  في مقبرة  العائلة ، مع والديه وأجداده. وقد كتب إلى طبيبه قبل وفاته بايام أنه يشعر بعمق أنه لن ينجو من موته الجسدي، وأن نهاية حياته البيولوجية كانت النهاية النهائية.

 في الخطبة التي القاها عند استلامه جائزة نوبل قال ان الادب "ولد من الحاجة الانسانية اليه، ولم يتغير إلا بكون الحاجة اليه اكبر". والكاتب اذ يفضح اخطاءنا وفشلنا يضيء احلامنا القاتمة الخطيرة بهدف تحسيننا. فهو اذاً لم يؤمن بقوة بامكان بلوغ الانسان الكمال لا يلتزم الادب ولا ينتمي اليه. فاق ستاينبك من عبء الخيار الانساني فكيف لو كان يعيش اليوم وسط تجارب التناسخ ورسم "خريطة الحياة". قال ان الانسان اغتصب سلطات كثيرة كانت فوق بشرية من قبل. "زعمنا السيادة على حياة وموت الكائنات الحية والعالم كله. في الانسان يكمن الخطر والمجد والخيار، وامتحان كماله قريب". ولئن خاف من قوة العلم وبعد الايمان في الكتابة واستوحى الانجيل ليختم: "في النهاية هي الكلمة، والكلمة هي الانسان، والكلمة مع الانسان".

ورغم مرور نصف قرن على رحيل جون شتاينبك، لاتزال رواياته تتمتع بشعبية مدهشة في معظم بلدان العالم، حيث يتم اختيار كتبه على نطاق واسع في صفوف المدارس الانكليزية المتوسطة و الثانوية  فهي سهلة القراءة، و هي أمينة في تصويرها للأمريكيين من الطبقة العاملة، و تدعم القيَم و المباديء الانسانية، حافلة بقيمة الحياة، وقد كتب شتاينبك عن تجربته الروائية:" لقد اتبعت تجربتي في الكتابة مثالا ثابتا لم يتباين تقريبا، لقد كنت انشيء كتابا بمجرد السير في كتابته، وحيث انني احب الكتابة، فانني لم اؤلف كتابين متشابهين " .

استطاع شتاينبك ان يجعل العالم ان يرى امريكا من خلال رواياته، لذلك فالقارئ يتبع ابطاله وشخصياته من خلال صراعهم مع ظروف البيئة، كما لو كان متتبعا لصراع الانسان مع احوال الكون والوجود، ورغم هذا الاتجاه الانساني، إلا ان شتاينبك ختم حياته بموقف اساء اليه كثيرا، فقد دعته وكالة المخابرات الامريكية لزيارة فيتنام عام 1967 لرؤية الجنود الامريكان يخوضون حربا خاسرة ضد الشعب الفيتنامي، كان العالم آنذاك يقف بالضد من هذه الحرب، وقد استقل شتاينبك احدى طائرات سلاح الجو الامريكي لمشاهدة احدى الطلعات الجوية ضد مراكز الفدائيين الفيتناميين، وعاد بعدها ليصف هذا المشهد بالقول:" ان اصابع المقاتل الجوي الامريكي على مفاتيح اسقاط القنابل، كانت مثل اصابع عازف البيانو الماهر الذي يعزف اعظم كونشرتو في العصر الحديث .

كانت آخر الكتابات المنشورة في حياة شتاينبك  هي عبارة عن سلسلة من الرسائل التي أرسلها من الخطوط الأمامية للحرب في فيتنام، وقد صدمت تقارير جون شتاينبك القراء وعائلته  لدرجة أنه لم تتم إعادة طبعها بعد ذلك . حيث شعر محبينه انه خان  المبادئ التي كتب عنها في رواياته، وقد وقفت زوجته بالضد منه، فيما برر شتاينبك الأمر بان  ابنه كان يخوض الحرب هناك، لكن البعض قال ان شتاينبك كان صديقا للرئيس الامريكي ليندون جونسون الذي طلب منه ان  يقدم تقريرا عما كان يحدث في فيتنام، إلا ان شتاينبك ظل مصراً على أنه لم يذهب هناك نيابة عن جونسون . والمثير ان ابن شتاينبك الذي شارك في حرب فيتنام، واجه ابيه اثناء زيارته له في فيتنام بالقول :" ان الحرب كانت خطيئة، ويجب علينا الخروج منها".

***

علي حسين – رئيس تحرير جريدة المدى البغدادية

في المثقف اليوم