اخترنا لكم

عبد القادر بوعرفة: سؤال النهضة في الفكر العربي المعاصر

يعود مصطلح النّهضة إلى العصر الحديث، وهذا التّحديد يضع سؤال النّهضة ضمن بلازما ثقافة خاصة، ونقصد انتمائه إلى ثقافة غربية لصيقة بالموروث الكنسي والمعطى التنويري من ناحية أخرى، مما يجعل تلك الثّقافة في تلك الحقبة من الزّمان تسودها قيَّمُ الثّورة على الموروث وطبيعة التّفكير، والتّمرد على كافة أشكال الاستبداد والطغيان. كان سؤال النّهضة في الغرب مشروعا نظرا للانحطاط والتّخلف الذي عاشته أوروبا منذ سقوط الرومان على حسب المفكر مونتسكيو، حيث أثمر سُؤال النّهضة عن ميلاد مشروع تّنويري نهضوي، أخرج أوروبا من سباتها الحضاري وأدخلها حقل التّاريخ بقوة، ولم يكن فلاسفة التنوير أنفسهم يحلمون به.

يفرض فهم السؤال السّالف في سياقاته الحضارية اعتبار النّهضة مجرد مرحلة من مراحل تطور الإنسان، حتى لا تتحول هي ذاتها إلى ما ضد النّهضة، كما يجب التأكيد أن الانبهار العالمي بالنّهضة الغربية ألبسها في كثير من الأحيان حُللاً أسطورية، وربطها بانتصار العقل على مخلفات الفكر الديني، بيد أن الدّارس لتاريخ النّهضة الأوروبية يكتشف أن من أدخل أوروبا إلى عالم النّهضة هو عصر المغامرة أولاً ثم أنوار العقل ثانيا، ونقصد أن الاكتشافات الجغرافية التي حدثت في القرن السّادس عشر بالخصوص من طرف البحارة البرتغاليين والإسبان هي التي فتحت عيون الغرب على العالم الكبير، إذ جعلت الاقتصاد الأوروبي يعرف ثورة عارمة.

يعكس مصطلح ” النّهضةّ” قصدية إرادية تتعلق بمقاصد الحضارة، وهو فعل يعبر عن وعي متقدم يحاول صاحبه تجاوز حالة أو أزمة ما كالنّكوص أو الأفول أو الانحطاط

وأعتقد شخصيا أن الرّجال الذين صنعوا النّهضة الغربية هم أولئك الرجال الذين سلكوا غمار البحار أمثال كريستوف ومجلان وفاسكو ديغاما وماركو بولو وأمريكو فيسبوتشي …، أما الفلاسفة الذين يُنسب لهم دوما الفضل في ترسيخ قواعد التّنوير وتأسيس عصر الأنوار ما كانوا ليكونوا لولا تلك النتائج العظيمة لتلك المغامرة التّاريخية التي قام بها أولئك الرجال. كانت النّهضة الإسلامية الأولى ذاتها بفعل الفتوحات الإسلامية الكبرى، فلولا الفتوحات ما كنا لنرى المُتكلمة ولا الفلاسفة ولا المُتصوفة، فالمغامرة هي التي أخرجت العرب من القوقعة الصحراوية الممتدة في سَراب الفلاة إلى المَدَنِية والعِمْران المرتبطان بشاهدية الإنسان وعالميته. وفي المقام نفسه، أعتبر أن الفكر الإصلاحي كان أكثر اقترابا من حركة التنوير بفعل الزمن، وكانت الدّعوة إلى التّنوير والتثوير أعمق مما هي عليه اليّوم، فنحن في كثير من المسائل نستحضر الطهطاوي وحمدان خوجة لنبرر الثّورة على الموروث العقيم والدّعوة للأخذ من الغرب.

يعود الغرب اليوم مجددا للثّوة على هيمنة البراديغم، فسؤال الحداثة هو ثورة على مخلفات نتائج النّهضة ذاتها، لم يعد سُؤال النّهضة في الغرب اليّوم يُثير ذلك الانبهار الذي أحدثه زمن عصر الأنوار، بل كثير من الفلاسفة اليّوم ينتقدون فلسفة التّنوير في بعدها الوجودي والميتافيزيقي، لقد خلقت في أذهان مثقفيها آلهة جديدة كالعقل والعلم، وأفسدت علاقة الإنسان مع الطبيعة حيث ربطتها بقضية الصراع. واليوم، بعد مرور أكثر من أربعة قرون يطرح الغرب سؤال الحداثة وما بعد الحداثة، فكيف نطرح في المُقابل سؤال النّهضة؟  ألا يعكس أننا نقر للغرب بأنه متقدم علينا بأربعة قرون؟ وما الغاية أن نعيد طرح مشروع النهضة ونحن في الألفية الثالثة؟

1- تدل لفظة “المشروع” في المتن الفلسفي على استراتيجية مبنية على أسس معرفية وسياسية، فالمشروع هو نزعة بنائية إحيائية ترنو نحو تحقيق تقدم وانتقال من حالة غير مرغوب فيها إلى حالة أفضل، وعليه يعكس المشروع دوما ارتباط الإرادة السياسية بالإرادة العلمية، فالنّهضة كمشروع لا يمكن أن يتجسد إلا إذا جَسد السّياسي ما يفرضه العقل والنظر.

2- يعكس مصطلح ” النّهضةّ” قصدية إرادية تتعلق بمقاصد الحضارة، وهو فعل يعبر عن وعي متقدم يحاول صاحبه تجاوز حالة أو أزمة ما كالنّكوص أو الأفول أو الانحطاط. والنّهضة ليست تنميةً ولا تطويرا ولا تَقَدُماً بل هي ثورةٌ شاملةٌ.

3- يُراد بالمشروع النّهضوي جملةً هو تحقيق القطيعة مع ظاهرة أفول أو سقوط الأمة أو الجماعة، ويتجسد ذلك من خلال وضع رؤية متكاملة مُسيجة بأسئلة ثورية لا بأسئلة تبريرية، ونقصد أن الأسئلة الثورية هي التي تُطرح على صيغة كيف ولما وبما….. بينما الأسئلة التّنفيرية التبريرية هي التي تأتي على شاكلة لماذا تأخرنا وتقدم غيرنا؟

4- لم يعرف التّاريخ الثقافي في الفكر الإسلامي عبر مساره التّاريخي مشروعا نهضويا مؤسسا على وعي فلسفي بل جل ما قُدم هو أقرب إلى ما يُسمى “هاجس نهضة” أو “حلم نهضة” عُبر عنه في قوالب هي أشبه ما تكون بالخواطر أو الرُؤى نصطلح على تسميتها بمقولات في النّهضة. لقد فشلت الإنتليجنسيا في بناء إنسان ما بعد الانحطاط وانعكس هذا الفشل على ظهور الفرد (المستهلك) بدل الإنسان.

نحن اليوم إذا لم نفكر في مشروع متكامل لبناء إنسان فإننا لن نتغير أبدا، فالسياسة لا تحل مشكلة التخلف كما يعتقد الكثير

5- مصطلح “مشروع نهضة” هو محاكاة للمشروع الغربي زمن التّنوير، بيد أن المشروع الغربي استند إلى شروط موضوعية أدت إلى انتصاره تكمن في وضع غايات ومقاصد للمشروع النهضوي وهي: التنوير – الحرية – المواطنة – العدالة. بينما نحن نربط سؤال النّهضة دوما بالعقيدة، وهذا في حد ذاته ضد النّهضة، فمشكلة المسلم ليس مع عقيدته بل مشكلته الأساس مع عالم الأشخاص والأفكار والأشياء كما يري مالك بن نبي.

6- ضرورة وعي سؤال النّهضة في أبعاده الزمانية والمكانية، لأن ما طرحه الأفغاني ومحمد عبده ورشيد رضا يختلف كليا عما نعيشه اليوم في القرن الحادي والعشرين، فسؤال النّهضة اليّوم لا بد أن يحمل حمولة عصره وهموم أبنائه وليس حلم الأسلاف وتصوراتهم. ومن خلال ما سبق، ندرك أننا عندما نتحدث عن شروط النّهضة في القرن الحادي والعشرين نؤكد بأننا لا زلنا نعيش اقتصاد القرن السّادس عشر، ونفكر وفق ثقافة القرن الرابع الهجري، وننظم أنفسنا وفق سياسة المماليك.

أين الخلل في مقولات النهضة الإسلامية؟ هل في محاكاة الغرب دون فهم للشروط والغايات؟ أم لغياب المرجعية الفلسفية المؤسسة للأسئلة النهضة؟ أم لأننا لم نفكر بجدية في أيقونة النّهضة وأقصد الإنسان.؟ تقتضي إشكالية الوجود والمصير في سياقات مقولات النّهضة وأسئلتها وضع فلسفة إحيائية بنائية، تُمكن الأمةَ من وضع أولى خطوات الانبعاث الحضاري، فعندما ندرس الدّورة الحضارية وفق مراحلها الثّلاث، نلاحظ أن كل مرحلة إلا ويُقابلها أنموذج إنساني يختلف عن سابقه. يُبنى المعيار الحضاري على قاعدة تاريخية، تنطلق من فكرة كلما تقدم التّاريخ الإسلامي من نقطة ميلاده (الصفر) ونقصد المدينة المنورة، كلما بدأ الإنسان الشّاهد النموذج الأروع يفقد دوره ومثاله الرائع، ويخرج من مجال التاريخ الحي ويدخل في مجال التاريخ الميت، حتى تحول بفعل التّباعد التّاريخي عن نقطة الصفر إلى كائن بدون كيانات حضارية.

كان الهاجس منذ زمن الفتنة والمحنة ثم النّكسة: كيف يتم بناء إنسان جديد يحمل بعض خصوصيات نموذج إنسان المدينة؟ وكيف يمكن إبداع نماذج إنسانية تُحقق أمل النهضة…؟ وما سمات الإنسان المستقبلي؟ ونحن اليوم إذا لم نفكر في مشروع متكامل لبناء إنسان فإننا لن نتغير أبدا، فالسياسة لا تحل مشكلة التخلف كما يعتقد الكثير، وأغلب القادة والساسة الذين يراهنون على تغيير العالم الإسلامي من خلال العمل السياسي هم مخطئون بالضرورة، فالتغيير الحقيقي هو تغيير الإنسان الكتلة وتحويله إلى إنسان شاهد.

***

عبد القادر بوعرفة - برفيسور بجامعة وهران قسم الفلسفة

عن موقع الجزيرة نيت، يوم: 11/4/2019

 

في المثقف اليوم