شهادات ومذكرات

د. زهير ياسين شليبه: أنا وغائب طعمه فرمان (1-2)

بمناسبة الذكرى الرابعة والثلاثين لرحيل غائب طعمه فرمان

 أبدأ مقالي هذا بتقديم الشكر إلى الأستاذ علاء المفرجي على  مقاله المنشور في المدى بتاريخ 13. 12. 2021 واقتراحه إعادة إصدار كتابي عن غائب طعمه فرمان.

أنا شخصياً لا أحب مضيعة الوقت في التعليق على "كتابات" تتخيّل أموراً لا وجود لها لغرض الإساءة والتشويه، وتشخصن الأمور وتعبر عن ردود أفعال غير موضوعية.

في النصف الأول من الثمانينات سكنتُ في "دار العلماء الشباب" الكائن في شارع دميتري أوليانوفا في موسكو التابع لأكاديمية العلوم السوفييتية حيث درستُ وعملتُ السنة الأخيرة كباحث وفعلاً كتبتُ فيه بحوثي عن باختين وترجمتُ من الروسية مباشرةً بعض مقالاته ونشرتها في ملف باختين الذي أعدته مجلة "المعرفة" الرصينة السورية عام 1985.

وأودُّ هنا أن أوردَ باختصار بعضَ الحقائق المهمة للباحثين في هذا الشان: إني أتممت كتابة اطروحتي عن الراحل غائب ط. فرمان نهاية عام 1983 وناقشتها ودافعت عنها 1984 وأصدرتها بالعربية عام 1996 بدون الاطلاع على أي أطروحة ماجستير أو دكتوراه مكرسة لكاتبنا غائب ط. فرمان صادرة خارج العراق أو داخله رغم بحثنا الدؤوب آنذاك، واستنتجنا عدم وجود أطروحة دكتوراه مكرّسة لأعماله. وهي فترة قطيعة بين الداخل والخارج عانينا منها امتدّت حتى الاحتلال الأميركي للعراق!

كان الراحل غائب ط. فرمان يزورنا وقمتُ بالأمر نفسه كلما دعت الضرورة لذلك في شقته الكائنة في شارع ميكليوخا مَكلايا في موسكو، طبعاً بعد ان أتصل به تلفونياً واتحدث معه أو زوجته المهذّبة والمرحبة دوماً بي.

وكان كعادته متجاوباً مع مزاحي مبتسماً دائمَ السخرية يرحّبُ بي ويتعامل معي ببساطة، وأستعير منه بعض الكتب والروايات العربية والمترجمة مثل "الصخب والعنف" و"موت بائع جوال" اللتين سأتحدث عنهما. وعادة ما كنا نتطرق إلى مختلف الموضوعات. في أحد لقاءاتنا بدأتُ الحديث معه عن "الصخب والعنف"، وطرحتُ عليه موضوع التأثر بالتدريج، وسألته فيما إذا كان فوكنر مهماً بالنسبة إليه، بخاصة بعد أن ذكره لي هو بنفسه و"أقرَّ" بتأثير غوركي وإعجابه بآرثر ميلر، وبالذات نتاجه "موت بائع جوال". وأتذكر أني قلت له، إن "ظلال على النافذة" رواية عائلية مثل "آل بودنبروك"، وإنهما تركزان على العائلة كما هو الحال في "الصخب والعنف"، وإنها تستخدم أسلوب تعدد الأصوات، وتخصصُ فصلاً لكل شخصية مثل رواية "الرجل الذي فقد ظله" بأربعة أجزاء  و"شرق المتوسط"، التي قرأتهما آنذاك ولا يحتاج المرء للكثير من الجهد لمعرفة هذا الأمر وأُشير إليه في الصفحات الثقافية العربية.

وهناك من ذكرَ لي بأن أحد أصدقاء غائب ط. فرمان اقترح عليه مضمون روايته الأخيرة "ظلال على النافذة" عن عائلة بغدادية تتفكك، ومنهم من سمّى الاسم "الحقيقي" لبطلها شامل.

عندها، قالَ لي غائب فرمان باختصار، بأن "أحدهم" لديه الفكرة نفسها، قدمَ إليه ليحاوره عن أدبه، وطلب منه ان يحتفظ بالأمر لنفسه، لأن "الزائر" لا يريد أن يعرف الآخرون بوجوده في موسكو عاصمة الشيوعية درءاً للمشاكل، فتعاطفتُ معه وحفظتُ سرَّ زيارته لموسكو. لا سيما وأن مطاردة السلطات العراقية للشيوعيين والمثقفين العراقيين الديمقراطيين الهاربين من الإرهاب في الثمانينات والاعتداء عليهم، بل قتلهم أحياناً مع الأسف كان في أوجَه حتى في عدن مثل الشهيد الدكتور الأستاذ الجامعي توفيق رشدي من قبل مسؤولين في السفارة العراقية، وصوفيا والاتحاد السوفييتي، هكذا فهمت الموضوعَ من غائب ط. فرمان ونسيت الأمر تماماً متعاطفاً ومتفهماً. مجرد شخص أخبره بذلك وانتهى الأمر، لهذا لم أعرف لا اسمه ولا صفتة، لم أعرف عنه أي شيء.

وإنه ذكر الخبر نفسَه بذات الصيغة: "أحدهم" بشكل عابر، في مقابلة أعددتُها شخصياً له مع باحثي معهد الاستشراق الذي درستُ فيه كما ذكرتُ، وأنا بطبيعتي غير فضولي، ولم أرَ جديداً في الأمر، فلم أعطِه أكثر من حجمه طالما أن غائباً شرحَ الأمر.91 zouheer yasen

زهير ياسين شليبه إلى اليسار مع  الروائي الراحل غائب طعمه فرمان (1926-1990)

الصورة في دار العلماء الشباب في موسكو 1982

وقد نشرتُ هذه المقابلة لأول مرة عام 1985 في مجلة "الهدف" اللبنانية، ورغم أنه عبّر له (أحدهم) عفوياً بشكل "إيجابي" عن فكرة أوجه الشبه بين شخصيات روايته "ظلال على النافذة" و"الصخب والعنف" لفوكنر التي ذكرها له "أحدهم"، لكنه اعتبرها "تعسفيةً" رفضها رفضاً قاطعاً، بل كان مستاءاً منها، وفنّدها من وجهة نظره.

وكان رد فعل الراحل غائب ط. فرمان  إزاء مقارنة الناقد الكبير فاضل ثامر لرواية "النخلة والجيران" ب "زقاق المدق"، ايضاً انفعالياً غاضباً حيث قال باللهجة العراقية وبطريقة وديّةٍ: "شيوعي الله يچرّم!". وقابلني الأستاذ الناقد الرائع فاضل ثامر بابتسامةٍ عندما أخبرته بهذه القصة! وقد كتبتُ عنها مقالاً في مجلة أصدرها الراحل عبد الغني الخليلي في السويد في التسعينات.

وهكذا نسيتُ أمرَ "احدهم" حتى خمّنت بعد سقوط النظام بأكثر من عقد، وبادرتُ شخصياً الكتابة في جريدة "بين النهرين" عام  2018 عن هذه "الحادثة": لقاء غائب ط. فرمان مع "الزائر" الذي أخبرني عنه آنئذ، ونشرَتها "المدى" مؤخراً في الذكرى الرابعة والثلاثين لرحيل فرمان، وفهمتُ مَن هو المقصود هنا، حيث أشرتُ إليه في إحدى الصحف العراقية بعد أكثر من ثلاثة عقود بمناسبة ذكرى رحيل غائب فرمان، بحسن نية، وليس لدي ما أطمح له أو أخفيه ولا أخشى من اي شيء، ولا أي قصد آخرغير التوثيق.

وهكذا فأنا كنتُ سلساً في حواري مع غائب ط. فرمان سواءً في شقته أو في لقائه مع باحثي معهد الاستشراق وبادرتُ بسؤاله عن إمكانية تأثره بوليم فوكنر، بالذات "الصخب والعنف"، التي استعرتها منه كما قلتُ، وقد تكون النسخة نفسها التي لا أزال احتفظ بها عندي، وقد أكون حفزته عندما ذكرتُ له تأثيرها على أسلوب "الرجع البعيد" للراحل فؤاد التكرلي ليتكلم عن "ظلال على النافذة" روايته الأخيرة آنذاك.

بعض هذه الآراء والانطباعات مثل الأسلوب البوليفوني كانت متداولة في الأوساط  والصفحات الثقافية كما أشرت، فهي ليست حكراً على أحد لا سيما بين الدارسين الأكاديميين. بالنسبة لي اعتبرت أن مستوى "ظلال على النافذة" الفني أقل من رواياته السابقة، ولم أكن متحمساً لها أو لمقارنتها ب "الصخب والعنف"، أما تشابه بعض الشخصيات فغير كافٍ وحده لإثبات تأثر الأولى بالثانية. ولهذا لم أقارن هاتين الروايتين.

ومن الجدير بالذكر أن المستشرق فلاديمير شغال، قال لي شخصيا في أحد لقاءاتنا العديدة في معهد الاستشراق حيث كان يعمل: إن غائب ط. فرمان كان يسعى دوماً إلى الاطلاع على الأدب الغربي بالذات لاكتساب الخبرة الفنيّة والتكنيكية، لكنه كاتب واقعي، عكس عبدالملك نوري والتكرلي فهُما كاتبان سايكولوجيان يميلان إلى أساليب الكتّاب الغربيين والروس لأنهما يتعمقان بوصف الذات الشخصية منذ بداية كتاباتهما. وقد ذكر هذه الأفكار في مقدمته لمجموعة قصص عراقية ترجمها بنفسه إلى الروسية "عصيدة وشمس"، صدرت في موسكو عام 1965.

الرأي نفسه سمعته شخصياً من زميلاته المستشرقات المعروفات آنّا دولينينا وأولغا فرولوفا وفاليريا كيربيتشينكو.

وانتقدت الدكتورة ن. خ. سلطانلي في أطروحتها عام 1972 فؤادَ التكرلي لتأثره بالسايكولوجيين، بينما امتدحت زميلتُها ن. عماروفا القصصَ الواقعية في أطروحتها عام 1967، لكنها أشارت إلى ضعف بعضها لابتعادها عن المستوى الفني، وأن بعض الواقعيين يسعون لتحسين مستواهم الفني من خلال اطّلاعهم على الكتّاب الغربيين.

الفكرة نفسها أكدها غائب ط. فرمان عن سبب قرائته لفوكنر رغم عدم استساغته له، وقد أشرت إلى هذه الأفكار في أطروحتي عن غائب ط. فرمان. وهذا أمر طبيعي يمكن ملاحظته في أغلب الآداب الشرقية والأفريقية، وتطرق إليه بعض المستشرقين عند دراستهم لهذه الظاهرة.

وهناك  من رأى أن "ظلال على النافذة" ضعيفة، كما أشرتُ، أما "الرجع البعيد"، التي قرأناها معاً في نفس الوقت،  فقد أعجبَ بها فرمان نفسه وقال لي عنها: "فتح، كشف في الرواية"، فأمرُها آخر، إنها رواية عميقة مكتوبة بلغة سردية فنية متنوعة وثرية يمكن مقارنتها ب"أجواء" الروايات الغربية وفوكنر إلى حدما، بالذات فنيّاً. ولا بدّ من الإشارة هنا أن هذا لا يعني أن الراحل فؤاد التكرلي بالضرورة كان متأثرً به، لا سيّما وأنه يتمتع بثقة عالية بنفسه منذ قصصه الأولى وبالذات "الوجه الآخر" وبلغة روائية متفوقة تميّزه عن مجايليه العراقيين وليست وليدة  الثمانينات فحسب، بل قبل ذلك.

طريقة السرد واللغة التحليلية عند الراحل فؤاد التكرلي فنيّه وعميقة يمكن مقارنتها بالكتّاب الأوروبيين، لكنها ليست غامضة أو معقدة كما هو حال "الصخب والعنف" التي تحتاج إلى تركيز مضاعف لفهمها أكثر من دوستوييفسكي الذي أعجب فوكنر نفسه  به أشد الإعجاب ولم يخفِ التأثر به. 

ما تعلمناه في دراساتنا الأكاديمية المقارنة آنذاك هو أن التأثر الحقيقي لنتاج ما بعمل آخر يحتاج إلى إثبات أكاديمي من خلال تحليل النص وإدراك مغزاه الأدبي، ولا يكفي تشابه الشخصيات الطفيف لأنه يحدث بسبب تشابه الظروف الموضوعية لمكان السرد وأحداثه، بل إنه أحياناً يُعدُّ تبسيطا ًإذا لم يتم تحليله وفلسفته. يكفي أن نذكرَ هنا على سبيل المثال لا الحصر تشابه بعض مفاهيم تولستوي والمعري. وقد رفضَ التكرلي فكرة تأثره بفوكنر ودحضها، وحدّثني شخصياً أكثر من مرة عن هذا الأمر أثناء وجودي معه في دمشق، لا سيما وأنه كتب بأسلوبه الفني الخاص به منذ بداياته الأولى، قد يكون قبل اطّلاعه عليه (فوكنر) على الأقل بالعربية.

نفى غائب ط. فرمان تأثره بفوكنر رغم ردَّ فعله التلقائي الذي قد يبدو"إيجابياً" قليلاً لبساطته وطيبته على طريقته الخاصة به لمجرد فكرة مقارنته بكاتب عالمي، لكنه رفضها رفضاً قاطعاً معتبراً إياها "تعسّفيّةً" في لقائه مع باحثي معهد الاستشراق في موسكو وفنّدها، وقال إنه لم يستسغ أعمال فوكنر كلها، وبالذات "الصخب والعنف" التي قرأها بالإنجليزية قبل ترجمتها إلى العربية، وذكر لي فيما بعد أنه أعجب قليلاً بروايته "ضوء في أغسطس".

وأقولُ هنا إن قراءة رواية معقدة مثل "الصخب والعنف" وفهمها بلغتها الأصلية الإنجليزية الأميركية، وبالذات بلهجة الجنوب تتطلب إتقانها والتمكن منها والتعامل بها باستمرار، مما لم يكن متوفراً تماماً لدى غائب فرمان وبعض الكتّاب العراقيين كما اتصور، ولا حتى لدى قسم كبير من العرب المقيمين في بريطانيا واميركا، بمن فيهم بعض الدارسين الذين لم يأتوا للدراسة في هذين البلدين منذ صغرهم، أو في وقت مبكر من حياتهم بحيث يسهل عليهم التمكن من اللغة الإنجليزية وإتقانها والأدبية بخاصةٍ.

الأميركان أنفسهم أيضاً عانوا من صعوبة "الصخب والعنف" واقترحوا على كاتبها طباعتها بألوان مختلفة لكي يسهلوا فهمها على القراء، لكن فوكنر رفض ذلك، وقامت دور النشر بهذا الأمر عام 2012. ويكفي أن نقرأ عن تحديّات ترجمتها إلى اللغات الأخرى لندرك أهمية هذه الفكرة.

لا بُدّ من فهم العمل واستيعابه من قبل المبدع وترسخه في ذهنه وعقله الباطني قبل أن يتأثربه حقاً به. وإن ترجمة كتاب مثل "الصخب والعنف" إلى العربية لا يمكن أن يتم بدون فقدان الكثير من جمالية لغته وبالذات لهجة الجنوب ومفردات الزنوج وفئات المجتمع الأخرى.

لهذه الأسباب اكتفيتُ في اطروحتي عن غائب ط. فرمان بإشارة مقتضبة للغاية إلى تأثره تكنيكياً بأسلوب البوليفونيا في "خمسة أصوات" و"ظلال على النافذة" حيث كرّسَ لكل بطل فصلاً خاصاً به يتحدث عن نفسه، (أنظر:ص 268  من كتابي: غائب طعمه فرمان. دراسة نقدية مقارنه، دار الكنوز الأدبية 1996 بيروت).

غائب ط. فرمان نفسه قال لي شخصيا وفي معهد الاستشراق: إنه قرأ فوكنر للاطلاع على أعماله وأسلوبه وتكنيكه فهي فكرة لم يرفضها غائب، وهذا أيضاً انطباعي وذُكرت في الصحافة الأدبية أحياناً، فأنا لم "أصادرها" من أي شخص، ولم أركز على مقارنة "ظلال على النافذة" ب "الصخب والعنف"، أو تأثرها بها لمجرد تشابه بعض شخصياتها.

أنا شخصياً لم أرغب التعمق بمقارنة هاتين الروايتين، أولاً لأن "ظلال على النافذة" بعيدة فنيًا عن "الصخب"، ثانيا لأنها لا تدخل بالتأثير والتأثر هنا، بل "بتشابه نماذج" بسبب الموضوعة والبيئة والظروف الإجتماعية والمجتمعية والخ.

وأقول هنا أيضاً: إني أصلاً لم أتناول هذه المقارنات لعدم قناعتي التامة بها بسبب الفرق الكبير بين أسلوبَي الكاتبين ولغتهما وطريقة تقديم الشخصيات ووصفها وبناء الحدث والزمان والمكان.

لكني قارنتُ نتاجات فرمان الأولى ببعض كتابات غوركي ورواية "فونتومارا" لمؤلفها الإيطالي إينازيو سيلوني و"موت بائع جوال" لآرثر ميلر، ليس "المقارنة من أجل المقارنة" بأي ثمن، بل بناءًا على أساس فلسفة المغزى الفني والأفكار.

وأجد نفسي هنا مضطراً أيضاً للتنويه مرة أخرى عن كتابي المكرّس لغائب ط. فرمان  الصادر عن دار الكنوز الأدبية عام 1996 بأنه 319 صفحة، ولا يتضمن أكثر من حوار واحد مع الراحل فرمان.

وقد يكون هنا من المفيد الإشارة إلى كتاب الفنان والصحفي الدكتور الراحل أحمد النعمان غائب ط. فرمان، إصدار دار المدى، يضم عدة مقالات لي، وأني تعاونت معه وزودته بكل ما يفيده، علماً انه كتب عن أطروحتي بعد مناقشتها مقالاً في جريدة "الوطن" الكويتية  عام 1984 بعد أن اطلع عليها كلّها.

لو كنت قرأت كتابا أو مقالاً عن فرمان لأشرتُ إليه واستخدمته كمصدر في أطروحتي، ولا أرى اي ضرر في ذلك، بل العكس صحيح.

***

د. زهير ياسين شليبه

بتاريخ 17 آب أغسطس

 

في المثقف اليوم