شهادات ومذكرات
معمر بن علي التوبي في ذكرى وفاته.. صادق جواد كما عرفته
مرّت ثلاثة أعوام على رحيل المفكّر والدبلوماسي العُماني صادق جواد الذي لم يغبْ ذكره عن خاطري رغم قصر المدة التي عرفته فيها شخصيا وجالسته، وإن كان من فضل -بعد الله- يعود إلى تعرّفي هذه الشخصية فذلك يعود إلى الأستاذ بدر العبري الذي أهديتُ بواسطته صادقَ جواد نسخا من كتبي؛ لينقل العبري -بعد فترة زمنية قصيرة- إعجابَ صادق جواد واستحسانه الكتب، ويطلب رؤيتي والحديث معي؛ فلبيّتُ الدعوةَ مسرورا؛ لأسجّلَ لقائي الأول مع صادق جواد بمعيّة الأستاذ بدر العبري في شقته المكتنزة بفنون العلم وكتبها، وما إن دخلت شعرت للوهلة الأولى بسكون داخلي يعتري وجداني الذي استشعر نبضات المعرفة الممزوجة بحكمة الفلسفة وتصوفها العميق؛ فحُسْنُ الاستقبال وحفاوته البادية على وجنات الرجل أذابت كل ما يمكن أن يقلّص عنصر الامتزاج المعرفي، وهذا ما أيقظ عيني ودفعها كاسرةً قواعد العرف لتأخذ لمحةً سريعة لمحتويات المكان الذي يترجم سرَّ هذه الشخصية ونبوغها. لم تكن هناك افتتاحيّات تمهيدية مستهلكة للوقت بل كان الولوج مباشرة إلى حديث المعرفة وتفرعاته اللامحدودة؛ لأكتشفَ رجلا ملمًّا بأصول المعارف ومفاصلها؛ فيحدّثني تارة ويناقشني عن مدخلات فلسفية يستجلب الفيزياء لتأويلها؛ فيفيضُ حديثًا عن الزمن ونسبيته بين فلسفة كانط وفيزياء نيوتن وأينشتاين وهوكينج، ويستحضر سردًا في مسالك الرياضيات التي لا يُحتمل انفصالها عن ماهية الفيزياء وتفسيراته، وينتقل تارة أخرى -متحكما في سريان هيمنة الفيزياء وفلسفتها دون قطيعة تغيّب وجودهما- إلى حديثٍ -لا ينفصل مضمونه عن سابقه- في اللغة والدين والسياسة والتاريخ؛ فيردد أبيات الشعر وآيات القرآن ومرويات السنة النبوية؛ فيبحر في بحار اللغة والأدب متجاوزا ما يمكن للمستمع أن يدرك عمقه وتأصيله الذي يصله بالعلم والفلسفة؛ ليجد نفسه أمام موسوعي ألمعّي يجيد فن العلم والحكمة لا يُظهر جواهرها إلا بلغة ترتفع ببلاغتها وعذوبة ألفاظها وخلوّها من اللحن. دُهشت بكنوز مكتبته المعرفية التي تحوي كتبا نادرة في اللغة العربية والإنجليزية والألمانية تتنوع فيها مشارب المعرفة وفنونها؛ فهناك كتب الأدب والسياسة والتاريخ والأديان والفيزياء والرياضيات.
تكررت الزيارات وزادت الألفة؛ لتميطَ لثامَ جوهر صادق جواد؛ فأراه مفكرا غارقا في بحور من الأفكار التي تتجاوز المألوف، ووافق ذلك كثيرَ ما كتبت عنه خصوصا في كتابي "بين العلم والإيمان"؛ حيث ناقشت موضوع الوعي الذي يتجاوز مفهومه البيولوجي حسب تقاليد المدرسة المادية؛ فيتداخل مع مفاهيم لا مادية لا يملك العلم أدواته الكافية لفهمها عدا بواسطة بعض المقاربات التي تسكن فيزياء الكوانتم وعوالمه تحت الذرية؛ ففي زيارة قام بها صادق جواد بصحبة العبري فترة العيد إلى منزلنا في محافظة الداخلية -كان آخر لقاء يجمعني بصادق جواد قبل سفره إلى الهند ووفاته- التحم بصرُ صادق جواد وبصيرتُه بمشهد أشجار النخيل المطلّة من جنبات مجلسنا؛ فأقبل متأملا في حركات النخيل وتراقصها مع نسمات الرياح، وتذكّر ما يمكن لهذه الأشجار أن تملكه من وعي يتجاوز مدارك فهمنا وشعورنا بوجوده؛ فنحن نسكن في عرصات وعينا الإنساني الذي وإن اتسع حيّزه الإنساني إلا أنه يضيق إدراكه بما يتجاوز حدوده الإنسانية الذي يكون أقصاه -في بعض الحالات- شعور بعضنا بوجود وعي الكائنات الأخرى من الحيوانات غير العاقلة، وهنا ألفت الأذهان إلى معنى الوعي المقصود -حسب التصور المبني على بعض المقاربات العلمية- الذي لا ينتفي وجوده من أيّ كائن موجود من أصغر مكنونات الذرات إلى الإنسان أرقى الكائنات وأذكاها -وليس أعقلها؛ كون الإنسان العاقل الوحيد-، ولكن يكون الاختلاف في درجات الوعي الذي يكون في أقصى حالاته عند الإنسان؛ ليكون العقل والوعي العالي -في حالة الإنسان- وجهين لعملة واحدة، وسبق أن تناولت تفصيل ذلك فيما كتبت من كتب ومقالات سابقة. كنت ألحظ تأملات صادق جواد في صمته العميق الذي يوحي بتفاعل كيمياء أفكاره المتجاوزة لحدود أفكار دهماء الناس ومعارفهم المعهودة؛ فيتبع هذا الصمت تدافعات معرفية تعكس عمقَ الفكرِ ورصانته.
كان صادق جواد موسوعة فكرية صامتة بعيدة نسبيا عن أضواء الإعلام، ولم تخرج معظم أفكارها إلى فضاء المعرفة الخارجي إلا أن الجهد الذي بذله الأستاذ بدر العبري عبر مشروعه الثقافي مع صادق جواد أثمر في نتاج معرفي يستحق التقدير الذي تمثّل في مجموعة من الحوارات المرئية المسجّلة، وأُتبعت -لاحقا- بكتابين يوثّقان مكنونات فكر صادق جواد وأفكاره عن الإنسان ومنطلقاته الأخلاقية والفلسفية والدينية. لا أكتب هذا المقال ليكون سردا لمذكرات عشتها، ولا أكتبه ليستفيد منه صادق جواد؛ فهو رحل عن دنيانا، ولكن أكتبه لتوثيق شهادة في شخصية ثقافية عُمانية تحتاج إلى تأملات في فهم فلسفتها في الحياة، ونحتاج قبل ذلك إقداما في اكتشاف أمثال هذه الشخصيات وسرد مسيرتها الثقافية والعلمية. أكتب هذا المقال ليكون دعوةً إلى التنقيب عن مثل هذه الشخصيات العُمانية خصوصا والعربية عموما التي ما زال بعضها يعيش بيننا، ولنبش كنوزهم المعرفية لا لأجل التفاخر بها وتحفيز "دوبامين" أدمغتنا الباحثة عن شعور الفخر، بل لأجل غاية أكبر، وهي الدفع بها لتضمينها داخل المسيرة الثقافية الوطنية والعربية، وتحقيق أقصى استفادة منها، ولتكون رافدةً لعقول طامحة تتدافع في فضاء المعرفة المفتوح؛ فتنتج لنا محركات معرفية تنهض بجميع قطاعات الوطن ومفاصله.
***
د. معمر بن علي التوبي
أكاديمي وباحث عُماني