شهادات ومذكرات
حاتم جعفر: ما بين لوركا والمعاضيدي
(كي لا ننسى وللتذكير بتلك الأيام السود)*
كلما مر بي أو مررت به لسبب ما، يذكرني شاعر اسبانيا الكبير فيدريركو غارسيا لوركا في بعض من مفاصل شخصيته الرئيسية بالشاعر العراقي خليل المعاضيدي، الذي غيبته الاجهزة القمعية، قبل أكثر من ربع قرن من الآن. فكلاهما غادرا الحياة رغما عنهما وهما في منتصف الثلاثينات من عمرهما، وكلاهما كتبا ضد السلطة الفاشية الحاكمة، وكلاهما انتميا الى جبهة اليسار رغم اختلاف التسميات، وكلاهما قارعا ديكتاتورية الحكم والحاكم بأدوات ووسائل بعيدة كل البعد عن عقلية المراوغة والتستر أو المناورة، فأساليب التعبير عندهما كانت معلنة وواضحة ولا تقبل التأويل ولم تثنيهما عن ذلك او تحد من اندفاعهما أو حماستهما، سياسة البطش والقسوة التي اتبعت وقتذاك، فكانا من الشجاعة ما لا يمكن لأي متابع أو مراقب، نكرانها أو التغاضي عنها وبأي شكل من الاشكال.
قد يرى البعض في تلك المقاربة بأنها غير عادلة وغير متكافئة بسبب من اختلال واختلاف المكانة الشعرية والمساحة الشعرية التي يشغلها كل منهما على انفراد، ولهم في ذلك الحق والعذرا وانه لأمر مفروغ منه، وذلك صحيح الى حد كبير، رغم اني مازلت مقتنعا بأن شاعرية المعاضيدي وهو ابن بلد حافظته الشعر، لو قدر له الاستمرار على الحياة، لكان له شأن آخر، وان كان إفتراض كهذا غير واقعي ومبني على ضرب من المستحيل ولا يخلو من رجما بالتمني، وليكن كذلك مادام هناك انحياز مسبق، بُني كما أرى على معطيات ومؤشرات غيبها الموت المبكر.
ولكي لا نمضي بعيدا في عالم الفنتازيا والتي لا تخلو من بعض من المشروعية، فأن ما نويته من تلك المقاربة وهنا بيت القصيد، هو ذلك الظلم الذي وقع عليهما من ذوي القربى، وبالتالي سنصل بالنتيجة الى فتح موضوع ربما يُعدٌ الاهم حسب ما أراه في تلك المقاربة، الا وهو شكل العلاقة المفترضة والتي ينبغي لها ان تكون مجالا للبحث مستقبلا بين الفنان وانتمائه السياسي، ولا أظنهما أي لوركا والمعاضيدي سيعترضان على الخوض والغوص في رصد حقيقة تلك العلاقة، والتي فتحت فيما بعد الكثير من التساؤلات وأشَّرت كذلك في جوانب هامة منها الى الحيف الكبير الذي لحق بهما وهما في نومتهم الابدية.
ومن خلال تجارب الكثير من الاحزاب السياسية المناهضة للديكتاتورية، خاصة في بلدان العالم الثالث، فأنها ومع أي انتكاسة تتعرض لها وتهدد سلطاتها وبالتالي سطوتها على الشارع فتراها تقوم بجملة من الاجراءات التي تهدف من خلالها الى فرض قبضتها، ليس اقلها العمل على اسكات الآخر، مستخدمة كل الاساليب المتوفرة لديها.
ولأن المثقف المنتمي الى تلك الاحزاب المعارضة يشكل خطورة استثنائية عليها، فتجدها اي السلطات وقد ضاعفت من جهدها ونشاطها القمعي اتجاه هذه الفئة من المعارضين، خوفا من الدور الذي من الممكن أن تؤديه في تهييج وتثوير الشارع وبث روح التصدي والمقاومة ضد هذه السلطات. وتجربة فيكتور جارا في تشيلي وغيرها من التجارب الشبيهة لماثلة للعيان رغم مرور عقود عديدة عليها.
ودورة التأريخ يمكنها أن تعود كما قال الاولون، أما على شكل مهزلة وأما على شكل مأساة. وإستشهاد خليل المعاضيدي يذكرنا بتلك الطريقة البشعة التي صفي بها من قبله شاعر اسبانيا الكبير لوركا، حين جرى إعدامه في عام 1936 بإطلاق الرصاص عليه من قبل مجموعة وصفت حين ذاك بالمجهولة. ونفس الصورة والمشهد سيتكرران في النصف الاول من ثمانينات القرن المنصرم، حين تم خطف وتصفية الشاعر المعاضيدي ومن قبل نفس العصابة والجهة، مع اختلاف البعدين الزماني والمكاني بين الحالتين. ولا بأس من التوقف هنا لنقول، إنَّ ما جمع بين الجريمتين وما إشتركا فيه هي ذات التهمة التي وُجهت لهما من قبل جلاّدي السلطة الحاكمة:( انهما مثقفان .. صنعا بكتبهما ما لم تصنعه المسدسات). اعتقد ان اعترافا بهذه الوقاحة والصراحة، ربما يُعد الوحيد الذي سَيُسجل لصالح القتلة.
إذأً كما النبوءة، اختار مصيره مبكرا وبلغة لاتخلو من اليقين. وكما العارف أيضا بالطريقة التي سيرحل بها الى عالم الخلود ( عرفت انني قُتلت، وبحثوا عن جثتي في المقاهي والمدافن والكنائس، فتحوا البراميل والخزائن وسرقوا ثلاث جثث ونزعوا أسنانها الذهبية ولكنهم لم يجدوني قط ). بهذا النص كان لوركا يَشبه المعاضيدي في وداعه الاخير والعكس صحيح أيضا.
لذا بات من المؤكد وعلى ضوء ما مررنا به من تجارب وما سمعنا وقرأنا ونُقِلَ لنا، فإن هناك أعدادا كبيرة غيرهما قد لاقت ذات الحتف وذات المصير. وعن تلك النهايات المأساوية التي رافقت هذا النوع النادر من البشر فلا بأس من التذكير ثانية بأن طلقة واحدة كانت كافية لوضع حد نهائي لحياة الشاعر الاسباني العذبة. وبذات الخسة والنذالة، فإن القتلة وحسب الاخبار التي تسربت آنذاك فأن عملية تغييب خليل لسنوات عديدة يبدو انها لم تشف غليلهم، مما اضطرهم الى الاعلان عن تصفيته أخيرا، وذلك من خلال تسريب خبر خاطف، مخافة ردات الفعل والفضيحة، لم يراعوا فيه ولا ينسجم وجلال الموت مع شاعر بقامة المعاضيدي وما سيشغله في ذاكرة القادمين من بعده.
لَكَمْ كان التقارب شديدا مُذهلاً بين الشاعرين، فمن عاشر وصادق والتقى خليلا، سيجد كم هو مرهف، ناسك وأنيق، في ساعة الخمر أو دونها. سَيّان عنده الأمر بين ساعة السحر ونشوة المدام الاخير، وبين قصيدة يُلقيها بصحبة العاشقين للشعر وللحرية وللأحلام المشروعة البعيدة. لقد كان مُحقا ودقيقا روفائيل البيرتي في وصفه( كان لوركا يتدفق بشحنة من الرقة الكهربائية والفتنة، ويلف مستمعيه بجو أخاذ من السحر، فيأسرهم حين يتحدث أو ينشد الشعر ..). لا أعتقد ان البيرتي سيكون له رأيا آخر لو أسقطنا ما قاله بحق لوركا على شاعرنا خليل أو شعراء آخرين يشبهونه، سيأتون تباعا.
وفي العودة الى تلك الأيام وإذا كنّا قد نسينا فلا بأس من إعادة التذكير بها، والحديث هنا عن أواخر السبعينات المنصرمة وما تلاها. فشوارع وحارات العاصمة قد ضاقت بشاعرنا وسيد هذا المقال وكذلك مَنْ كان بصحبته من الحالمين، وعسس الليل تراهم يتجولون حتى في ساعات النهار بغطرسة وإستهتار وبغير حدود. هذا هو حال بغداد آنذاك وشقيقاتها من مدن العراق الأخرى، وهذا هو حال كل الرافضين للديكتاتورية، لذا ضاقت عليهم النوافذ ومخارج الخلاص والدروب الأمينة.
لقد غادر الرفاق قبل الاصدقاء وأول الهاربين كان كبير القوم، فإنفرط العقد الرابط بين الحق وخائنيه. تلَفَّتَ شاعرنا شمالا ويمينا فلم يجد غير جسده الذي لم يقو على التحمل، فأخذ معه بضع قصائد وجسد متهالك بانت عليه علامات التعب والهوان من طول فترة الانتظار، كذلك من كظم ضيم كان على سدنته حمله قبل الآخرين، ولم يبق له من وسيلة للنجاة وبعد أن إستنفذ كل الطرق الممكنة سوى العودة من جديد الى مدينته رغم كل الجراح وما يمكن أن يلحق به.
وهناك وما كاد يشم عبق البرتقال ورائحة الطلع، تم إلقاء القبض عليه وفي أول نقطة تفتيش، وليتوراى من بعدها جسده الطاهر عن الانظار وعلى يد حراس الضمائر ولم يعثر له على أثر حتى هذه اللحظة. تبارى على تخليده وإستحضار سجاياه ثلة من الحرس القديم، وراحوا يستعيدون عبق عطره وهو في الابدية وبعد فوات الاوان، بينما لاحقته التهم والكبائر ولم تُذكر محاسنه يوم ولد ويوم كان حيا ويوم غنّى لمدينته الفاضلة وانتمائه السياسي. إنه النفاق بعينه.
***
حاتم جعفر - السويد / مالمو
........................
* خليل المعاضيدي شاعر عراقي من ولادة مدينة بعقوبة. استشهد عام 1984.
** لقد كُتِبَ هذا المقال ونُشرَ في وقته على نطاق محدود وذلك قبل قرابة الأربعة عشر عاما، ولأهميته وبمناسبة يوم الشهيد، إرتأيت إعادة نشره مع إجراء بعض التعديلات عليه.