شهادات ومذكرات
علي حسين: رحيل المرأة التي تحدت بيكاسو
توفيت الفنانة الفرنسية فرانسواز جيلوت عن عمر يناهز 101 عام. وقد اشتهرت بعلاقتها الرومانسية مع بابلو بيكاسو، والتى أصبحت مذكراتها "حياتي مع بيكاسو" صدرت 1964 من أكثر الكتب مبيعًا على مستوى العالم – ترجمة مي مظفر - صدرت طبعة جديدة منها عن دار الرافدين
قالت ابنتها أوريليا إنجل لوكالة أسوشيتيد برس، إن والدتها توفيت بعد معاناة من امراضالرئة والقلب. واضافت إنجل: "لقد كانت فنانة موهوبة للغاية، وسنعمل على الحفاظ على إرثها واللوحات والأعمال الرائعة التي تتركها لنا "... إلا انجيلوت بالرغم من اشادة النقاد بفنها الذي أنتجته على مدى سنوات طويلة، لكنها ستظل معروفة بعلاقتها مع بيكاسو، الذي التقت به في عام 1943. قالت عن ارتباطها بالرسام الشهير "لقد كنت هناك بمحض إرادتي، وتركته بإرادتي. هذا ما قالته له ذات مرة، قبل أن تغادر حياتة بيكاسو بشكل نهائي. قالت له احترس، أنني أتيت عندما أردت ذلك، لكنني سأغادر عندما أريد ايضا. قال لها ساخرا: لا أحد يترك رجلاً مثلي. قالت له بحدة، "سنرى". "
تقول ابنتها ان بيكاسو الغاضب سعى ا دون جدوى إلى حظر نشر كتاب (حياتي مع بيكاسو)، هاجمها في المحكمة، وخسر ثلاث دعوى قضائية ضد الكتاب، لكنه بعد الخسارة الثالثة اتصل بها وقال تهانينا. واعرب عن فخره بكونه عاش مع امرأة كانت لديها مثل هذه الشجاعة".
كانت في الحادية والعشرين من عمرها عندما تعرفت عليه، كان قد تجاوز الستين بأعوام، صاحب اسم كبير وصاحب ثروة هائلة. كانت تحلم بأن تلتقيه، ورسمت في مخيلتها صورة له، شاهدته عن قرب للمرة الأولى عام 1943 كان يجلس في أحد المطاعم، تأملته طويلاً، كانت تشاهد صوره في المجلات والصحف، لكنه في الواقع يختلف كثيراً وفي كتابها "حياتي مع بيكاسو" تصف لحظة اللقاء الأول: "لاحظت بعد برهة، انه كان يتطلع إلينا باستمرار ثم يبتسم، ويرفع صوته باتجاهنا وهو يروي بعض نكاته، بعد فترة قصيرة نهض من مكانه وحمل بيده حفنة من الكرز وهو يسأل، ماذا تعملين:
- انا رسامة
• اذا، لقد خُلقنا لكي نتفاهم، تعالي يوماً لزيارتي في المرسم.
ولم تنتظر طويلاً، ذهبت مع صديقتها جنفياف لزيارته، احتفى بها كثيراً وعرض امامها لوحاته ومنحوتاته وتقول في مذكراتها: " نسى شهرته وعظمته وتصرف مثل مراهق، وقد دهشت عندما قال لي: آمل أن تزورينني ثانية، وألا تكتفي بالتطلع الى اللوحات فقط".
كانت فرانسواز جميلة جداً، ويصفها بيكاسو بأنها: "ذات وجه نبيل، وشعر ذهبي هائل، وعينان كبيرتان، وكان يزيد من جمالها شيئاً من الاستغراب"، ذات يوم قال لها: "أنا عجوز لم يبق لي من العمر كثيراً، ومن واجبك أن تلازميني، لكي أسعد في الفترة المتبقية من حياتي" ومرة اخرى قال لها، أخاف أن اموت قبل أن أحب كل النساء.
ثم أشار الى لوحة وهو يقول: " هذه انت، هل عرفتي كم احبك؟"، وحين انجبت فرانسوز ابنها كلود، قال لها بيكاسو: " الآن اصبحت جزءاً من حياتي، ويجب أن نرتبط برباط لن ينفصل"، لكنه لا يستطيع الابتعاد عن النساء وتكتب فرانسواز في حياتي مع بيكاسو: " ازداد يقيني بأنه يعاني نوعاً من العقد النفسية، تجعله يحتفظ بكل نسائه في متحف خاص به"، سنوات عشر قضتها فرانسواز جيلو مع بيكاسو، وانجبت له ولدين، كلود وبالوما، عاشت فيها سنوات مليئة بالأفراح والهموم والغيرة أيضاً، وفي لحظة ما قررت أن ترحل، وكان رحيلها اشبه بمشهد مسرحي، ودعته الوداع الأخير أمام الجماهير في افتتاح عرض لمصارعة الثيران سنة 1953 وهي ترتدي زي فارسة، وذلك بترتيب بينها وبين بيكاسو، ونزع من يده ساعة كانت قد أهدته إياها فرانسواز وأعادها إليها قائلاً: وقتك لم يعد ملكاً لي.
لكنه بعد فترة استشاط غضباً. لقد اصبح البيت خاويا الآن. لقد وفت بوعدها ورحلت مع الطفلين بشكل نهائي، طفليه هو! يا لها من فعلة شنيعة.
امضت معه عشر سنوات، وقد عرفته بشكل أفضل من أي شخص آخر تقريبا وعرفت شخصيته بكلا جانبيها، الرقيق والشرس. ولكنها عرفت أيضا بأنها ستضيع هي وطفلاها إن أمضت إلى جانبه فترة أطول. ونظرت فرانسواز إلى كلود وبالوما اللذين كانا يجلسان إلى جانبها في السيارة. ما تزال تحب بابلو ولكنها تحب أطفالها أكثر.
"لا امرأةً تتخلى عن رجلٍ مثلي"، هذا ما قاله بيكاسو لها قبل أسابيع من الفراق. لكنها استطاعت ان تفارقه.
ولدت ماري فرانسواز جيلوت لعائلة غنية في السادس والعشرين من تشرين الثاني عام 1921، في إحدى ضواحي باريس، الطفلة الوحيدة للمهندس الزراعي إميل جيلوت صاحب مصنع للكيمياويات، كان اجدادها لامها يمتلكون دارًا للأزياء الراقية.
انجذبت ماري فرانسواز إلى الفن منذ سن مبكرة، تتلمذت على يد والدتها التي درست تاريخ الفن والخزف والرسم بالألوان المائية. لكن والدها - الذي تذكرته السيدة جيلوت باعتباره مستبدًا كانت لديه أفكار أخرى. فقد اراد لابنته ان تدرس العلوم أو القانون، أقنعها بالتسجيل في جامعة باريس، حيث حصلت على درجة البكالوريوس في عام 1938 عن عمر يناهز 17 عاما.
ذهبت للدراسة في السوربون والمعهد البريطاني في باريس وحصلت على شهادة في الأدب الإنكليزي من جامعة كامبريدج. مع اقتراب الحرب العالمية الثانية من فرنسا عام 1939، أرسلها والدها إلى شمال غرب باريس، للالتحاق بكلية الحقوق، هناك انشغلت بالرسم
اثناء الاحتلال الألماني لباريس عام 1940، انضمت إلى تظاهرات الطلبة ضد الالمان تم اعتقالها وبهد اطلاق سراحها وضعت تحت المراقبة.
واصلت دراستها في القانون في جامعة باريس، ولكن بعد إجراء امتحانات السنة الثانية، عام 1941، فقدت الاهتمام بالجامعة وتخلت عنها، وقررت تكريس نفسها للؤسم. بدأت دروسًا خاصة مع الرسام المجري، إندري روزدا، وحضرت دروسا عن الفن التشكيلي ، لم يكن والدها راضيا عن قرارها ترك الجامعة فققرت ان تترك البيت لتعيش مع جدتها
تعرفت على بيكاسو عام 1943، كان في ذلك الوقت نجما دوليا ارتبط بالحزب الشيوعي الفرنسي. عام 1947 انجبت ابنها كلودوعالم 1949 انجبت ابنتها بالوما، ظلت تواصل الرسم، متبعة أسلوبًا تجريديًا ملونًا مرتبطًا بمدرسة ما بعد الحرب في باريس بدلاً من تقليد بيكاسو. في 1952، اقامت معرضا للوحاتها استقبله النقاد بشكل جيد.
بعد تركها بيكاسو اقامة علاقة مع الفيلسوف اليوناني، كوستاس أكسيلوس، بعدها قررت عام عام 1955 الزواج من صديق الطفولة، لوك سيمون، وهو فنان فرنسي. وقد انتهى هذا الزواح بالطلاق 1962.
هاجمها أصدقاؤها بسبب كتاب " حياتي مع بيكاسو "، وكذلك فعل الحزب الشيوعي الفرنسي. قام بيكاسو ببثلاث محاولات عبثية لمنع نشر الكتاب في فرنسا. ثم رفض مقابلة ابناءه كلود وبالوما.
اصدرت عام 1975، كتابًا جديدًا بعنوان " الرسام والقناع"، وهو مذكرات عن حياتها كفنانة. في العام التالي، أصبحت رئيسة قسم الفنون الجميلة في جامعة جنوب كاليفورنيا، وشغلت هذا المنصب حتى عام 1983.
عاشت في مانهاتن، حيث حولت شقتها الى مرسم ومكتبة تضم مئات الكتب.عام 1990، واصلت التفكير في سنواتها مع بيكاسو فاصدرت كتاب بعنوان "ماتيس وبيكاسو: صداقة في الفن"، وهو سرد للصداقة المتنافسة للفنانين والتي ركزت على السنوات التي كانت شاهدة فيها
عندما سألتها احدى الصحفيات عما إذا كانت قد شعرت بالمنافسة مع بيكاسو أو أصدقائه - ومن بينهم شاغال وبراك وماتيس وجياكوميتي - أجابت: "لم يخطر ببالي هذا قط. أنا أنت لست قادرًا على ذلك ".، لكنها اقرت ان عمالقة الفن في القرن العشرين كان لهم تأثير كبير عليها:" إنهم ساعدوني على النمو ".
كانت فرانسواز اذكى امراة عرفها بيكاسو، قالت عنه في مذكراتها انه كان " عنيفا، غاضبا، وانانيا مخيفا ".. ورغم صراحتها في " حياتي مع بيكاسو " إلا انها كتبت في السطور الاخيرة من الكتاب:" كان بابلو قد قال لي، بعد ظهر ذلك اليوم الذي زرته فيه وحدي، في شباط عام 1944، ان شعورا يغامره بأن علاقتنا ستدخل النور الى حياتنا، وقال ان قدومي اليه يبدو مثل نافذة تفتح، وانه يريدها ان تظل مفتوحة. وهذا ايضا ما فعلته طالما كان الضياء يتسرب منها، ولكنني اغلقتها على كُره مني عندما وجدت انها لم تعد مسربا للضياء.ومنذ تلك اللحظة احرق بابلو كل الجسور التي ربطتني بالماضي الذي شاركته به، غير انه دفعني بعمله هذا الى اكتشاف نفسي، وهكذا حققت نجاتي، ولن اتوقف عن الشعور بالعرفان له من اجل ذلك "
***
علي حسين – كاتب
رئيس تحرير صحيفة المدى البغدادية