أوركسترا

عدنان حسين أحمد: روح السماوة.. عبق الماضي وأصداء السيرة المكانية

يُعدّ فيلم "روح السماوة" للمخرج هادي ماهود من الأفلام الوثائقية الحميمة التي تستنطق الماضي، وتبحث عن روح المكان في الشواهد العمرانية القديمة مثل البيوت التراثية، ومحطة القطار القديمة، والمقاهي الشعبية وما إلى ذلك. يجمع هذا الفيلم بين الرأي الذي يرصد المخاطر الجدية التي تهدّد هُوية المدينة القديمة والمعلومة الدقيقة التي تزوِّد المتلقي بمعطيات الشواخص العمرانية القديمة على وجه التحديد وخطورة الزحف العمراني غير المدروس الذي يلتهم كل ما هو أثري وقديم وراسخ في ذاكرة الأجيال. كما تذهب ثيمة الفيلم إلى أبعد من ذلك حينما ترصد العلاقات الاجتماعية بين أهالي السماوة على مدى ثلاثة أجيال في الأقل وهم جيل الأجداد والآباء والأحفاد إن لم تذهب إلى أبعد من ذلك بكثير فالفيلم يحمل طابعًا أنثروبولوجيًا يدرس السلوك الاجتماعي والثقافي لأهالي مدينة السماوة الذين يحملون في دواخلهم الكثير من عناصر المحبة والتآزر والانسجام. ومن يدقق في تفاصيل هذا الفيلم سيلمس اعتزاز أهالي السماوة بعلاقات الجيرة والأخوّة والتعاضد الإنساني الذي لم تفتِّتهُ غزوات الحداثة التي اجتاحت العالم برمته وحوّلته إلى قرية صغيرة فعلًا لا تستطيع أن تنجو من التغيرات الدراماتيكية التي ضربت كل مفصل من مفاصل حياتنا الاجتماعية والاقتصادية والأخلاقية. كما تسعى ثيمة الفيلم الذي كتبهُ ومَنتجهُ وأخرجهُ هادي ماهود إلى الإحاطة بالسير الذاتية والذهنية والروحية لعدد من شخصيات المدينة وأولهم عبداللطيف الجبلاوي، مالك البيت التراثي، وعدد آخر من أبناء المدينة من بينهم المعلم المتقاعد، والموظف، والمخرجة السينمائية، والقاضي المُحال على المعاش، والمهندس المعماري، والفنان التشكيلي وصولًا إلى حارس المدينة الذي يحمي أرواح الناس وبيوتهم وممتلكاتهم منذ مغيب الشمس حتى مَطلعها في صبيحة اليوم التالي.
يحاول هادي ماهود في هذا الفيلم أن يمسك بتلابيب المدينة ويوثِّق كل شيء فيها حتى أن الباحث والمؤرخ السينمائي مهدي عباس قد قال عن مدينة النخل الغافية على حافة الصحراء:"مَنْ لم يزر السِماوة سيتعرّف عليها من خلال هذا الفيلم الذي يُعدُّ وثيقة مهمه عن تاريخ هذه المدينة وتراثها وهذه هي مهمه الفيلم الوثائقي في أن يكون وثيقة عن الموضوع الذي يتناوله"(1)1191 samawaty
مُعلمّو الزمن الجميل
لا تقتصر ثيمة الفيلم على السيرة المكانية للمدينة وشواهدها العمرانية المُرممة أو الآيلة للسقوط وإنما تمتد إلى السيرة الذاتية لمالك الدار المعلّم المتقاعد عبداللطيف الجبلاوي الذي درّس طلاب السماوة في ستينات القرن الماضي وأحسنَ تربيتهم وتعليمهم في الوقت ذاته كما كان يفعل مجايلوه من معلميّ "الزمن الجميل". ومن خلال هذه الشخصية التربوية التي تُطل علينا أكثر من عشر مرات خلال مدة الفيلم التي بلغت 23 دقيقة كانت تمرّ مثل لمح البصر لثراء المعلومات والأفكار التي يختزنها الكائن السيري الذي انتشل هذا البيت التراثي من أنشوطة الموت والزوال الأكيد. لنستمع إلى رواية المعلم عبداللطيف الجبلاوي الذي يقول بأنّ والده هو الذي اشترى هذا البيت من أحد أهالي السماوة الذي لا يتذكّر اسمه الآن. وقد وُلد الرواي سنة 1940م في هذا البيت، ونشأ وترعرع فيه. وقد استطاع أن يشتري هذا البيت من الورَثة بعد أن فرغ من ساكنيه. وفي سنة 2015م قرّر أن يرممهُ بعد أن وجد مهندسًا معماريًا متخصصًا بالبيوت التراثية وقد كلّفته عملية الترميم 250 مليون دينار عراقي، أي ما يقارب 193 ألف دولار أمريكي. تبلغ مساحة المنزل 196 مترًا مربعًا، ويقع في شارع النجّارين في قلب مدينة السماوة التي تبعد مسافة 300 كم جنوبيّ العاصمة بغداد. يتألف البيت من طبقتين ويضم 13 غرفة كانت تسكنها العائلة الكبيرة التي تأكل من قِدر واحد تجمعهم العلاقة الأُسرية الحميمة القائمة على المحبة والاحترام والانسجام. يحتوي البيت على بئر عميقة فيها مضخة غاطسة تُخرج الماء كلّما ارتفع عن الحدّ المسموح به وتُلقي به إلى ساقية الشارع. تزّين البيت التراثي من الخارج شبابيك ملونة بالأخضر والأزرق والأصفر الأمر الذي يُضفي على البيت هيبة وبهجة وجمالًا أخّاذا. كما يحتوي البيت على سرداب بارد يلوذون به في أيام الصيف اللاهب وثمة غرفة في الطابق الثاني مخصصة لاستقبال الضيوف سواء من أبناء المدينة ذاتها أو الذين يفِدون من خارجها كالبدو الذين يزورونهم بين آونة وأخرى مُتطلعين إلى شرب قهوة "ابن عيسى" اللذيذة.1194 samawaty
تعالق الشعر مع الغناء والموسيقى
يتنقّل الراوي بين السيرة الذاتية والعائلية وسيرة المكان أو المدينة، إن شئتم، كما يتناول سيرة بعض الشخصيات العامة التي استقرت في ذاكرة الناس الجمعية حيث يقدّم لنا الموظف المتقاعد أحمد حسين سردًا بعدد المقاهي الموجودة في السماوة، وهو يفرّق بين المقاهي الكبيرة مثل مقاهي التجّار والمعلمين وبين الجايخانات الصغيرة التي تقدّم خدماتها السريعة إلى المارة والناس العابرين. ولا ينسى الرواة التفريق بين المقاهي التي تجلس فيها الشخصيات المحترمة، والمقاهي التي تحتضن الناس الذين يلعبون القمار. يتعالق الشعر مع الغناء والموسيقى في هذا الفيلم فأحدهم يردد قائلًا:" ولنا بالسماوة وسوحها / ذكرى في مدى الأيام تبتسمُ". بينما يتذكّر القاضي المتقاعد علي الحمدي الأشخاص الذين عرفهم والأحداث التي وقعت في زمنه وكأنها فيلم وثائقي دقيق يمرّ أمام ناظريه لأنّ المخرج هادي ماهود في (روح السماوة) "يخاطب المكان ويتعامل معه كروح تحرِّك فينا سواكن الأشياء وتُوقظ معنا مكامن حنين غريب للأثر الذي يرتبط بذاكرة المدينة وحسِّها وعمارتها أيضًا"(2).
لا ترى المخرجة السينمائية زهراء السماوي بالسماوة روح المدينة المتناسقة وإنما ترى فيها تصاميم عشوائية تفتقر إلى الهُوية فلا غرابة أن ترى تاريخ السماوة وتراثها وروحها في المدينة القديمة التي بدأت تتلاشى بمرور الزمن.
يستعيد عبد اللطيف الجبلاوي ذكريات طفولته حينما كان المعلّمان ابراهيم گنّان وابراهيم مصطفى وهما من المعلّمين الروّاد الأوائل الذين كانوا يصطحبون التلاميذ كل يوم جمعة إلى السينما وبعد مشاهدة الفيلم يعودون إلى المدرسة ثم ينصرفون من هناك إلى بيوتهم بأمان من دون أن يتعرضوا إلى مضايقات من بعض العناصر الفاسدة في المجتمع إن ذهبوا فرادى أو متفرقين.1193 samawaty
التربية الذوقية والجمالية
لم تكن إشارتنا إلى الجانب الأنثروبولوجي للفيلم ناجمة من عبث أو فراغ فهذا الفيلم يعطينا لمحة حتى عن ملابس المعلّمين في المدارس الابتدائية وما سواها من المراحل الدراسية ولعل إشارة المعلّم المتقاعد حربي عليوي قد جاءت في محلها بأن المعلّم كان يطلب قطعة القماش من الكويت أو من الأردن ويخيّطها عند خياطين ماهرين بمدينة النجف لكي يظهر بالمظهر اللائق لأنه هو نفسه يتبنّى التربية الذوقية والجمالية والأخلاقية.
يَعتبر الكائن السيري عبد اللطيف الجبلاوي نفسه وبقية المعلمين من جيل الستينات أو ما قبله جزءًا من التراث، وبما أنّ البيت الذي رمّمه وأعاد إليه الحياة هو بيت تراثي أيضًا فقد اجتمع التراثان في آنٍ معًا.
لم تنجح فكرة ترميم هذا البيت التراثي لو لم يجد عبداللطيف الجبلاوي مهندسًا متخصصًا بالأبنية التراثية مثل المهندس المعماري أحمد كبّة الذي يدّرس في جامعة المثنى وقد أخذ على عاتقه ترميم هذا البيت التراثي الجميل الذي بقي لأكثر من 30 سنة من دون صيانة أو ترميم. يزوّدنا المعماري أحمد كُبّة ببعض المعلومات المفيدة بأن عائلة عبداللطيف الجبلاوي قد سكنت في هذه البيت منذ سنة 1920م ثم بدؤوا بترميمه سنة 2015م بطريقة علمية حافظت على خارطة البيت الأساسية حتى أنه حصل على جائزة التميّز التقديرية لعام 2018م بالتعاون مع قسم الهندسة المعمارية في جامعة المثنى الأمر الذي أفضى إلى تكريم المهندس المعماري الدكتور أحمد كبّة الذي شكر بدوره القائمين على جائزة التميّز العالمية التي تعني له الشيء الكثير.
يعود بنا مخرج الفيلم إلى الحقبة الملكية التي أُعلن فيها الحِداد على وفاة الملكة عالية ثم يعرّج، من خلال ذاكرة المتحدثين، إلى الملك فيصل الثاني وزيارته التاريخية إلى مدينة السماوة حيث استقبله الأهالي استقبالًا حافلًا لدرجة أنّ الجماهير رفعت سيارته في أثناء عبورها جسر المثنى تعبيرًا عن حبّهم الشديد بالملك وتعلقهم بشخصه الكريم. ثمة إشادة بتجربة الفنان التشكيلي سامي مشاري الذي يُعدُّ من أعمدة الفنون التشكيلية في السماوة حيث درس بمعهد الفنون الجميلة ببغداد سنة 1970م ثم عمّق تجربته الفنية خلال العقود الخمسة اللاحقة ليصبح عَلَمًا من أعلام المدينة. لا يُفوّت هادي ماهود الفرصة لانتقاد مؤسسات الدولة من خلال شخصية علي عبد عيد، نقيب فنّاني ذي قار الذي قال أتمنى أن تكون وزارة الثقافة داعمة لمثل هذا البيت التراثي وغيره من البيوت الأثرية لأنّ الثقافة تحتضر في هذه الأيام، وهي إشارة لها مدلولات كثيرة تثير أسئلة عديدة من بينها: لماذا تحتضر الثقافة في هذا البلد الغني ماديًا ومعنويًا؟ وهل هذا الاحتضار مُبرمَج ومُخطّط له أم أنه حصل بشكل اعتباطي عابر؟1192 samawaty
نفخ الروح في البيوت التراثية القديمة
يحتشد هذا الفيلم بالتعالقات الغنائية والموسيقية والشعرية فأحدهم يردد أغنية تراثية جميلة تبدأ بـ "گولوله ما بي لولوة، بس الخزر بالعين صايرله سولة". لا ينفك عبداللطيف الجبلاوي من الحديث عن طبيعة الإنسان السماوي الذي يحب الجيران ويحترمهم ويعتبر بيوتهم امتدادًا طبيعيًا لبيته. يعاود المهندس المعماري أحمد كبة الحديث عن أهمية ترميم وإحياء البيوت الأثرية القديمة ليس بوصفها أمكنة رمزية فقط وإنما كحدث اجتماعي له مردودات مادية يمكن أن تساهم في إنعاش اقتصاد البلد. فبدلًا من أن تُهمل هذه البيوت التراثية وتتحول إلى خرائب وأطلال تنعب فيها الغربان علينا أن ننفخ فيها الروح ونعيدها إلى الحياة من جديد، وأن نحافظ عليها مثل كنز ثمين ولا نتركه نهبًا للسرّاق واللصوص كلما ضعفت القوانين وانسحبت الدولة إلى المقاعد الأخيرة من الحياة اليومية.
ينبّه عبداللطيف الجبلاوي إلى خطورة تقويض البيوت الأثرية القديمة لتحلّ محلها العمارات الحديثة ذات الأغراض التجارية المحض، ويحثّ المواطنين الخيّرين للحفاظ على هذه الثروة الخيالية والتشبث بها ولا يجد ضيرًا في إنشاء مدينة حديثة مقابل المدينة القديمة المُحتفية بأحيائها التراثية الجميلة النابضة بالحياة.
كثيرة هي الأحياء التراثية الساحرة في مدينة السماوة وخاصة الأحياء التي تتوسد ضفتيّ نهر الفرات لكن غالبية المشاركين في هذا الفيلم يركِّزون على بناية محطة السكك الحديد في السماوة ويعتبرونها معْلمًا أثريًا مهمًا ومَنجمًا لذاكرة المواطنين السماويين. فلقد كتب الشاعران يحيى السماوي وناظم السماوي قصائدهما عن هذه المحطة وفي أرجائها فلا غرابة أن تطالب الغالبية العظمى من الناس بأن تُرمّم هذه المحطة ويُعاد لها رونقها السابق الذي استقر في ذاكرة الناس فلقد تحولت بناية المحطة إلى مدرسة للعلوم الإسلامية بينما يشدّد المعماري أحمد كبّة على ضرورة الإسراع بترميم المحطة وضخ دماء جديدة في شرايينها المتصلّبة.
يختم هادي ماهود فيلمه بطريقة ذكية حيث يترك المجال لمالك البيت أن يقول كلمته الأخيرة حيث سجّل وصية في دائرة التسجيل القاري تمنع بيع هذا البيت التراثي أو توريثه أو فصل أي قسم منه أو تغيير صورته الحالية، وأن تتناقلهُ الأسرة لرعايته فقط والإشراف عليه وليس لغرض آخر. وأن يحقق الأهداف التي رسمها المالك في ذهنه بأن يكون هذا البيت مركزًا ثقافيًا أو تراثيًا يحتضن مجمل الأنشطة الثقافية والفنية والفكرية لأهالي المدينة الذي يفتخرون بهذا المنبر التنويري ويسعون إلى تخليده إلى أجل غير مسمّى.1195 samawaty
التآلف والأخوّة بين شرائح المجتمع السِماوي
ثمة حكايات أخرى لم نشأ التطرّق إليها نُشدانًا للاختصار مثل حكاية كريم الشقي أو البطل الذي كان يتمرّن بالقرب من نهر الفرات حيث كانوا يحطِّمون قطع المرمر على صدره العاري بالمطارق من دون أن يئن أو يتأوه. وحكاية مقهى الشيخ هادي الذي ترتاده الشخصيات المسلمة واليهودية لتكشف عن حجم التسامح والتآلف والأخوّة بين شرائح المجتمع السِماوي، أو حكاية الحارس "مسعود" الذي كان يتأكد من إغلاق أبواب المحلات بنفسه وما سواها من حكايات قد تبدو ثانوية إلّا أنها كبيرة وتنطوي على معانٍ شديدة الأهمية. يذهب الشاعر عبدالحميد الصائح إلى القول بأنّ فيلم (روح السماوة) "يتميّز بقدرة السينما المحترفة على فتح قريحة المكان، وإيقاظ عاطفته في ذلك العالم الغامض القديم المتشابك المليء بالحكايات والناس، مُوجِزةً كل ذلك بسحرِها ومنطق الزمن الفني الذي جعلَ من الثلاث وعشرين دقيقةً - زمنِ الفيلم تاريخًا ناطقًا باكمله"(3).
يخلص الناقد فراس الشاروط إلى القول: "هادي ماهود المشاكس دائمًا والإشكالي واحد من أمهر صنّاع السينما الوثائقية، ليس في العراق فقط بل في الوطن العربي، أنه يضع اسمه وبقوة جنبًا الى جنب مع أمهر صنّاع السينما الوثائقية، ولو -هذه الكلمة السحرية التي وضعها ستانسلافسكي - كان لدينا سينماتك حقيقي يؤرشف للسينما وصناعها فبالتأكيد سيكون اسم هادي ماهود مُطرِزا رفوف المكان بسينماه العذبة الصادمة دائمًا بمواضيعها الجريئة، أنه مع أخويه وشركتهما يؤسسون لسينما مستقلة حقيقية"(4 ).
بقي أن نقول بأنّ فيلم "روح السماوة" قد حصل تنويه خاص وجائزة أفضل موسيقي في المهرجان العربي لفيلم التراث بالقاهرة. وتتوّج بجائزة أفضل فيلم وثائقي في مهرجان سوس الدو لي للفيلم القصير في المغرب. كمال نال جائزة مهرجان عيون سنة 2020 م عن مجمل أعماله السينمائية.
***
عدنان حسين أحمد - لندن
.....................
1- عباس، مهدي، هادي ماهود.. وروح السماوة، صحيفة الدستور، 11 / 12 / 2020م.
2- مهلهل، نعيم عبد، البيت "وطن" تجدده الأحلام والدموع والذكريات، مجلة السينمائي، العدد 6.
3 - الصائح، عبدالحميد، روحُ السماوة.. حين توقظ السينما قريحة المكان، صحيفة أوروك، 22 ديسمبر 2020م.
4 - ماهود، هادي، "هادي ماهود روح السماوة"، جريدة العالم، العدد 2565، 3 / 12 / 2020م.

 

في المثقف اليوم