أوركسترا
عدنان حسين أحمد: ذكريات منقوشة على حجر..
ترميم الذاكرة الكوردية وتجسيدها من جديد
خاض فيلم (ذكريات منقوشة على حجر) للمخرج العراقي الكوردي شوكت أمين كوركي منافسةً قوية مع ستة عشر فيلمًا روائياً طويلًا اشتركت في الدورة الثامنة لمهرجان أبو ظبي السينمائي من بينها (فحم أسود، ثلج رقيق) للصيني دياو ينان و (فرصة ثانية) للدنماركية سوزان بير و (حكايات) للإيرانية رخشان بني اعتماد وسواها من الأفلام التي تراهن على ثيماتها القوية وخطاباتها البصرية الرصينة.
يُشكِّل (ذكريات منقوشة على حجر)، الفيلم الروائي الثالث في رصيد كوركي، منعطفًا جديدًا في تجربته الفنية، بعد أن أنجز فيلميه الروائيين السابقين وهما (عبور الغبار) و (ضربة البداية) اللذين اشتركا في مهرجانات سينمائية متعددة وحاز على جوائز مهمة تؤكد على موهبته الفنية وتثبت بأن رهانه السينمائي ليس رهانًا خاسرا.
ما تزال (حملة الأنفال) التي شنّها النظام العراقي السابق على الكورد عام 1988 وراح ضحيتها نحو (182) ألف مواطن كردي تشكل معينًا لا ينضب بالنسبة لكوركي أو سواه من المخرجين العراقيين الكورد على وجه التحديد. وربما تكون مقاربته الفنية مختلفة هذه المرة. فقصة الفيلم تعتمد على صديقين حميمين يعرفان بعضهما بعضًا منذ أيام الطفولة وهما حسين (حسين حسن) و آلان (نظمي كيريك) وقد قررا أن ينجزا فيلمًا عن (الإبادة الجماعية) التي تعرّض لها الكورد في أواخر الثمانينات من القرن الماضي على الرغم من الصعوبات الكبيرة التي يواجهانها في تصوير الفيلم وإنتاجه. يعتمد كوركي على معطيات السخرية والتهكم لإيصال فكرته "من دون عويل أو دماء عبر سرد يحاكم تاريخًا قلقًا، ويدين حاضرًا مثقلًا بعادات وتقاليد تكبح الطموح والأمل(1).
المنحى الواقعي
ينتمي المخرج العراقي كوركي إلى التيار السينمائي الواقعي بشكل عام، وهذا لا يعني إهماله للتيارات السينمائية الأخرى التي تميل إلى التجريب والتجديد والابتكار. فالواقع الذي يعيشه المواطن الكوردي في العراق هو واقع تقليدي مأزوم لمّا تزل فيه القبيلة الكوردية تفرض منظومة من القيم المتخلفة، والأعراف التي أكل الدهر عليها وشرب ومن بينها رفض فكرة التمثيل التي تقدمت بها سنور (شيما مولائي) حتى وإن كان الدور الذي تجسّده يؤرِّخ لمحنة الأنفال التي عاني منها غالبية الشعب الكوردي إن لم نقل كله على الإطلاق.
وعلى وفق هذه الفكرة ينبني الهيكل المعماري للقصة السينمائية التقليدية في واقع الأمر. فحسين الذي نراه في المشهد الافتتاحي للفيلم واقفًا أمام الباب الخارجي مبللًا جرّاء هطول المطر هو ابن لعارض الأفلام الذي قُتل على يد أحد جنود النظام السابق بتهمة عرض أفلام ممنوعة تناوئ النظام أو تحتج عليه ضمنيًا أو علنيًا. لقد شهد الطفل حسين موت أبيه أمام ناظريه فلاغرابة أن يُصرّ على إنجاز فيلم يوثّق لمحنة الشعب الكوردي برمته معتمدًا على الذاكرتين الفردية والجماعية على حدٍ سواء.
خرق المستور
لقد أشرنا توًا إلى أن العوائل الكوردية برمتها قد تضررت من عملية الأنفال. وكل شخصية في هذا الفيلم لها أسبابها الذاتية والعامة التي حرضتها بشكل من الأشكال على تنفيذ الفيلم ومواجهة الصعوبات الجمة التي تصل إلى مستوى الضرب المبرّح، والشروع بالقتل، وإراقة الدماء.
ربما تكون العقبة الكأداء في هذا الفيلم هي الحاجة الماسة إلى فتاة تؤدي دور المرأة المُؤنفَلة. وقد قبلت سنور بهذا الدور لأسباب شخصية لم تتكشف إلّا قبل نهاية الفيلم بقليل حيث كان والدها الراحل سجينًا في القلعة التي دار فيها بعض الأحداث، وسُبي فيها الكثير من النساء الكورديات. وذات مرة شاهدنا سنور وهي تتحس اسمها المحفور على جدار إحدى غرف القلعة ولا شكّ في أن والدها هو الذي حفر اسم ابنته الوحيدة التي لم يبق لها سوى أمها وعمّها المتشدد وابنه (هيوا) الأكثر تشددًا وتزمتًا من أقرانه الذين وضعوا جانبًا من هذه الأعراف التقليدية خلف ظهورهم.
ربما لهذا السبب الشخصي وأسباب أخرى موضوعية قبِلت سنور بهذا الدور على الرغم من اعتراضات أسرة عمها وعلى رأسهم هيوا وأبيه؛ الشخصية النمطية التي نصادفها كثيرًا في القرى العراقية عامة والكوردية بشكل خاص. وحينما يوافق هيوا على مضض ويحضر جانبًا من تصوير المَشاهِد يرى أن الممثل روج آزاد الذي يؤدي دور البيشمركة يلمس يد سنور فيجن جنونه ويأخذ ابنة عمه، وزوجته المرتقبة ويعود إلى المنزل، لكن أطرافًا متعددة تتوسل إليه وتقنعه بأن عملية اللمس لابد لها أن تتم ذلك لأن هذا المقاتل يودع حبيبته في الدور الأمر الذي يتطلب إظهار بعض المحبة والحنوّ ومنها عملية لمس اليد التي تغيض هيوا وتدفعه للانتقام من مخرج الفيلم حسين فلقد سبق له أن اعتدى على آلان وأوسعه ضربًا.
تصل الأحداث إلى ذروتها حينما يتأزم هيوا ويطلق النار على حسين ويشلّه عن الحركة تمامًا. وبما أن الفيلم ليس شخصيًا فلابد أن يُنجز حتى ولو عن طريق مخرج بديل. لقد أراد حسين تحت وطأة الحاجة المادية أن يكلف المطرب روج آزاد بتكملة الإخراج لكن زميله " آلان" اعترض بشدة فهو يعرف أن هذا المطرب الشعبي ضحل جدًا على الرغم من جماهيريته الواسعة الأمر الذي يدفعهم لإسناد مهمة الإخراج إلى شخص آخر متمكن من أدواته الفنية خصوصًا وأنّ حسين قد قبل بالتعويض المادي الذي قدّمه والد هيوا كي لا يظل ابنه الوحيد حبيس السجون لسنوات طويلة.
استذكار المحنة
حينما وضعوا اللمسات المونتاجية الأخيرة على الفيلم القائم على استعادة الذكريات التي لم يمضِ عليها وقت طويل فهي ما تزال طرية في أذهان العراقيين على وجه التحديد وبالذات الكورد منهم قرّروا عرض الفيلم بعد دعاية موسعة جذبت الكثير من المشاهدين. وبما أن الخدمات ضعيفة فقد انطفأت الكهرباء ثم تفاقم الأمر حينما لم يشتغل المولّد الأمر الذي دفع غالبية المشاهدين لمغادرة مكان العرض. ومما زاد الطين بلّة أن السماء بدأت تمطر مطرًا غزيراً لكنه لم يمنع محبي هذا الفيلم من البقاء وعدم مغادرة المكان المفتوح. وإذا كان من الطبيعي أن يبقى الصديقين حسن وآلان وكذلك سنور وبعض الشخصيات الأخرى التي ساهمت في إنجاز هذا الفيلم فإن اللافت للانتباه أن نشاهد هيوا يتابع المحنة الكوردية المجسدة على الشاشة وربما كان يقول في سرّه أن سنور كانت ولا تزال محقة في تجسيد هذا الدور المشرّف على الرغم من نزوعه لكسر الأعراف، وخرق التقاليد البالية التي لم تعد ملائمة للإنسان الكوردي الذي ولج الألفية الثالثة وما تنطوي عليه من اعتراف بالحقوق الفردية والجماعية لكل الشعوب والتجمعات السكانية في هذا العالم. وخلاصة القول إنّ الفيلم الذي بلغت مدته 97 دقيقة:"يشير إلى واقع كوردى معقد ومأزوم وغير محصّن ضد الفساد وبعد تخلّصه من الدكتاتورية أصبح خاضعًا لتقاليد قاسية تسود فيها وجهة النظر الذكورية"(2). يميل المخرج شوكت أمين كوركي إلى تطعيم فيلمه بلمسات وثائقية تستدعيها إعادة تمثيل الأحداث وتجسيدها على أرض الواقع كما يذهب الناقد السينمائي أمير العمري الذي قال:"استخدم شوكت أمين كوركي الكاميرا المحمولة الحرة كثيرًا، مضفيًا طابعًا شبه تسجيلي على الفيلم جريًا على عادته في فيلميه السابقين، وذلك لتأكيد الطابع الواقعي للأحداث"(3).
لابد من الإشادة بسيناريو الفيلم الذي اشترك في كتابته شوكت أمين كوركي ومهمت أكتانش فقد كان مشذبًا وخاليًا من الزوائد والترهلات وإن كان التركيز على القيم الاجتماعية شديدًا. أما التصوير الذي أبدع فيه سالم صلواتي فقد خدم ثيمة الفيلم وعزز أفكاره الثانوية المؤازرة. فيما لعبت موسيقى جون غرتلر وأزغور أكغول دورًا مهمًا في تعزيز المناخ المأساوي الذي كان مهيمنًا على مساحة واسعة من الفيلم. أما المونتاج فهو الذي نظّم الإيقاع الداخلي للفيلم وأنقذه من بعض الارتباكات الشاذة والمنفرّة التي يمكن أن تحدث بين أوان وآخر.
***
عدنان حسين احمد
........................
1- عبدي، إبراهيم الحاج، السينما الكردية: رصد لمحنة المنفى وإدانة للعقلية الاجتماعية المتزمتة! صحيفة الحياة، 02 / 01 / 2015.
2 - فيلم "ذكريات منقوشة على حجر" يتناول معاناة الأكراد فى أبوظبى السينمائى، اليوم السابع، 26 أكتوبر 2014.
3- ذكريات منقوشة على الحجر" في مهرجان أبوظبي السينمائي، صحيفة العرب، لندن، 2014/11/04.