أوركسترا
جمال العتّابي: سور جامع الخلفاء في بغداد.. تطويع الحديد بإيقاع حروفي لهاشم محمد الخطاط
ان شعوراً بالنشوة السحرية يمتلك الحواس، كلما يسعفنا الوقت بزيارة المكان الذي يطلّ عليه جامع الخلفاء شاخصاً يحكي قصة حضارة تمتد إلى القرن الثالث الهجري، (عهد المكتفي بالله)، حتى الإمتلاك القوي لأدوات التعبير في الطراز المعماري المدهش للمهندس محمد مكيّة، وهو يعيد في توازٍ وتواصل حميم مع الروح البغدادية في العمارة.
المشهد يدعو للتأمل في كل محاولة لإكتشاف المعاني الجمالية للسور الحديدي الذي يتصدر واجهة المسجد بخط الديواني الجلي لعملاق الخط العربي هاشم محمد البغدادي، وقد علاها الصدأ، دون أن تلتفت إليها إدارة الجامع، أو دائرة الأوقاف، ولم يسلم السور نفسه من التجاوزات، بالصور والإعلانات الرخيصة، وتمدد أكشاك البيع المباشر على الرصيف المجاور، التي أسهمت جميعاً بتشويه الأثر الفني، دون أدنى إحترام لقدسية المكان، فأحالته إلى عالم يعجّ بالفوضى والنفايات. الى المستوى الذي وجدنا فيه صعوبة بالغة في تصوير الجامع والسور، ومن المؤسف ان لاتعثر على من يسهّل عليك هذه المهمة في الدوائر المعنية*.
ان نظرة متأملة لهذا الأثر الفني الرائع الذي يعلو جدار الجامع، يدعونا لمعرفة الظروف التي منحت الحداد (الأمي)، عبد الأمير فرصة تنفيذ العمل بدقّة عالية، ومهارة تثير الدهشة، وتضعنا أمام تساؤلات تفرضها المعايير الفنية التي خضع لها العمل، وأول تلك الأسئلة تتوقف عند القناعات التي توفرت للخطاط هاشم البغدادي في تكليف الحداد أولاً، وقبول ما صنعته يده الماهرة، وهو العامل البسيط في ورش الحدادة في شارع الشيخ عمر، التي لم تدخلها ادوات العمل الحديثة بعد، والسؤال الأهم، كيف تسنى لهذا العامل الفوز برضى الخطاط البغدادي، الذي لا يمنحه لأقرب زملاء المهنة، أو لتلامذته، وهو المعروف بصرامته المهنية والفنية، وشحّة عواطفه، إلا من إمتلك ناصية الإبداع، وسلك الطريق الصعب في التمرين والأداء.
الحداد الفنان عبد الأمير غادر الحياة منذ عقود، وقد ترك أثراً فنياً لم يصل به إلى مستوى الشهرة وهو على قيد الحياة، وظل اسمه مجهولاً لدى الكثير من المعنيين، والمتخصصين والمتابعين، يجدر القول ان عدداً من عباقرة الفن في العالم لم يتلقوا الدراسة في المعاهد والأكاديميات الفنية، لكن هل نستطيع ان نجعل من ذلك قانوناً يخضع له المبدعون؟؟ ليس من شك ان قدرة عبد الأمير في إحياء المادة (الحديد)، لتصبح بقدرٍ أو بآخر رمزاً فنياً وإنسانياً، وضعه من بين الصفوة المختارة من المبدعين، وقدْم خلاصة جهده الخلاق لينتسب به إلى رموز الزمن الذي شهد إنطلاقة التحولات الحداثوية في التشكيل والأدب والعمارة. والمبدعان هاشم وعبد الأمير، أنجزا قطعة فنية متكاملة تستحث الرغبة لخلق الجمال.
ان أحد أسرار هذا العمل الفني المتفرد، تتلخص بالعامل الحداد المنّفذ، وبنوع الخط، وهو الديواني الجلي، الذي يعدّ أحد الخطوط العربية الصعبة، إذ تتميز حروفه بليونة فائقة، وإنحناءات وإمتدادات، وإستدارات، وهو بذلك خط زخرفي، يتطلب تشكيل الفراغات فيه إعتماد النقاط وحركات الإعراب لتمنح الكتلة جمالية فريدة، ضمن نسق منسجم، وإيقاع حروفي، أهّلت الخط ان يكون في مقدمة الخطوط حركة وتنوعاً، ومتعةً بصرية.
الديواني الجلي لا يتحمل إختلالاً في التوازن، أو إنعدام التمييز، قد يخرج من النسق بين الحين والآخر، أحد الحروف صعوداً أو نزولاً، لكنه بهذه الحركة يضيف بعداً جمالياً وتعبيرياً آخر، انه حركة تشكيلية تتعامل مع مفردات الكتلة والفراغ، بقيمة منظّمة ومدروسة، وبسبب هذه المعايير الفنية، أخذ الخط مساره العميق بين أنواع الخطوط العربية الأخرى، كإنعطافة يسطع في بواكيرها نور تعبيري أخّاذ، يظهر أشد وضوحاً وتألقاً حين يطل علينا من يد فنان مثل هاشم البغدادي، ليكوّن إيقاعاً إتحد مع ذاته المبدعة، بذات العامل الحداد وبروحه، التي مكّنته من تطويع الحديد، ليحلّق به بأجنحة حقيقية من حروف، كأنه يريد إمتلاك الحلم، بلوحين متوازيين، متناغمين مع إمتداد الخط وإستداراته، بكل ما يمتلك من قوة ومهارة ليجعل الآية القرآنية (إنما يعمر مساجد الله من آمن بالله واليوم الآخر)، أثراً فنياً رائعاً، وحواراً لتكوينات تتكرر على امتداد السور، تتآين ذراتها بفعل طاقة خفية، تحمل الكنز المخبوء في طاقة الحداد عبد الأمير الإبداعية، وهو تنفعل وتتعامل مع الحديد شداً وإنبساطاً، وفي يده التي صنعت هذا السحر ووهبته كأثر جمالي خالد، في صبره، وفي تأنيه، وفي قلقه المفعم بالتداعيات، ولعل هذه الرفقة التعبيرية، هي العنصر الأهم في إبداع هاشم البغدادي، وعبد الأمير.
هذا الأثر بإعتقادي لا ينفصل عن تاريخ الفن ذاته، إذا أستطعنا أن ندلّ على التوافق القائم بين المبدعين، قيمتان إذاً تحققتا في هذا التجانس في غمرة عاطفة مستديمة من صنع الجمال، كل التفاصيل مفروشة بذكاء وعناية تامة، ونحن إذ نتأملها بعين المحاور والناقد معاً، نشعر أن عيناً تراقبنا من تلك الدواخل المتعاشقة..
جمال العتّابي
.............................
* أود أن أقدم خالص شكري وتقديري لصديقي الفنان المعماري د. خالد السلطاني الذي أنقذ هذه المقالة من محنة حقيقية، إذ لولا لقطاته الجميلة التي يحتفظ بها في (كنزه) الثر، لكان مصير المقالة الإهمال، وعدم النشر، فأسعفها بتفاعله النابض بالجمال ، تحية له ولقلبه العامر بالحب.