كتب واصدارات
نزار سرطاوي: الأرض والإنسان في "البحث عن الجذور" للكاتب سميح مسعود
قبل نحو ستة أعوام دعاني الصديق الشاعر والاقتصادي والكاتب الفلسطيني الكبير الدكتور سميح مسعود لأشارك في تقديم كتابه حيفا.. برقة - البحث عن الجذور: الجزء الثاني في حفل إ‘شهار الكتاب، الذي كان قد صدر لتوه عن دار "الآن ناشرون وموزعون" في عمان. اليوم أستخرِجُ من أرشيفي الورقة التي قدمتها في حفل الإشهار ذاك، بعد أن علمت أن الكاتب بصدد إصدار الجزء الرابع من الجذور. قلت له حين هاتفني يزفّ إليّ البشرى: "يا أبا فادي، كنا نتحدث عن جزئين، ثم تحول الكتاب بصدور الجزء الثالث إلى ثلاثية. أما عند صدور الجزء الرابع فسوف نشير إليها باسم الرباعية، ولعلنا نحتفل به مع احتفالنا بعيد ميلادك الرابع والثمانين." ضحك وهو يقول: "بل قبل ذلك إن شاء الله".
وفيما يلي نص المقالة التي أشرت إليها:
مقدمة: كتاب وكاتب:
كتاب حيفا.. برقة - البحث عن الجذور في جزئه الثاني هو رحلة يقوم بها سميح مسعود في ذلك الجزء من فلسطين الذي ينتمي اليه، متمثلًا في الجليل والكرمل وبرقة وما حولها باحثًا عن جذوره في المدن والبلدات الفلسطينية، ويلتقي بأعداد كبيرة من أهالي تلك المناطق، ليستمع من كل واحد فيهم إلى حكاية تربطه ببرقة، بلدة الآباء والأجداد، أو بواحدة من عائلاتها.
البحث عن الجذور أشبه بالغوص تحت شجرة تين تمتد جذورها إلى مسافات بعيدة. وهو أيضًا رحلة بحث عن الذات – الذات ببعدها الشخصي، والذات باعتبار أنها تمثل نموذجًا لأبناء الشعب الفلسطيني، سواء أكانوا من الصامدين في أراضيهم وبيوتهم، أو من أولئك الذين شردتهم العصابات الصهيونية، فانتشروا في شتى بقاع الأرض. يقول في مقدمة الكتاب:
سجّلت فيه "شظايا أجزاء موجزة من جذوري في بلدي التي تمتد على اتساع المكان في مسقط رأسي حيفا وقريتي برقة، وأبرزت على إيقاعها مشاهد من جذور أناس غيري من مدن وقرى فلسطينية أخرى، استحضرت فيها ببؤر لاقطة جزءًا مما تختزنه ذاكرتي عن أيام مضت في فلسطين عشتها قبل النكبة والهزيمة" (ص. 7).
إنه، كما يقول الكاتب، رحلة بحث عن الجذور "بالبعد الروحي والمعنوي للمكان" (ص. 9).
أما الكاتب فهو الدكتور سميح مسعود، الذي يكاد يبلغ ثمانين حولًا، ولكنه لم يسأم "تكاليف الحياة" كما سئمها الشاعر العربي القديم. هو سميح الاقتصادي، الباحث، والإداري. وهو سميح المؤرخ، الرحّالة، الأديب، والشاعر. لكنه قبل كل شيء وبعد كل شيء، سميح العاشق لأرضه، الوفي لأبناء شعبه.
نموذج العلاقات في البحث عن الجذور:
حين نتحدث عن الجذور، فإننا نتحدث عن شبكة واسعة تمتد في الأرض عميقًا وبعيدًا، أو بتعبير آخر عموديًا وأفقيًا. الامتداد العمودي هو في المقام الأول من شأن المؤرخ، ورغم أن الكتاب يحتوي إشارات تاريخية عابرة اقتضاها السياق، كحديثه مثلًا عن نابليون وإعدامه لأحد مناضلي برقة، وعن تسمية مدينة شفا عمرو نسبةً إلى الصحابي عمرو بن العاص، أو ربما إلى ظاهر العمر الزيداني، فإن الكتاب يركز على البعد الأفقي، الذي يتمثل في زياراته ولقاءاته في فلسطين بحثًا عن الجذور.
ورغم أن البعض قد يضعون الكتاب تحت تصنيف السيرة الذاتية، فإن الكاتب يرسم فيه مجموعة من العلاقات والتشابكات اللافتة بين الأرض والإنسان من ناحية، وبين الإنسان والإنسان من ناحية أخرى.
العلاقة الأولى ثلاثية: طرفاها الأول والثاني هما الأرض والإنسان والطرف الثالث هو الكاتب، باعتبار أنه يعرض رؤيته لهذه العلاقة. ولعل الشكل المثلث هو أول ما يخطر ببالنا لتمثيل هذه العلاقة.
لكن المثلث، بزواياه المتباعدة ونقاط الالتقاء المحدودة فيه، لا يمثل هذه العلاقة تمثيلًا صحيحًا. لذا أقترح شكلًا هندسيًا آخر، هو الدائرة. فهي الأقرب إلى توضيح العلاقة كما يطرحها الكاتب. وهذا التمثيل يأتي بصور لا حصر لها. لكنني سآخذ بصورة "الدوائر ذات المركز المشترك"، وسأكتفي بنموذجين منها.
المنوذج الأول يتألف من ثلاث دوائر، تمثل دائرته المركزية الكاتبَ، لأنه هو مركز الرؤية، أو هو المصدر الذي يلقي الضوء على الأرض والإنسان. تأتي بعد ذلك الدائرة الثانية التي تمثل الإنسان. والإنسان هنا هو الشعب الفلسطيني الصامد على أرض فلسطين، وتحديدّا أولئك الذين التقى بهم سميح مسعود في رحلته. أما الدائرة الثالثة فهي الأرض – أرض فلسطين التي تحتوي كل هؤلاء، ومن جملتهم الكاتب.
وقد انطلق في رحلة بحثه عن الجذور إلى الدائرة الثانية، التي تمثل كل أؤلئك الذين ينتمون مثله إلى برقة، لكنهم رحلوا أو رحل آباؤهم وأجدادهم إلى بقاع اخرى في الداخل الفلسطيني أو الشتات. فبحثه إذًا هو السعي لاستكشاف للعلاقة بين هؤلاء وبين الدائرة الثالثة – الأرض التي ينتمون إليها.
أما النموذج الثاني للدوائر ذات المركز المشترك فيمثل العلاقة بين الأرض والإنسان كما يطرحها سميح مسعود بصورة غير مباشرة في كتابه. فالصورة الأكبر هي الشعب الفلسطيني بأجمعه، سواء كان يقيم على أرض فلسطين، أو في الشتات. ويتكون هذا النموذج من دائرين: الصغرى في المركز وهي الأرض، أرض فلسطين، والكبرى هي الشعب الفلسطيني المنتشر في أنحاء المعمورة.
والحركة بين الدائرة الكبرى والصغرى لها اتجاهان: الاتجاه الأول من الدائرة الأولى إلى الثانية، وهذا يشير إلى خروج الشعب من أرضه التاريخية إلى المنافي، أما الاتجاه الثاني، الذي يسير بالاتجاه المعاكس، نحو المركز، فيتمثل إما بالعودة إلى فلسطين، كما يفعل الكاتب نفسه من حين لآخر، أو على الأقل في حلم العودة إليها. ولعل في نقل جثمان الفلسطيني البرقاوي البارز حسن راغب شبيب من الشتات إلى فلسطين، ودفنه في تراب برقة، رمزًا يمثل تحقيق هذا الحلم بأبهى صوره.
أما النموذج الآخر الذي يرسمه الكاتب، وهو الذي يتصل بالعلاقات الإنسانية، وتحديدًا العلاقة بين أبناء الشعب الفلسطيني الواحد، متمثلًا في بحثه عن جذوره وامتدادها في البلدات الفلسطينية بصورة خاصة، وفي الشتات أيضًا، فهو نموذج يستند إلى نظرية تسمى: "درجاتٌ ستّ من الانفصال". وهذه النظرية مبنية على فكرة سلسلة الصداقات بدءًا من الصديق وصديق الصديق،... وهكذا في متوالية لا تتجاوز بحدها الأقصى ست درجات. وهذه النظرية تعود إلى كاتب ومسرحي وشاعر ومترجم هنغاري يدعى فريجيش كارينتي قدم فكرتها عام 1929 من خلال قصة قصيرة بعنوان "روابط متسلسلة". وفي عام 1990 التقط الكاتب المسرحي الأميركي الإيرلندي جون غوير الفكرة وأشهرها من خلال مسرحيته، "درجات ستّ من الانفصال".
لا أعلم إن كان سميح مسعود قد اطّلع على هذه النظرية. لكنه بالتأكيد طبقها تطبيقًا جيدًا أتاح له اللقاء بآلاف الفلسطينيين في الوطن والمنافي. وهذا واضح في مسيرة بحثه عن الجذور: صديق يرشده إلى صديق... وهكذا دواليك. ولا احسبه احتاج إلى اكثر من درجة أو درجتين في كافة اتصالاته.
بعض الملامح الكتابة في البحث عن الجذور
- لم يتطرق سميح في كتابه إلى الجانب السياسي للقضية ولا إلى جدلية الصراع العربي الصهيوني في فلسطين. بل اكتفى بتسجيل جولاته ومشاهداته ولقاءاته بكل تفاصيلها. فلسان حاله يقول: هذه أرضي، وما دامت أرضي، فإنها ليست لغيري.
- لم يتطرق سميح مسعود في حديثه عن رحلته إلى اليهود في فلسطين إلا بصورة عابرة جدًا. لقد تحدث عن جولاته التي استغرقت أكثر من شهر متجاهلًا تواجد اليهود على الأرض، رغم أن العرب يشكلون نسبة لا تزيد عن 20% من السكان، مع الإشارة إلى أن أهالي الجليل من الفلسطينيين يمثلون ما لا يقل عن 50% من سكان تلك المنطقة. ولو أن قارئًا لا يعرف عن الاحتلال الصهيوني قرأ الكتاب، لما خطر بباله أن سميح يتجول في بلاد محتلة.
- سجل سميح مسعود معاناة الشعب الفلسطيني بصورة ذاتية مليئة بشحنات عاطفية، متمثلًا مشاعره هو كنموذج للإنسان الفلسطيني بحنينه وبمعاناته. يقول في الفصل 23: "ها أنذا أعود إلى شارعي أسير فيه وسط أطلال بيوت ومحلات أغلقت يوم سقوط حيفا وبقيت مغلقة طوال السنوات الماضية". ويستطرد في الوصف إلى أن يقول:
وفي لحظة هدوءٍ وادعة برز أمام عيني شريط مليء بصور خاطفة كثيرة، تتلاحق صورةً تلو أخرى مزدحمة بالمشاعر، تكاد تكون كلها لأمي وأبي... استسلمت لحظتها لذكرى أيامهم بأشواق هائجة، ولم أتمالكك نفسي من البكاء (ص. 210)
- سميح لا يفصل بين الأرض والإنسان، لا يردد ما قاله الشاعر: "وما حب الديار شغفن قلبي / ولكن حب من سكن الديارا". فهو يستعرض ذكرياته عن حيفا وشوارعها وبيوتها ومحالها المهجورة، ويتذكر لحظتها قولًا مأثورًا لمفكر هندي قديم: "إن البيوت تُنسى مع رحيل أولئك الذين يغادرونها". ويعلق على ذلك بقوله: "إن نظرة أولية بسيطة إلى بيوت حيفا تؤكد أن هذه مقولة تعطي صورة مغايرة لحقائق الأمور، وتثبت أن البيوت جذور مهمة تبقى بعد رحيل أصحابها..." (ص. 210).
خلاصات
يؤكد الكتاب على مجموعة من الأفكار المتعلقة بالقضية الفلسطينية، لعل من أهمها:
- أن الشعب الفلسطيني شعب حي بكل ما في الكلمة من معنى، وذلك من خلال استعراض إنجازاته على الأرض الفلسطينية وفي الشتات. وفي هذا رد على الفكرة التي روجت لها الحركة الصهيونية، والمتمثلة في مقولة: "شعب بلا أرض وأرض بلا شعب".
- أن من الواجب السعي إلى المزيد من التقارب بين أبناء البلد الواحد، فصلات القربى والدم تجمع بين أبناء فلسطين. فينبغي علينا دائمًا أن نسمو على الصراعات بكافة أشكالها: المذهبية والطائفية والفكرية والإقليمية والاجتماعية والعشائرية والطبقية وسواها. فوحدة الشعب الفلسطيني بكل مكوناته هي واحدة من المقومات الأساسية لوجوده ونضاله من أجل استعادة حقوقه المشروعة. وفي هذا الإطار فإن من الضرورة التركيز بصورة خاصة على التآخي الاسلامي المسيحي، الذي يشكل نموذجا يحتذى في كل أقطار العالم.
- أن من واجب الجيل القديم أن يحرص على ترسيخ الهوية الفلسطينية لدى الأبناء والأحفاد، حتى تستمر جذوة النضال بكل أشكاله مشتعلة إلى أن يعود الحق لأصحابه. وإذا كان اليهود يعودون إلى نصوص العهد القديم التي تنتمي إلى نحو ثلاثة آلاف عام، رغم ما تمتلئ به هذه النصوص من أساطير، وما تعج به من دس وتزوير، فإن التراث والتاريخ الفلسطيني بحديثه وقديمة ينبض بالحياة ويستند إلى حقائق ثابتة لا تشوبها شائبة.
- أن نضال الشعب الفلسطيني يأخذ أشكالًا متعددة ليس أقلها الصمود في أرض الآباء والأجداد. وفي هذا السياق، فإنّ من الواجب إعادة الاعتبار إلى فلسطينيي 48، الذين استطاعوا بصمودهم الحفاظ على الكثير من التراث الفلسطيني وحمايته من الضياع، والذين يشكلون شوكة في حلق الاحتلال الصهيوني.
- أن من الضروري بذل كل الجهود للتعريف بالقضية الفلسطينية بأبعادها التاريخية والجغرافية والاجتماعية على المستوى الفلسطيني والعربي والعالمي.
بين مدينتين:
فيما يتصل بالمدن اختار سميح مسعود أن يتنقّل بين مدينتين في فلسطين المحتلة للبحث عن الجذور: اختار حيفا مسقط رأسه واختار برقة قرية أبائه وأجداده. وأسميها هنا مدينة لاعتبارين: الأول أن كل قرية من القرى الفلسطينية التي ما زال سكانها يعيشون فيها كبرت وامتدت وتحولت إلى مدينة صغيرة. والثاني أن سكانها الراحلين لو عادوا إليها لتضاعفت ضعفين أو ثلاثة. ولعل عدد أهالي برقة الذين يسكنون فيها والذين رحلوا منها يقترب من أربعين ألف نسمة.
ثمة مدينتين أخريين أعطاهما الكاتب حيّزًا مهما من كتابه. الأولى هي شفا عمرو، التي زارها مرتين والتقى بعدد من أهلها الذين ينتمون في أصولهم إلى برقة. وقد تعرف من خلال لقاءاته هناك إلى آخرين يعودون بأصولهم إلى برقة، ولديهم الكثير من المعلومات التي تهم الكاتب في رحلة بحثه عن الجذور. اما الثانية فهي بلدة يانوح الدرزية الواقعة في الجليل الغربي. في هذه البلدة ثمّة عائلة كبيرة تعود أصولها إلى برقة. وقد زار سميح مسعود البلدة والتقى بسكرتير مجلسها المحلي غالب سيف، الذي يرفض أبناؤه الانخراط في الخدمة العسكرية المفروض على أبناء الطائفة، ويزج بهم في السجون بسبب ذلك.
خاتمة:
كتب سميح مسعود في صفحته على الفيسبوك يوم 30 آذار /مارس بضعة سطور تحت عنوان "لا بد من المغرب وإن طال السفر"، قال فيها:
أزور هذه الأيام المغرب للتعرف على جذر حيفاوي عريق، تغور أطرافه بعمق في أرض مدينة الرباط على مقربة من نهر أبي رقراق، أتلمس حوله شبكة معلومات تتزاحم في أحاديث حميمة يُبهرني سماعها ، تؤكد على ضرورة البحث عن الجذور في كل مكان، وهذا ما أفعله الآن بنفس النهج الذي اتبعته في الداخل الفلسطيني، لتجميع المادة اللازمة للجزء الثالث من كتابي، وهذا ما تحدثت عنه اليوم في لقاء مع مجموعة طلاب ماجستير ودكتوراه من كلية العلوم القانونية والاقتصادية والاجتماعية في جامعة محمد الخامس، دعاني للقاء بهم الصديق الحيفاوي الدكتور سعيد خالد الحسن الاستاذ في نفس الجامعة، وهو صاحب ذاكرة خصبة تزدحم بقطوف حياتية عن أيام أهله في حيفا، يستدعيها بتعبيرات متدفقة ودلالات عميقة سيزدان بها كتابي.
رحلة البحث عن الجذور هي إذن مستمرة. والكاتب يعدنا بجزء ثالث نتعرف من خلاله على المزيد من الصلات التي تربط أرض فلسطين بأبناء فلسطين سواء أكانوا مقيمين على أرضها أو منتشرين في المنافي.
بقلم نزار سرطاوي