أقلام حرة

علياء التميمي: حين يخطئ الله في فم الفقيه

منذ قرون والعالم الإسلامي يعيش تحت سلطة الفتوى أكثر مما يعيش تحت سلطة العقل أو القانون. الكلمة التي ينطق بها الفقيه كانت تُعامل في كثير من الأحيان وكأنها وحي نازل من السماء.. لا تُناقش ولا تُراجع. ومع كل اكتشاف جديد أو فكرة لا تشبه المألوف كانت تُطلق الفتاوى تجرم الجديد حتى قبل أن تفهمه.. وتلعن المختلف قبل أن تسمع صوته.. تحريم وتكفير وتخويف..

وهكذا تحولت الفتوى من اجتهاد بشري محدود إلى قيد مقدس يُكمم الحياة ويشل التفكير. لكن الزمن لا يرحم الجمود والعقول التي خنقها التحريم بالأمس هي التي تضحك اليوم على ما كانت تخافه..

إليكم بعض الفتاوى المجنونة.. التي ستظل وصمة تلاحق هذه المنظومة المعرفية:

تحريم الطباعة: حين دخلت الطباعة إلى الدولة العثمانية في القرن السادس عشر أصدر فقهاء كبار فتاوى بتحريمها بحجة أنها بدعة تُفسد الدين وتحرف القرآن.. ومُنع المسلمون من الطباعة نحو قرنين.. بينما كانت أوروبا تطبع آلاف الكتب وتفتح الجامعات وتبني نهضتها. هذه الفتوى وحدها كانت كافية لتأخير العالم الإسلامي أكثر من مئتي عام عن ركب التقدم العلمي والمعرفي.. فقط لأن فقيها خاف من آلة تكتب أسرع منه.

تحريم القهوة: في القرن السادس عشر.. أفتى بعض فقهاء مكة والقاهرة بحرمة القهوة بزعم أنها تسكر وتلهي عن الذكر وتجمع الناس على اللهو. وحدثت مواجهات عنيفة في مصر بسبب تلك الفتوى..  لكنها اليوم تُقدم في مجالسهم نفسها بل وتُقدم في باحات المساجد والمآتم.  الفتوى ماتت والقهوة بقيت.

تحريم التصوير الفوتوغرافي: حين ظهرت آلة التصوير في القرن التاسع عشر أفتى بعض العلماء بتحريمها لأنها تشبّه بخلق الله فمنع التصوير لفترة في المدارس والمستشفيات وحتى في توثيق الأماكن المقدسة. واليوم.. لا يوجد شيخ أو رجل دين إلا وصورته على غلاف كتاب أو بطاقة هوية أو بث مباشر للدروس الدينية نفسها. سقط التحريم وبقي الدليل على جهل من نطق به.

حرمة التبرع بالأعضاء وغسيل الكلى: وحرب الفقهاء على الرحمة حين ظهرت عمليات نقل الأعضاء وغسيل الكلى.. قال بعض الفقهاء إنها تغيير لخلق الله أو تعدٍ على حرمة الجسد.

ومع الزمن وتغير الوعي انقلبت الفتوى إلى نقيضها فأصبح ما كان حراما عملا إنسانيا عظيما اليوم.

ختان الإناث: جريمة باسم الطهارة.. على مدى قرون شجعت فتاوى كثيرة على ختان الإناث رغم غياب أي دليل قرآني صريح عليه.. وقد بُرر بأنه حفاظ على العفة... ومع تطور الوعي الطبي والحقوقي بدأت المؤسسات الدينية نفسها تتراجع وتقول إنه عادة لا أصل لها في الدين.. رغم كل الضحايا.  أي أن ما كان طهارة في زمن صار اليوم جريمة.

وفي العالم الإسلامي الشيعي أيضا.. ظهرت فتاوى لا تقل غرابة وجنونا.. في بدايات القرن العشرين حُرم الراديو والتلفاز بدعوى أنه صوت الشيطان.. واعتبر بعض المراجع أن تعليم البنات في المدارس فساد للأخلاق. كما رفضوا التلقيح الصناعي ونقل الدم لكنها كلها تلاشت لاحقا بصمت.. دون اعتذار أو مراجعة. وكأنها لم توجد أصلاً..

هذه الفتاوى التي ماتت ليست مجرد أخطاء عابرة في تاريخ طويل.. بل شواهد على سقوط مبدأ بأكمله.. مبدأ أن أحداً يمكنه احتكار الحقيقة باسم الله.. هذه الأحكام التي كانت يوما تهز عروش العقول ويرضخ لها الإنسان والمجتمع وينظر اليها بوجل واحترام.. صارت اليوم تثير الضحك والاستغراب.. ولا أدري هل يحق لنا أن نسأل اليوم "بهدوء أو بسخرية أو بألم": هل كانت تلك الفتاوى صائبة في زمانها؟ هل اعتذر عنها أصحابها حين اكتشفوا أنها لم تكن من الله؟ أم أنها نُسيت ببساطة واعتبرت نزوة عقل؟ المفارقة الكبرى أننا ورغم كل هذا ما زلنا نعيش في دائرة مشابهة. ما زلنا نحمل في وعينا وواقعنا فتاوى جديدة وما زلنا نصدق أن رجال الدين أو الفقهاء أو المفكرين  يمتلكون مفاتيح الصواب المطلق وربما نحن الآن نعيش مرحلة أخرى من الجنون.. نتمسك فيها بيقين سيسخر منه أبناؤنا كما نسخر نحن من فتاوى الطباعة والقهوة والتصوير. ولا أدري متى علينا أن ندرك إن الإنسان أكبر من الفتوى وأوسع من النص وأقدر على أن يخطئ ويتعلم ويصحح دون أن يرفع رأسه إلى الموتى طلبا للإذن بالفتوى وسن القانون..!

(ربما سيأتي زمن قريب ينظر فيه أحفادنا إلى كثير من مقدساتنا وقوانينا الحالية كما ننظر نحن إلى تلك الفتاوى الميتة بدهشة وبشيء من الأسى.. وكثير من الضحك).

***

علياء التميمي

في المثقف اليوم