أقلام حرة
علاء اللامي: عن النسخ العراقية والعربية من زاهي حواس

لعل تدهور الخطاب العلمي والأدبي والثقافي عموما في الإعلام الحديث من الأمور التي لا تحتاج إلى كثير جدال. وما حدث مؤخرا مع الآثاري المصري زاهي حواس في لقائه بالإعلامي "البودكاستر" الأميركي جو روغان والذي يتابع برنامجه الحواري 20 مليون متابع، وبعدد مشاهدات تجاوز أربعمائة مليون مشاهدة، ليس أمرا جديدا إلا في حدود معينة.
نقطة الضوء الباعثة على الأمل هي أن غالبية أفعال الجمهور المصري على مواصل التواصل الاجتماعي جاءت هذه المرة وعلى غير المتوقع موضوعية وبعيدة عن منطق "وما أنا من غزية إن غوت..." وانتقدت سلوك الشخص المذكور بحدة شديدة حرصا على سمعة بلادها وتراثها وكان هناك من دافع عنه في مواجهة عنجهية الإعلامي الأميركي.
إن غالبية المتحدثين في برامج حوارية كهذه في العالم العربي ومنه العراق لا يختلفون كثيرا عن السيد حواس، ربما نستثني بعض صناع المحتوى "البودكاسترات" اللبنانيين لرصانتهم واحترامهم لعقول جمهورهم.
أما عراقيا، فأنت لا تعدم أن تجد آثاريا عراقيا يكرر بعض المعلومات الخاطئة أو التي لا دليل عليها من قبيل وجود بيت النبي إبراهيم في مدينة أور الآثارية رغم أن أهم الآثاريين العراقيين المعروفين بعلميتهم فندوا تلك الخرافة ذات المصدر التوراتي، أو "باحثا" آخر يزج نفسه في حكايات طائفية لا يعتد بها بل هي أقرب إلى الخرافات المتكرسة بفعل التكرار فتجده يشرح لك بجدية معجزة إخراج الصخرة التي اتكأت عليها مريم أم عيسى النبي من بئر تراثي قديم في جامع بضواحي بغداد وباحث آخر لا غبار على رصانته في أبحاث عديدة يكرر مناكفات القوميين والبعثيين حول الأصل الهندي والسندي للعراقيين الجنوبيين وفق نظرية "ابن القاسم الثقفي".
وكذلك الحال مع السيد حواس، أشهر آثاري مصري في الإعلام ووزير الدولة لشئون الآثار المصرية السابق، ومدير آثار الجيزة، حين سأله روجان عن كيفية بناء الأهرامات وصخورها وهي بهذا الثقل والضخامة، في سياق اقتناع روغان بأن بناة الأهرام جاءوا من الفضاء الخارجي أو من القارة المفقودة أطلنطس - وهي نظرية مبتذلة وغير علمية ولكن الرد عليها كان ينبغي أن يكون بطريقة رصينة مسنودة بالأدلة العلمية، ولكن حواس أجابه بأنها بُنيت بواسطة السحر الفرعوني - والعهدة على ما نقل محتوى اللقاء لأنني لم أحصل عليه كاملا بلغته الأصلية وربما كان الرجل يتهكم رغم أنه في موضع آخر من الحوار تكلم عن قيام أحد الفراعنة بذبح معزى ثم أعادتها الى الحياة ليصل إلى الحكمة...إلخ -! وحين يسأله محاوره عن المصدر الذي أخذ منه هذه المعلومة أو تلك يقول له: من كتابي. فيسأله المحاور: وأين هو كتابك؟ فيقول حواس في حاسوبي "لابتوبي" الشخصي. فيسأله وأين هو هذا اللابتوب فيقول: ليس معي الآن بل تركته في لاس فيغاس!
في العراق والعالم العربي، فإن واحدة من كوارث الثقافة السياسية والعلمية والأدبية هي الارتجال والتعالي والنرجسية الشديدة وعدم التوثيق وطغيان البلاغة الإنشائية على اللغة المعلوماتية والمنطقية الغنية بالأرقام والتواريخ والمعطيات والخرائط والصور...إلخ. ويزداد الأمر سوءا، خصوصا في البرامج الحوارية، فغالبا ما يكون مقدم البرنامج مفتقدا للكفاءة في إدارة الحوار، وجاهلا أو ضعيف الإحاطة بالموضوع، ذا شخصية هشة لا يستطيع قيادة الحوار بسلاسة ومهنية فينسى أحد الضيوف مثلا. وغالبا ما يكون الإعلامي صاحب لغة تعبيرية مأزومة وكسولة يكتفي صاحبها بتكرار عبارات فارغة لا تقول شيئا من قبيل: الكرة الآن في ملعب مَن؟ أو "كيف نلملم الموضوع؟ بماذا تعلق على كلام فلان؟ أو على العكس من ذلك يكون مهذارا يطرح أسئلة طويلة ولا مضمون فيها ولا تعرف تحديدا عما تسأل، وهذه مصيبة غالبية البرامج الحوارية السياسية على الشاشات العراقية حيث المقدم جاهل تم تعينه بالرشوة أو بالواسطة أساسا وقام المخرج أو صاحب القناة بحشو ذاكرته بمعلومات خاطئة أو مضلِّلة أو منحازة لطرف ما ضد طرف آخر.
وفي حالة فقدان القدرة على التحكم بالحوار وعدم سريانه بهدوء ورصانة وتهذيب فتتحول الجلسة الى نوع من سوق الهرج حيث الجميع يتكلم ولا أحد يستمع. أما في البرامج الثقافية والأدبية على قلتها فالوضع أدهى وأمر مع إضافة سلبيات أخرى من قبيل الحذلقة والتشدق بالمصطلحات الميتة والمهجورة واستعراض العضلات الثقافية الهزيلة وطرح أسئلة طويلة ومركبة لا يعرف سائلها عمَّ يسأل والتطرق لموضوعات شاخت وباتت خارج المشهد الثقافي العالمي المعاصر ولم يعد أحد يهتم بها كالسابق مثل البنيوية والتفكيكية والوجودية...إلخ.
أما الضيوف فغالبا ما يأتون إلى البرنامج الحواري كمن يأتي إلى سوق المربد أو عكاظ للمفاخرة والمباهاة. فلا تحضير ولا إعداد ولا وثائق ساندة للأسف دون ان ننتقص من حماستهم ووطنيتهم ولكن هذه هي الحقيقة المؤلمة والتي تجعل جهودهم تذهب سدى.
إن الإعلاميين في العالم الحديث، وخصوصا في دول المتروبول الغربي الاستعماري لم يولدوا إعلاميين ممتازين بما يحقق أهداف الماكنة الإعلامية الظالمة الغربية بل هم راكموا خبرات كبرى واعتمدوا أساليب علمية في عملهم حيث الدقة والثراء المعلوماتي وفنون دس السم بالعسل واللغة الحذرة البعيدة عن القطع والجزم والنأي عن التفاخر البليد بالنفس وحيث يخرج القارئ أو المشاهد بالكثير من المعلومات التي تم دسها بطريقة ذكية سواء كانت معلومات موضوعية إيجابية لدى الإعلاميين المحايدين أو لدى المبرمجين ولهم الغلبة لتخدم السائد الطبقي والسياسي والإمبريالي.
المؤسف أنك تجد - كما حدث مع السيد زاهي حواس- البعض من إعلاميين من صنف النجوم كالإعلامي عمرو أديب من يصفق حتى تحمر ويزعق حتى يخرِّب أوتاره الصوتية من الإعلاميين الرسميين بهذا "الأداء المبهر والرائع" و"الثقافة العميقة" للسيد حواس أو تجد مستشاره هذا الأخير السيد علي أبو دشيش يعرف بأمجاده فيقول (حواس هو ذلك الرجل الذي أُدرج اسمه على قرص مدمج حملته بعثة استكشاف المريخ عام 2003) وبالمقابل تجد من ينظرون إلى الى مقدم البرنامج الأميركي جو روغان وكأنه نبي معصوم لا يأتيه الباطل من خلفة أو من بين يديه لماذا؟ لأنه أميركي ربما، أو لأنه صاحب أشهر وأوسع برنامج حواري بودكاست ولا شيء آخر، قافزين بدورهم على الأسئلة الضحلة والخاطئة التي طرحها أو على العنجهية والتعالي الذي تكلم به مستغلا طريقة حواس المتعنتة والاستبدادية والقاطعة وحتى المضحكة أحيانا في الإجابة!
***
علاء اللامي
.........................
* تجد أدناه مجموعة روابط حول حادثة لقاء روغان وحواس.
* فيديو مع السيدة دعاء حسن تعلق على الحادثة:
*فيديو مع صانعة محتوى هي السيدة مروة أحمد:
https://www.facebook.com/rassdstories1/videos/1775588200056980