أقلام حرة
عبد السلام فاروق: الأهرام ورجالاتها.. سير لا تمس

في حياة الأمم مؤسسات تشبه السفن العابرة للأعاصير، تحمل في طياتها ذاكرة الشعب وقيمه، وتظل صامدة رغم تقلبات الزمن. الأهرام ليست جريدة فحسب، بل هي حكاية مصر مع الكلمة الحرة، ومع رجال نحتوا تاريخها بحروف من نور. وإبراهيم نافع أحد هؤلاء الرجال، فارس من فرسان الكلمة الذين جعلوا من المهنة هيكلا للشرف، ومن النقابة بيتا يجسد كرامة الصحفي.
ليس غريبا أن تثور قلوب الصحفيين اليوم دفاعا عن رجل مثل إبراهيم نافع؛ فالهجوم على الرموز ليس هجوما على أشخاص، بل هو اختراق لـ"الخط الأحمر" الذي يفصل بين النقد المشروع وبين العبث بتراث أمة. نافع لم يكن مجرد رئيس لتحرير الأهرام، بل كان حارسا لضمير المهنة، وبانيا لمؤسسات ما زلنا نرفع رؤوسنا بها، كـ"مبنى النقابة" الذي تحول إلى صرح يذكر الأجيال بأن الصحافة رسالة قبل أن تكون مهنة.
لا يلام أحد إن اختلف في الرأي حول مرشح أو خيار نقابي، فالحرية والاختلاف هما وقود الديمقراطية. لكن الفارق شاسع بين النقد وبين تشويه سيرة رجال صنعوا مجدا لمصر. إبراهيم نافع لم يخلق من فراغ؛ فقد عاش زمنا كانت الكلمة فيه مسئولية، والصحافة بوصلة ترشد الشعب لا أداة للصراعات.
الأهرام مدرسة تخرج منها عمالقة الفكر والأدب، من توفيق الحكيم إلى نجيب محفوظ، ومن هيكل إلى نافع. فكيف يعقل أن يهان رجل كان جزءا من ذاك النسيج الوطني؟! لقد علمنا نافع أن الصحفي "ابن وقته"، يصارع بالكلمة، ويبني بالعقل، ويدافع عن شرف المهنة كأنها كائن حي.
الزملاء الذين ينهضون اليوم لرد الهجوم عن نافع، إنما يدافعون عن ذواتهم قبل أي شيء. ففي زمن الضجيج الرقمي، حيث يختزل التاريخ في "منشور"، ويبادر البعض إلى تشويه الرموز بحثا عن تفاهة الشهرة، يصبح الصمود أمام هذه العاصفة واجبا. وكما قال هيكل ذات يوم: «الرجال لا يموتون إذا دخلوا الذاكرة الجمعية».
لنعلم أجيالنا الجديدة أن حرية الرأي تكمله أخلاق الرأي. نختلف، ننتقد، نفند، لكننا لا نسمح بأن تتحول الساحة إلى مزبلة تلقى فيها جثث الرموز. إبراهيم نافع، ومرسي عطا الله، وأنيس منصور، وآخرون.. هم أوطان صغيرة داخل الوطن الكبير. فلنحافظ على هذه الأوطان، كي لا نصير أمة بلا ذاكرة.
عندما تهز أركان المهنة بزوبعة الاتهامات، تظهر حقيقة المؤسسات العتيقة وأبنائها. الأهرام، التي ولدت قبل قرن ونصف، لم تكن يوما مجرد صحيفة توزع على الأرصفة، بل كانت – وما تزال – حصنا للكلمة التي تضيء ولا تحرق، تنير ولا تذل. وإبراهيم نافع، كسابقيه من عمالقة الأهرام، عرف أن معركة الصحافة الحقيقية ليست في سباق العناوين، بل في بناء الإنسان. فهل ننسى أن مبنى النقابة، الذي يقف شامخا اليوم، كان حلما راود نافعا وأقرانه، فحولوه إلى حجر يصد عن وجه المهنة عوادي الزمن؟
الهجوم على رموز الأهرام والنقابة ليس حدثا عابرا، بل هو اختبار لضمير جيل. وكما كان هيكل يقول: «الرموز لا تورث، بل تكتسب بالعرق والوقت». إبراهيم نافع لم يصل إلى مكانته بمنشور أو خطاب، بل بصحافة كانت ترفض أن تنحني إلا للحقيقة. فكيف نقبل اليوم أن يتحول "اللا مسئولية" إلى سلاح يشوهون به سيرة رجل أدار الأهرام في أصعب لحظات مصر، وحافظ عليها كـ "بيت كبير" يجمع المختلفين تحت سقف الاحترام؟
لا خلاف على أن النقد حق مقدس، لكن الفارق بين النقد والتدنيس كالفارق بين النهر والسيل؛ الأول يروي، والثاني يدمر. نستطيع أن نختلف مع سياسات أي مرشح، أو نرفض نهجا نقابيا، لكن العبث بميراث رجال صنعوا تاريخا هو جريمة ضد المستقبل. هل ننسى أن الأهرام كانت شاهدة على ميلاد أفكار غيرت وجه الوطن؟ وأن نافعا كان أحد حراس هذه الأفكار؟
اليوم، أمام سيل "الرقمنة" و"الترندات"، يخيل للبعض أن التاريخ يكتب بلغة السخرية والإلغاء. لكن الحقيقة التي يعرفها كل من مشى في رحاب الأهرام أن التاريخ يبنى باحترام السابقين، لا بإعدامهم. الزملاء الشباب الذين ينهضون للدفاع عن نافع إنما يوقظون فينا سؤالا: ماذا سنترك لمن بعدنا؟ هل سنكون جيلا محايدا يراقب عبث العابثين، أم حراسا لـ "خط أحمر" اسمه كرامة الرموز؟
قد يظن البعض أن معركة الدفاع عن إبراهيم نافع معركة أشخاص، لكن الحقيقة أنها معركة ضمير. فالأهرام، كصرح إعلامي، لم تنج من العواصف إلا لأن رجالها آمنوا بأن الصحافة "مهمة مقدسة" لا تباع. نافع، كـ "هيكل" زمانه، كان يرى أن الكلمة سلاح ذو حدين: إما أن ترفع أمة، أو تذلها. فاختار دائما أن تكون كلماته سلما يصعد إلى القمة.
ليس دفاعنا عن إبراهيم نافع دفاعا عن فرد، بل هو إعلاء لمعنى يخشى البعض من صعود: أن تكون الصحافة رسالة، لا وظيفة. وأن تكون النقابة بيتا، لا سوقا. وأن نتعلم من رجال مثل نافع وهيكل أن العمر القصير للإنسان يطول إذا زرع فكرة، أو بنى صرحا، أو دافع عن حقيقة.
فلنقل للعابثين: "كفاكم عبثا بتراث من علمونا كيف نكون".
فالأهرام ورجالاتها.. سير لا تمس.
***
د. عبد السلام فاروق