أقلام حرة
نهاد الحديثي: الكتابة ليست رفاهية بل ضرورة فنية واخلاقية

إذا كانت الكلمة هي أولى لبنات التواصل بين البشر، وهي الجسر الثقافي المدعوم بمقتنيات الذهن ومخزون اللاوعي وكذلك عوالم أخرى في آليات التفكير؛ فإنها - طبقاً لما تحمله من أهمية قصوى - أصبحت ضرورة فنية، لابد أن تتمتع بذلك النسق الوهاج الذي ينقلها من مساحة الرفاهية إلى مساحات كبيرة من فن الخطاب الفكري، سواء كان نقدياً أو أدبياً أو سياسياً واجتماعياً وما إلى ذلك، وخاصة مع اتساع تلك المساحات في الفراغ الثقافي على منصات التواصل الاجتماعي، والتي لا ينم بعضها إلا عن مستوى متدنٍ من الوقاحة إن جاز التعبير،،، الكتابة هي كلمة، والكلمة هي جميع ما ينطق به الإنسان سواء كانت مفردة أو مركبة، لكن ما يهمنا هنا هو ذلك الإناء المدرار الذي لابد أن ينتح بالفكر والفلسفة وجميع مدارج الحكمة والتوقد الذهني. وفي هذا القرن الجديد بمدخلاته ومخرجاته من كَلِم يدق في ناقوس الآذان طيلة الليل والنهار، جعلنا بالضرورة نتساءل: هل الكلمة هي رفاهية أم ضرورة فنية؟ البعض ينطق بكلمة فارغة التي لا تحمل سوى خواء فكري تحت رداء التنمق والأناقة وما أكثر المتنمقين في يومنا هذا بزي المظهر وزي الكَلِم؛ لكن الكلمة سرعان ما تكشف ذلك السر الدفين في محتوى كل متحدث حاول اعتلاء المنصة مدعياً أنه سيد المعرفة
يقول أحد الفلاسفة: "لو كانت الكلمة يتحكم فيها الحادث النفسي يحدده العامل البيولوجي تحديداً، والبيولوجي تحدده الوضعية النفسية.. وهنا يكون السؤال: كيف يمكن للعقل إذا كان أسيراً تتحكم فيه الأشياء الخارجية وتسيطر عليه سلسلة من الأسباب العمياء أن يظل عاقلاً؟ وهنا نرجع إلى العقل ووظائف الدماغ المختلفة لضبط الكلمة لأن شرف الراجل كلمته،، يميز شخصية العربي في الادب والتراث، وهنا نذكر قصيدة الكاتب عبد الرحمن الشرقاوي حين قال فيها: (ما شرف الرجل سوى الكلمة، وقبلها صاح بها الامام احمد بن حنبل بمئات السنين، ولذا نحن نتساءل: أين يتمثل شرف الكلمة التي هي سمة شرف العربي بشقيه رجالاً ونساء وخاصة المحسوبين على الثقافة العربية في كلماتهم، وفي تحاورهم، وفي منشوراتهم، وفي علاقاتهم التي كان تتميز بالفروسية عند أسلافهم،؟ وللاسف تحولت الكلمة اليوم وسيلة أو سلاحاً لجذب الانتباه، أو خطف الأضواء، أو التنمر، أو الحصول على مكاسب غيرشرعية، وهو ماعبر عنه لأجيال متلاحقة في كيفية التناول والحوار والمعنى والمدلول وغير ذلك. وفي هذا الشأن يقول الدكتور حسن حنفي في مقال له على منصة (جامعة الأمة العربية) بعنوان الخطاب الثقافي العربي: "كل خطاب يستبعد الآخر، كل خطاب يعبر عن المصلحة وبالتالي يتحول الصراع إلى مصالح
سادتي الاكارم -- الكلمة لم تعد رفاهية، بل يتوجب أن تكون ضرورة فنية. ومدروسة بحرفية ل خدمة الصالح العالم قبل الخاص، في ظل تنوع الكَلِم وتنوع الخطابات بحسب تنوع المصالح حيث إن "العلاقة بين الحوارات هي أشبه بـ"حوار الطرشان"؛ فلا أحد يسمع الآخر، لا سلباً ولا إيجاباً، لا رفضاً ولا قبولاً.. الأعلى صوتاً هو الأقرب إلى الحقيقة، والأكثر كلاماً هو الأعظم برهاناً، والأعظم غنى في البلاغة هو الأقرب إلى قلوب الناس وتصديقهم، والأشد تأثيراً في الناس هو الأكثر حضوراً.. ونادراً ما يحدث تقاطع أو تكامل أو حوار. لا يوجد إثراء متبادل فيما بينهم لتوليد الطاقة اللازمة للفكر. الكلمة هنا كم بلا كيف، صوت بلا صدى، فرقعة بلا إصابة، طلقات فارغة لا تهدف إلى شيء". وهنا تصبح الكتابة رفاهية بدون أي ضرورة فنية
متى ينتهي هذا الصراع، وهذا الاستعلاء، والتنمر، ليعبر بنا نحو الصالح العام وليس بالنظر في مصالحنا الشخصية هذا بالنسبة للنخبة؟ أما بالنسبة للقاعدة العامة من مدعي الفهم والكلمة، فإلى متى ينتهي الخوض في أعراض الناس على منصات التواصل الاجتماعي بكل أنواعها، ليس لشيء سوى جني الأموال من المؤسسات القائمة على هذه المنصات التي ابتلينا بها.
***
نهاد الحديثي