أقلام حرة

همام طه: بين الدولة والعشيرة.. هل الحكومات مسؤولة عن أفعال مواطنيها؟

تبدو ردود الفعل على الإساءة "المفترضة" من بعض المشجعين العرب ضد العراق خلال مباراة كرة قدم، والمطالبات باعتذار حكومات دولهم، وكأنها تعبّر عن إسقاط ثقافي وسياسي، بمعنى محاولة تطبيق مفاهيم تنتمي لسياق اجتماعي أو أيديولوجي معين على سياق مختلف.
ففكرة أن يتم تحميل دولة أو حكومة المسؤولية عن تصرفات مجموعة من مواطنيها في مدرجات ملعب، هي فكرة مثيرة للاستغراب والتأمُّل حقاً!
الدولة ليست عشيرة، والمواطن في الدولة الحديثة ليس "مربوطاً" بديوان العشيرة (كما يُقال في العرف العشائري)؛ ليكون من حقنا، وفق المنطق العشائري، في حال أساء هذا المواطن أن نلجأ إلى شيخ عشيرته ونطالبه بمحاسبته على إساءته أو الاعتذار عن أفعاله. وهو ما يُعرف في الثقافة العشائرية بـ "المكاومة" وتعني تحمّل شيخ العشيرة مسؤولية أفعال أفراد عشيرته، فإذا أخطأ فرد من العشيرة، يُمكن، وفق التقليد العشائري، أن تتم مطالبة شيوخها بالتعويض عن خطئه، كجزء من التضامن العشائري، حيث يُنظر إلى الفرد على أنه ممثل لعشيرته، وليس ككيان مستقل، مما يجعل العشيرة كلها مسؤولة عن تصرفاته.
ليس من المنطقي أن تتعامل الدول مع بعضها كما تتعامل العشائر فيما بينها، أو أن ننقل المفاهيم العشائرية مثل "الفصل" و"المكاومة" و"العطوة" و"الدكة" من المجال العشائري إلى المجال الدولتي والمؤسساتي. فمنطق الدولة الحديثة لا يشتغل بطريقة القبيلة، ومسؤولية المواطن أمام الدولة، ومسؤولية الدولة عن المواطن، يحددهما القانون وليس مجرد انتماء المواطن للدولة.
وهذا ليس تقليلاً من شأن العشيرة، ولكن منطق الدولة الحديثة وفلسفتها يختلفان تماماً عن منطق العشيرة وأعرافها. منطق الدولة يقوم على الفردية والاستقلالية والعقد الاجتماعي، ومنطق العشيرة يقوم على الأبوية والجماعوية والتكافل العصبوي.
كذلك فإن فكرة أن الفرد يذوب في الجماعة، والجماعة تُختزل في الفرد، هي فكرة شمولية وفاشية بامتياز. ففي النظم الشمولية تهيمن الدولة على كل جوانب الحياة، حيث تُلغى استقلالية الأفراد لصالح السلطة أو الجماعة. وفي النظم الفاشية يُعامل الفرد كجزء من الكيان الأكبر (الأمة، الحزب، القائد) وليس ككيان مستقل.
الأمر الذي يجعل ردود أفعالنا على حادثة الإساءة "المفترضة" معبّرةً عن الثقافة العشائرية التقليدية والإرث الأيديولوجي الشمولي اللذين يبدو أنهما ما زالا يؤثران في أنماط التفكير السائدة في المجتمع العراقي.
إن الإسقاط الثقافي والسياسي هو تفسير واقعة أو ظاهرة ما باستخدام مفاهيم ومعتقدات مستمدة من بيئة ثقافية وسياسية مختلفة، دون مراعاة الفروق بين السياقات. وقد حان الوقت للتوقف عن محاولة إسقاط الثقافة التقليدية والإرث الشمولي على فهمنا لفكرة الدولة الحديثة، في العراق، وفي العالم من حولنا.
***
همام طه
...............
ملاحظة (1): وصف المقال للإساءة بأنها "مفترضة" ليس محاولة لإنكارها أو تبريرها أو الدفاع عن المسيئين، ولكن لأن كاتب المقال لم تسنح له الفرصة للتأكّد من صحّة فيديو الإساءة، لا سيّما مع وجود "مزاعم" بأنه "مفبرك".
ملاحظة (2): يحترم هذا المقال جميع أفراد المجتمع العراقي وخياراتهم الشخصية، ولا يسعى للانتقاص من مفهوم العشيرة أو التقاليد والأعراف العشائرية، ولا يهدف للمساس بشعور أو كرامة العراقيين والعراقيات الذي يعتزون بالانتماء لعشائرهم.

في المثقف اليوم