أقلام حرة

محمد سعد: حُرّاس القُرَى من الأولياء الصالحين

بين المعتقد الشعبي والتاريخ

في الرّيف المصري، حيثُ تمتزجُ الأسطورةُ بالتاريخ، ظلَّ الاعتقادُ بأنَّ الأولياءَ الصالحين هم حُرّاسُ القُرَى وأمنُها الروحيُّ مُتجذِّرًا لعقودٍ طويلة. لم تكن مقاماتُهم مجردَ أضرحةٍ لذكرى شخصياتٍ دينية، بل كانت بمثابةِ حُصونٍ رمزيةٍ تحمي القُرى من الشرورِ والمِحَن. ومع كلِّ مقامٍ يُهدَم أو يندثر، ترتفعُ أصواتُ التحذيرِ من حلولِ الخرابِ والنهبِ، كما حدثَ في قصةِ مقامِ سيدي الأزمازي، الذي ارتبطت به حكاياتٌ من نَسجِ الذاكرةِ الشعبية.
الأولياءُ الصالحون… أسطورةُ الحمايةِ والعقاب
عبرَ التاريخ، شاعت في الرّيفِ المصريِّ معتقداتٌ تربطُ بين الأولياءِ الصالحين والحمايةِ الإلهية. فكان الناسُ يؤمنونَ بأنَّ وجودَ مقامٍ لوليٍّ من أولياءِ الله الصالحين في القريةِ هو بمثابةِ درعٍ واقٍ ضدَّ الكوارثِ، سواءٌ كانت غاراتِ اللصوصِ، أو انتشارَ الأوبئة، أو حتى الفِتنِ الداخلية. وفي المقابل، كان هدمُ أو انتهاكُ حُرمةِ هذه المقاماتِ يجلبُ الغضبَ الإلهيَّ، حيثُ تنتشرُ اللّعناتُ، ويحلُّ الخرابُ على القرية.
هذا الاعتقادُ ليسَ حديثَ العهد، بل يمتدُّ إلى قرونٍ طويلةٍ، حيثُ ارتبطت الكثيرُ من المدنِ والقُرى المصريةِ بأضرحةِ مشايخَ وأولياءَ، مثل سيدي عبد الرحيم القنائي في قنا، وسيدي المرسي أبو العباس في الإسكندرية، وسيدي أبو الحجاج في الأقصر. وكان يُعتَقَدُ أنَّ هؤلاءِ الأولياءَ لا تزالُ أرواحُهم تُراقبُ المكانَ، وتحفظُهُ من الشر.
قصةُ مقامِ سيدي الأزمازي… بين الهدمِ والخوفِ من اللعنة
في قريتنا، كان مقامُ سيدي الأزمازي واحدًا من هذه الحُصونِ الروحية، حيثُ ظلَّ لسنواتٍ طويلةٍ محطَّ أنظارِ الأهالي الذين يقصدونهُ للتبرُّكِ والدعاءِ. لكنَّ الزمنَ لم يكنْ رحيمًا به، فمعَ التغيّراتِ العمرانيةِ والاجتماعيةِ، تعرّضَ للهدمِ والاندثار.
حينها، وقفَ رجلٌ من أهلِ القرية، علي الدمرداشي، رحمهُ الله، محذِّرًا من عواقبِ هذا الفعل، قائلًا: "سوف يحلُّ على القريةِ الخرابُ والنهبُ والسرقةُ لأننا هدمنا مقامَ سيدي العارفِ بالله الأزمازي!". وبالفعل، بدأ البعضُ يربطون بين الأحداثِ السلبيةِ التي وقعت لاحقًا وبينَ غيابِ المقام، في صورةٍ من صورِ الاعتقادِ الشعبيِّ الذي يرى أنَّ الأولياءَ الصالحين لا يغيبُ أثرُهم حتى بعدَ رحيلهم.
الجانبُ التاريخيُّ للمقامات… بين الدينِ والمجتمع
كانَ للأضرحةِ والمقاماتِ دورٌ بارزٌ في حياةِ المصريين منذ العصورِ الإسلاميةِ الأولى. ففي عهدِ الفاطميينَ والمماليكِ، ازدهرت ظاهرةُ بناءِ القبابِ والمقاماتِ تخليدًا للأولياءِ والمُتصوِّفةِ، وأصبحَ لكلِّ منطقةٍ وَلِيٌّ يُنسبُ إليها. ورغمَ أنَّ الإسلامَ لا يُقرُّ بمفهومِ "الحمايةِ الغيبية" للأماكنِ عبرَ الأولياء، إلا أنَّ التَّصوفَ الشعبيَّ عزَّزَ هذا الاعتقاد، حتى صارَ جزءًا لا يتجزأ من الموروثِ الثقافيِّ.
لكن مع التغيُّراتِ الحديثة، وتوسُّعِ العمران، بدأت هذهِ المقاماتُ تختفي، وبدأتِ المعتقداتُ المرتبطةُ بها تتلاشى تدريجيًا، لكنَّ آثارها لا تزالُ حاضرةً في وجدانِ الأجيالِ القديمة، ممّن نشأوا على قصصِ كراماتِ الأولياءِ وتحذيراتِهم الغامضة.
ما بين الإيمانِ والخُرافة… هل فقدتِ القُرى حُرّاسَها؟
اليوم، وبعدَ أنْ تلاشى الكثيرُ من هذهِ المقامات، يظلُّ السؤالُ مطروحًا: هل فقدتِ القُرى حُرّاسَها الروحيين؟ أم أنَّ الأمانَ لا يرتبطُ بمكانٍ أو شخص، بل بمنظومةٍ أخلاقيةٍ واجتماعيةٍ تحمي المجتمعَ من الفوضى والخراب؟
مهما كانَ الجواب، فإنَّ المعتقدَ الشعبيَّ حولَ حراسةِ الأولياءِ للقُرى سيبقى جزءًا من التراثِ الثقافي، يُروى في الليالي الرِّيفية، حيثُ تلتقي الحقيقةُ بالأسطورة، والخوفُ بالإيمان، في عالمٍ يظلُّ فيه الماضي حاضرًا في تفاصيلِ الحاضر.،،!!
***
محمد سعد عبد اللطيف - كاتب وباحث مصري

 

في المثقف اليوم