أقلام حرة

عدي عدنان البلداوي: انت مثقف.. إذن أنا أراك

من خلال الأحداث المحلية والإقليمية والدولية، المثير منها والخطير على صعيد السياسة والدين والمجتمع والاقتصاد والأمن - منذ بداية القرن الواحد والعشرين حتى يومنا هذا - تبدو الثقافة العربية المعاصرة كطائر امتلك جناحين لكنه لم يتمكن من الطيران. فبرغم ما تنعم به الثقافة من حرية في التفكير وحرية في التعبير وحرية في النشر. وبرغم ما اتاحته حركة التطور العلمي والصناعي العالمي من تقنيات رقمية اختصرت الزمن في سرعة الإتصال والتواصل نتج عنها عنوانات كتب كثيرة جداً، وظهرت المطابع الحديثة، وازداد عدد حملة الشهادات العليا، ومضى الإعلام في تسليط أضوائه على الحركة الثقافية، وتنوعت برامج اللقاء بالمثقفين هنا وهناك، وصار لكثير من الكتاب والباحثين منصاتهم الخاصة على مواقع التواصل الإجتماعي يكتبون ويعلقون وينتقدون ويوثقون. ورغم ان أمنية الفيلسوف الفرنسي فولتير التي تمناها في القرن الثامن عشر بوجود مطبعة وعدد من الفلاسفة قد تحققت اليوم، إلا انّ اعتقاده بقدرة ذلك على إحداث ثورة في العقول لم يتحقق لحد الآن.
ترى ما بال الكتب التي اغرقها المغول في نهر دجلة في بغداد، لم تعلم الماء كيف يحيي في عروق الثقافة ظمأ الثورة كل هذه السنين.
وما بالها ضمائر القوم لم تعرق عندما ابتلت عروقهم بعد انطلاق مدفع الإفطار.
وما بال كثيرين لم يتعلموا من عطش الحسين عليه السلام في كربلاء، ان الظمأ لا يكون الى الماء حين (تستطيع بندقية يرفعها جبان ان تسحق الإنسان..)
ترى ماذا كان سيكتب عبد الرحمن الكواكبي في "طبائع الإستبداد" بعد وصول (دواعش) سوريا الى السلطة.
ترى لماذا لم تعد حقول القمح تذكّر القوم بجوع الفقراء وسلة الغذاء، ألأن لون الحبوب الذهبي قد سوّل لنفوس التافهين النظر الى سعر الذهب في السوق فشيطن تفكيرهم بالأرض فجعله تفكيراً تجارياً أرغم الزراعة على مغادرة مكانها، فأصبحت البلاد سوقاً كبيرة، والناس فيها بين مستهلٍك ومستهلَك.
اذا كان قابيل قد ندب حظه وهو يرى (غراباً يبحث في الأرض ليريه كيف يواري سوأة أخيه )، فإنه اليوم يأمر بفتح تحقيق في المجازر التي يرتكبها أتباعه بحق مدنيين وأطفال ونساء هنا وهناك، ثم يعلن أمام الإعلام رفضه واستنكاره لما يحدث في البلاد، مثلما استهجن يزيد بالأمس فعل جنوده بقتل الحسين وانصاره. لغة القوم ما تغيرت، والناس على لسان الشاعر احمد مطر يلعنون ( كل كلمة لم تنطلق من بعدها مسيرة..
ولم يخط الشعب في آثارها مصيره..)
ويلعنون ( كل شاعر ينام فوق الجمل الندية الوثيرة..
وشعبه ينام في المقابر..)
من مشاكل ثقافتنا العربية المعاصرة انها بلغت ما بلغته في مشوار حركتها في عمر الزمن، وهي مكتظة بالقلق الثقافي في شخصية العربي الذي مرّ به عصر التطور العلمي والتقني فنجح في إستخدام أدوات التقنية المتطورة وأجاد توظيفها في خدمة مجالات حياته، لكنه لم ينجح في تطوير نضجه النفسي والعقلي، التطوير الذي عوقته التغييرات والتحولات الكثيرة والمثيرة في العالم العربي كالتغيير السياسي وموجات العنف والإرهاب والإختلال الأمني والإحتلال الأمريكي وثورات الربيع العربي وعورات الخريف السياسي، والسوق العالمية، والمشروع الصهيوأمريكي، ومشروع إسلام الشرق اوسطي الأمريكي..
لا تخلو حياة كل شخص من محطات مقلقة لأسباب متعددة ومتنوعة، لكن ما يدعو الى الحيرة هو ان هذا القلق الثقافي الذي أصيبت به الشخصية العربية في العقدين الماضيين منذ بداية القرن الواحد والعشرين، لم يجد من يداويه.
لأن القوتين الأكثر فاعلية في المشهد الحياتي للمجتمع العربي، قوة الدين وقوة السياسة، لم يكن لهما دور بليغ ومؤثر في مساعدة الناس على تجاوز مرحلة القلق هذه، مما تسبب في ظهور انماط سلوكية غريبة وبعيدة كل البعد عن طبيعة المجتمع، فقد كثرت المشاكل الإجتماعية، واصبحت الأخلاق والقيم والمثل العليا مفاهيماً مهمة وضرورية متى ما استطاعت ان تحقق حضورها الذاتي فقط، في واقع انهكته الإنقسامات السياسية والنعرات الطائفية، الأمر الذي دفع بالعقل العربي المعاصر الى تشكيل خبرته الثقافية بعيداُ عن حضور هاتين القوتين بعدما ظهرت على المجتمع علامات الشعور بالضياع وضعف مقدرة المجتمع والأسرة على معالجة مشاكل الفرد ومواكبة مشاغله بكفاءة عالية كافية لحفظ توازن شخصيته في جوانبها النفسية والأخلاقية والسلوكية والفكرية والعاطفية. لذا صار لزاماً على الثقافة ان تضطلع بدور قيادي ريادي في هذه المرحلة من أجل تمكين المجتمع ثقافياً كي يفرض حضوره كقوة فاعلة مؤثرة في المشهد الحياتي اليوم الذي بات مثقلاً بكثير من الهموم والقضايا الخطيرة والكبيرة ذات المساس المباشر بقيمة وجود الإنسان المواطن.
***
عدي عدنان البلداوي

في المثقف اليوم