أقلام فكرية

مازن جراي: الحرية المشروطة بين وهم الاختيار وسلاسل الترويض

المقدمة: في عالمٍ يُرفع فيه شعار الحرية في كل مكان، ويُروَّج لثقافة الاختيار كأقصى تعبير عن الذات، يبدو الإنسان وكأنه يعيش في فضاءٍ مفتوح يتيح له أن يكون ما يشاء ويختار ما يشاء. لكنّ نظرةً فاحصة تكشف هشاشة هذا التصوّر؛ فما يُقدَّم كحرية غالبًا ما يكون مُصاغًا ضمن قوالب مسبقة، وخياراتٍ محدودة لا تخرج عن المسار المُراد. نختار بين سلعٍ تُسوَّق إلينا، بين أفكارٍ مُعدَّة سلفًا، بين نماذج للحياة تُفرض كـ"عصرية" أو "ناجحة"، بينما نُمنَع من تجاوز الخطوط غير المعلَنة التي ترسمها السلطة، أكانت سياسية أو اقتصادية أو ثقافية. إن ما نعيشه قد لا يكون حرية بقدر ما هو وهمٌ مُتقن التصميم؛ حريةٌ مشروطة، تُتاح فقط في حدود ما لا يُربك النظام. من هنا، تنبع إشكالية هذا المقال: هل نحن أحرار حقًا؟ أم أننا نعيش تحت وطأة اختياراتٍ محدَّدة، وصيغٍ مروَّضة من الحرية تُخدّر وعينا وتُفرغ إرادتنا؟ هل الحرية كما نمارسها اليوم هي تعبير عن ذواتنا، أم مجرد شكلٍ ناعم من الطاعة؟

الحرية في الفلسفة: المفهوم المثالي

منذ فجر الفكر الفلسفي، شكّلت الحرية جوهر تساؤل الإنسان عن ذاته ومصيره، بوصفها أعلى مراتب الوجود الواعي. لم تكن الحرية مجرد قدرة على الفعل، بل قدرة على التعقّل والاختيار الأخلاقي في عالم يضجّ بالإمكانات والتناقضات. عند أفلاطون، اقترنت الحرية بالانسجام الداخلي بين النفس والعقل، بينما رأى أرسطو أنها تتجلى في ممارسة الفضيلة ضمن نظام يوازن بين الفرد والجماعة. أما الفلاسفة الحداثيون كـديكارت وكانط، فقد جعلوا من الحرية أساسًا للكرامة والعقلانية، شرطًا لإتيان الفعل الأخلاقي لا نتيجة له. غير أن هذا المفهوم المثالي ظلّ معلقًا بين الرغبة في الاستقلال والتقييد الملازم للعيش المشترك. الحرية، في صورتها الفلسفية، تُفترض كقيمة أولى، لا كمعطى واقعي. إنها، في نهاية المطاف، لحظة وعي بالقدرة على تجاوز الحتمي، لا حالة دائمة أو مضمونة.

وهم الاختيار: حدود حرية الفرد

في الواقع اليومي، يبدو الإنسان وكأنه يختار بحرية: ما يلبسه، ما يستهلكه، من يتابع، وحتى من يحب. لكن هذا التنوع الظاهري يخفي خلفه نظامًا صارمًا من التوجيه المسبق والتطبيع، حيث تُقدَّم الاختيارات لا بوصفها إمكانات مفتوحة، بل كمصفوفة محكومة بالذوق العام، بالعرض، بالتسويق، وبمنظومة القيم السائدة التي تُصاغ بفعل الإعلام والرأسمال والمعايير الثقافية. نختار داخل إطار مُعدّ مسبقًا، لا خارجه. حتى "الاختلاف" نفسه غالبًا ما يُعاد إنتاجه كنمط. نحن نختار، نعم، لكن من قائمةٍ كُتبت لنا، لا من إحساسٍ داخلي بالحرية. وهكذا يتحوّل الفعل الحرّ إلى تكرار ناعم لقوالب جاهزة، تختزل الذات إلى مستهلكٍ مُطيع يظن أنه يتحكّم، بينما هو يتحرّك ضمن حدود مرسومة بعناية. في هذا السياق، يصبح وهم الاختيار أكثر خطورة من القيد الظاهر، لأنه يُقنعنا بأننا أحرار بينما يُفرغ الحرية من معناها العميق.

سلاسل الترويض: التكييف الاجتماعي والسيطرة

منذ الولادة، يُحاط الإنسان بشبكة غير مرئية من التوجيهات تبدأ بالأسرة ولا تنتهي بالمؤسسة، من المدرسة إلى الإعلام، من الدين إلى القانون، من اللغة إلى العادات. كل تفصيلة في الوجود تُعيد تشكيله وفق قوالب محددة، تُكسبه "القبول" و"الاحترام" متى خضع، وتُقصيه أو تُجرّمه إن تمرّد. هذه ليست عملية تربية فقط، بل ترويض ممنهج، حيث يُكافَأ الانصياع ويُعاقَب الخروج عن النص، لا بصيغة قمعية دائمًا، بل غالبًا عبر التكييف الناعم: غرس القيم، تشكيل الذوق، تحديد المسموح والممنوع، صقل الطموحات وتوجيه الرغبات. لا يُطلب من الإنسان الطاعة الصريحة، بل أن يتماهى مع النظام حتى لا يعود يشعر بوجوده، بل يظنه امتدادًا لطبيعته. وهكذا تتحوّل الحرية إلى سجن بأبواب مفتوحة، وتُصبح الذات نسخة مصقولة من النموذج المقبول اجتماعيًا، لا كينونة حرة. في هذا الترويض، يكمن أخطر أشكال السيطرة: السيطرة التي تُحبّب العبودية، وتُخيف من التحرّر.

الحريات المشروطة في العالم المعاصر

في العالم المعاصر، تُرفع شعارات الحريات كأسمى ما أنجزته الحداثة، لكن ما يُمنح ليس حرية مطلقة، بل حرية مقنّنة، محكومة بشبكة من الشروط والمصالح. يحق لك أن تعبّر، ما لم تُهدّد النظام القائم؛ أن تختار، ما دامت خياراتك ضمن ما تتيحه السوق أو ما تقرّه الدولة؛ أن تعيش كما تشاء، ما دمت لا تزعج التوازنات التي تضمن استمرار اللعبة. يُروَّج للفرد كفاعل مستقل، بينما تُحدَّد له حدود اللعب مسبقًا، وتُرسم له مسارات الاختيار، فلا يخرج منها دون تكلفة. حتى الحرية صارت سلعة تُباع وتُشترى، أو امتيازًا يُمنح وفق الولاء والانتماء. يُسمّى هذا تقدمًا، لكنه في جوهره هندسة دقيقة للسيطرة الناعمة، حيث تُدار المجتمعات باسم الحرية، لا بقمعها، بل بإعادة تعريفها بشكل يخدم من يملك السلطة والثروة. وهكذا، لا تُقمع الحرية، بل تُعاد صياغتها لتلائم مقاسات السوق، السياسة، والمصالح الكبرى، فتُصبح الحرية طيفًا، والاختيار وَهمًا متقن الصنع.

مقاومة الترويض وإعادة تعريف الحرية

في مواجهة هذا الترويض المُمنهج، تبرز الحاجة إلى مقاومة تتجاوز ردود الفعل الغريزية أو الشعارات الجوفاء، نحو وعي فلسفي يعيد مساءلة مفاهيم الحرية نفسها. لا يكفي أن نطالب بالحرية كما تُعرّفها الأنظمة أو تبيعها الأسواق، بل يجب أن نعيد تعريفها بما ينسجم مع الكرامة الإنسانية والقدرة على التملّك الواعي للذات. مقاومة الترويض تبدأ من إدراكنا أن كثيرًا من "خياراتنا" ليست سوى استجابات مُهندسة، وأن الاستقلال الحقيقي لا يعني فقط كسر القيد، بل أيضًا فهم اليد التي صنعته. إنها مقاومة صامتة أحيانًا، لكنها عميقة: في الرفض الصغير، في السؤال غير المتوقع، في المحافظة على لحظة تأمل داخل صخب الإجبار. في أن تخلق مساحتك خارج منطق السوق، وأن تقول "لا" حين يكون الصمت هو المتوقع. الحرية ليست أن يُسمح لك، بل أن تُدرك أنك لست بحاجة لإذن كي تكون. إنها عملية مستمرة من الانفصال عن المألوف، وإعادة بناء الذات كفعل واعٍ، لا كنتاج لترويض خفي.

وهكذا، حين نتأمل في معمار العالم الحديث، نكتشف أن الحرية لم تُسلب منا بوضوح، بل تم تشذيبها وتكييفها حتى غدت نسخة مروّضة من ذاتها، تُمنح بحدود وتُصادر بصمت. نعيش في واقعٍ نُخيَّر فيه ضمن ما يُتاح، ونُقاد ونحن نظن أننا نختار. لكن الوعي بهذه الحيلة هو الخطوة الأولى في كسرها. فالتحرر لا يبدأ من الخارج، بل من لحظة إدراك دقيقة: أننا محاطون بأسوار ناعمة تُقنعنا بأننا أحرار. ومن هنا، يصبح الطريق نحو حريةٍ أصيلة — لا مشروطة ولا مُعلّبة — هو طريق مقاومة مستمرة، لا تبحث عن الانفلات فقط، بل عن استعادة الإنسان لقدرته على أن يكون ذاته، لا ما يُراد له أن يكون.

***

مازن جراي - تونس

 

في المثقف اليوم