أقلام فكرية

حاتم حميد محسن: هل العالم الخارجي للانسان مختلف عن عالم الحيوان؟

تستطيع عين الانسان تمييز ثلاثة أنواع من الضوء: الأحمر والأخضر والأزرق، لكن طائر الحمام والعديد من الحيوانات الاخرى يمكنها ايضا رؤية لون رابع فوق بنفسجي. الفضاء اللوني الرباعي الأبعاد الذي يراه طائر الحمام  قد يحتوي على ملايين الألوان اكثر من الألوان التي نراها نحن. الحمام يرى العديد من الزهور التي هي غير مرئية لنا.

وعلى الرغم من التاريخ الطويل للارتباط الوثيق بين الكائنات الحية، لكننا نستطيع القول ان الانسان وطير الحمام يعيشان في عالمين مختلفين جدا. اذا كانت مختلف الحيوانات تعيش في عوالم مختلفة، فهل هذا يعني ان البايولوجي هو الذي يشكل الواقع؟ السؤال حول ما اذا كان الواقع موجود خارج رؤوسنا ام في داخلها أرهق الفلاسفة لمئات او آلاف السنين. وفي ورقة حديثة، اقترح كل من كاثرين ليج استاذة الفلسفة في جامعة ديكين الاسترالية واندريه سانت طريقة برجماتية لحل هذه المعظلة بالإرتكاز على التحقيق والفعل (1).

كم عدد العوالم الموجودة ؟

هناك تفكير قديم في الفلسفة يسمى "الواقعية". وفق الرؤية الواقعية، هناك فقط عالم واحد بسمات محددة سلفا مستقلة عن ذهن المراقب – وان اكتشاف هذه السمات هو واجب العلم. لكن اذا كان هناك شيء  مستقل تماما عن أذهاننا، كيف نستطيع معرفته بالذهن؟ أليس هذا تناقضا؟

وبنفس المقدار هناك تاريخ طويل من الجدال الفلسفي يؤكد بان سمات الواقع تعتمد بشكل ما على التجربة. هؤلاء المفكرون يدّعون ان الواقع لم يُنحت مسبقا كما وصفه افلاطون  قي حوار فيدون (2). 

توجد هناك عدة عوالم مثلما هناك أعداد من التجارب، وكل مجموعة من التجارب تخلق منظورا فريدا او ما يسميه ادموند هسرل "عالم – حياة".

هذا الخلاف العميق حول طبيعة الواقع والعوالم برز لدى كل جيل من الفلاسفة.

كيف تحدد أجسامنا تجاربنا في العالم؟

هناك بديل هام جدا للواقعية التقليدية يسمى "النشاط" enactivism (3) الذي يستلهم من علوم الادراك. اول ما ظهر مصطلح النشاط عام 1990 في كتاب من تأليف كل من فرنسيس جي فاريلا واليانور روس وايفان ثومبسن سمي (العقل المتجسد). المؤلفون الثلاثة جمعوا بين البايولوجيا العلمية وعوالم الحياة لهسرل والفلسفة البوذية وتوصلوا الى انه عندما ينمو الكائن الحي ويصلح جسمه فهو "ينشط" بيئته الخاصة لتكون ذات سمات هامة بالنسبة له مثل الطعام او الخطر.

وكما كتب ثوبسن لاحقا:

"عالم الحيوان الإدراكي – مهما كان ذلك الكائن في قدرته على التعامل والمعرفة والمعالجة العملية  –  هو مشروط بشكل ذلك الكائن وهيكله".

حدود عالم الحياة

أمام نظرية النشاط تبقى هناك عدة اسئلة بحاجة الى جواب.

1- كيف تتمكن الكائنات الحية من التفاعل مع بعضها عندما تضعها قدراتها التصورية في عوالم حياة مختلفة جدا؟ فمثلا، اثناء الحرب العالمية الاولى، حمل طائر حمام اسمه cher Ami  رسالة أنقذت حياة 200 جندي بريطاني رغم اطلاق النار عليه من جانب العدو، وهو العمل الذي كوفئ لأجله بمدالية ذهبية.

2- العلماء يجب ان يكونوا قادرين على التحقيق في الكيفية التي تخلق بها مختلف أجسام الحيوانات  انواع مختلفة من التجارب الادراكية، لكن اذا كانت جميع المخلوقات بما فيها نحن "مغلقة" في عوالم حياتها الخاصة، فان هذا التحقيق سيكون مستحيلا.

هل التجارب المشتركة والأفعال تخلق الواقع؟

هنا نفترض حلا جديدا لمعضلة فهم الواقع باعتباره اما معطى سلفا او يقع ضمن تجارب فردية ذاتية، معتمدين على أفكار الفيلسوف البرجماتي تشارلس بيرس Charles peirce. الجدال هنا لأجل واقعية مرتكزة على التحقيق، يعتمد فيها الواقع على أذهاننا لكنه لايزال عاما وموضوعيا. وكما يتضح، الواقع يُفهم من خلال اتفاق برجماتي. هذا يعني ان الافراد يتفقون في توقعاتهم حول ما سيفعله الآخرون في مواقف حياتية مشابهة.

وهكذا، على سبيل المثال، رغم ان الجنود في الحرب العالمية الاولى وطير الحمام لهم تراكيب عيون مختلفة تفهم نيران العدو بطريقة مختلفة، لكنهم يتفقون برجماتيا بان الامر  يصبح خطيرا عندما يبتعد كلاهما. وكما لاحظنا في طائر الـ  شير امي، الناس والحمام يمكنهم ايضا الاتفاق على الأهمية العظمى للوصول الى "المكان المقصود " مع التسليم.

هذا يسلط الضوء على خاصية هامة للفلسفة البرجماتية. انها لا تعرّف الادراك كنوع من الوعي، وهي الفكرة التي قادت الى مشاكل فلسفية عويصة غير قابلة للحل. بدلا من ذلك، ينظر البرجماتيون لمعرفة الواقع كشيء متضمن في ما نستطيع فعله، وخاصة ما نستطيع فعله مع الآخرين.

الاتفاق البرجماتي مع الكائنات الحية الاخرى

بالطبع، ستكون هناك عدة مسائل الان لا يحصل فيها اتفاق برجماتي بين مختلف الكائنات الحية. على سبيل المثال، بينما كل من الانسان والحمامة يفهمان مدى خطورة اطلاق النار من بندقية العدو، لكنه ادراك غير متوفر للخنفساء التي  تتغذى بسعادة على فضلات الحيوان في نفس خنادق الحرب العالمية الاولى. نحن يجب ان لا نستعجل الاستنتاج  بان الواقع يجب ان يكون دائما جمعيا. وصفْ بيرس للواقع المبني على التحقيق يعبّر عن أمل متفائل بانه بمرور الزمن سنستطيع ايجاد طرق لجلب الكائنات الحية الى اتفاق برجماتي أكبر. ما مطلوب هو اننا نضع أنفسنا في نفس البيئة، نقوم بأشياء مشابهة ونطور أهدافا مشتركة. وهكذا، يعرّف بيرس الحقيقة "رأي سيتفق عليه حتما جميع المحققين في النهاية".

هذا التفسير يمكن ان يوفر رؤية دقيقة وأصلية لواقع النشاط. انه يسمح بدور للقوة الادراكية الفريدة للكائنات في صياغة واقعها الخاص بها، لكنه يسمح ايضا بان الواقع هو موضوعي بطريقة مختلفة عن الواقعية التقليدية. نحن نفترض فقط بداية لفهم كيفية فهمنا للواقع الذي تعيش فيه كائنات غير انسانية. فلسفة بيرس تبيّن لنا كيف يمكن انجاز هذا الفهم بمرور الزمن. واذا استطعنا زيادة اتفاقاتنا البرجماتية مع كائنات اخرى،سنتمكن من توسيع الواقع الذي نعيش به نحن بالذات.

***

حاتم حميد محسن

..................................

الهوامش

(1) The conversation, July24,2024

(2) فكرة "نقش الطبيعة على مفاصلها"استخدمها افلاطون لوصف عالم الأشكال. هو جادل بان الانواع الحية يمكن تمييزها من خلال نحت الطبيعة على ارتباطاتها، بمعنى مجموعة من السمات المجتمعة الى بعضها تخلق حدودا للصنف، اي، ان الاصناف الطبيعية يمكن اكتشافها عبر العثور على نماذج من السمات المشتركة، والتي تشير الى اكثر الاختلافات البارزة بين الاشياء. النقاشات المعاصرة حول نجاح العلم تستوحي مقارنة افلاطون، وتؤكد ان النظريات الناجحة يجب ان تنحت الطبيعة في مفاصلها. ولكن هل الطبيعة مترابطة حقا؟ هل هناك انواع طبيعية للاشياء تدور حولها النظريات؟ البعض ينكر وجود هذه المفاصل ويؤكد اننا قد ننحت الاشياء كما نشاء.

(3) النشاط هو نظرية في علم الادراك تصف كيف تتفاعل المخلوقات مع بيئتها لبناء ادراكها وتجاربها. انها ترتكز على فكرة ان الادراك عملية نابضة بالحياة تبرز من العلاقات الديناميكية بين الكائن وبيئته. ظهرت فكرة النشاط في التسعينات من القرن الماضي، وكانت رد فعل للنظريات السابقة التي ركزت على التجسيدات الذهنية والعمليات الحسابية والثنائية الديكارتية. مفردة فعل enact تعني ان الفعل يجلب المعنى. كان للنظرية  تأثيراً هاما على العلم والطبيعة، ونتائجها كانت مؤثرة جدا على الكيفية التي نفكر بها حول العلم والطبيعة.

 

في المثقف اليوم