أقلام فكرية

محمد فراح: إما أن تَكُونَ أو ألاَّ تَكُونَ

مدخل إلى فلسفة النَّحْنُ والآخرين

على ماذا يتوقف كياننا؟ أو على ماذا يتوقف وجودنا أو كيف نكون نحن هم نحن لا الآخرين؟ مثل هذا السؤال الساذج والبسيط الماهوي الذي يتساءل عن ماهية النَّحْنُ، أي على أي أساس يتأسس أساسنا الذي نحن نكون به كائنات أو لا نكون؟ يقودنا في الحقيقة إلى التفكير في شعورنا أو في ذاتنا كنَحْنُ ونَحْنُ في هذا العالم الغريب الأطوار عنا فعلاً !

ففكرة النحن، أو وجودنا في براثن هذا العالم، والخضوع لشروط لا حيلة لنا نحن معها، تسم وجودنا نحن بالتعقيد والتركيب والتشابك والتداخل والتشعب ليستحيل مع ذلك إدراك كنه النحن ومن نكون وكيف نكون أو متى لا نكون نحن؟ ما يعني إستحالة التحكم في كوننا نحن، أو كوننا لا نحن.

يتميز التساؤل عن كوننا نحن نكون أو لا نكون بالإزدواجية والتعقد والتشابك كشبكة خيوط العنكبوت، فنحن لا أحد منا ينكر أنه يوجد في هذا العالم، لكن لا يعني وجودنا في هذا العالم أننا نكون أو كائنات، رغم كوننا نعيش مع الآخرين أو الأغيار، لا يعني هذا أيضاً أننا نكون، رغم كون وجود علاقات معقدة ومركبة ومتشابكة ومزدوجة مع الآخرين، إنها علاقات تفاعل وإنتماء، علاقات ذات بمعية ذات أخرى، أو علاقات كائن بمعية كائن آخر، علاقات نكون فيها نحن ذواتنا في علاقات مع ذوات أخرى، وهنا مكمن السجال الحادم والجدال الذي قد ينشأ بين الكائنات، فكل علاقات بين الذوات لا تخلوا من الصراع.

هذا الخضوع المبتوت في العلاقات، هو خضوع يشرط وجودنا نحن أو كوننا نكون أو لا نكون، لأن كل كائن كيفما كان نوعه هو في حقيقته كائن هش ضعيف هزيل، لكنه كائن مفكر حسب باسكال، لكن هذا الكائن المفكر مهدد في جميع اللحظات بأن يفقد كينونته أو كونه كائنا ليتحول إلى اللا كائن، يفقد معها، أي كينونته، حتى إرادته وعزيمته وأناه، رغماً عنه وبدون تفكير في إرادته، لأن فاقد الشيء لا يعطيه.

لكن هذا الكائن الذي كان ويريد أن يكون لا يستطيع البتة أن يتخلص من كينونته المشروطة بسلسلة من الكائنات الخارجة عنه، هذه الكائنات بمثابة شروط تشرط وجوده أو تهدده، إن من هو كائن ويريد أن يكون هو في الحقيقة الكائن الوحيد الذي يستطيع أن يكون بغض النظر عن شروطه التي تشرطه، بمعنى يستطيع هذا الكائن أن يكون، أي أن يريد، وأن يختار، وأن يفعل، ويتفاعل مع أنماط وجوده في هذا العالم، وذلك لأنه كما علمنا باسكال كائن مفكر وعاقل ومُرِيدٌ وواعي ...إلخ.

إن محاولات الكائن في أن يَتَكَائَنْ، أي يتعالى عن كينونته الكائنة في ذاته، أو في وجوده الإنساني، هي محاولات تعبر في الحقيقة عن خيبات الأمل المتواصلة التي تخلقها له شروطه الاجتماعية والثقافية والسياسية والتربوية والقانونية والدينية والفكرية والإيديولوجية والأخلاقية والقيمية عموماً.

فأن تكون، أو أن توجد، تعني أن تحاول ولو مرة واحدة في حياتك أن تفكر ذاتك بذاتك ولذاتك، أن تحاول كما علمنا سقراط معرفة نفسك بنفسك ولنفسك، بغض النظر عن الآخرين، لكن لا يعني هذا أن تنعزل عن الآخرين، بل أن تعيش بمعيتهم، أي أن تعيش أو أن توجد بالمعية وبالمشاركة والانفتاح على الآخرين والمجتمع والعالم.

يتحدد الكائن الذي يريد أن يكون إذن كينونة موضوعية أي خارجية عن كينونته من خلال المجتمع والأفراد الخارجيين، أي الأغيار والآخرين، يتحدد هنا بكل ما يوجد خارج ذاته ووعيه وعقله وإرادته، كما يتحدد تحديداً ذاتياً عندما يتحدد من ذاته وعقله ووعيه وإرادته، أي عندما يحدد كونه كائنا عاقلا مفكراً من كونه هو كذلك، أو من كوننا نحن كذلك، بغض النظر عن الآخرين، أو بإستقلال نسبي عنهم، أي من خلال الطبيعة الكائنة للكينونة، وهكذا إذن نفهم أن هناك شروط ذاتية من داخل الكائن يكون من خلالها، وشروطاً موضوعية من خارج الكائن يكون أيضاً من خلالها كائناً.

إن معرفة أن نكون أو ألا نكون هي معرفة تصاحب على نحو دائم إحساساتنا وإدراكاتنا الراهنة، وبها نكون نحن بالفعل كائنات موجودة بالضرورة لأنها وبكل بساطة تفكر أولاً وتحس ثانياً، لتُحَصِّلَ الإدراك والفهم والاستيعاب أو الوعي بما هو إحاطة ثالثاً.

نعود عودا أبديا إلى سؤالنا على ماذا يتوقف كوننا نكون أو لا نكون؟ لا يتأسس على كل ما هو مادي قابل للتغير والزوال والصيرورة والتحول، لأن المادة سيالة ومتغيرة ومتحولة وسائرة ومتدفقة في أجزائها المختلفة، هناك إذن ما هو ثابت متأصل وقار بشكل مطلق فينا لا يتغير ولا يتحول هو بعينه نواة وجودنا، وهذا الشيء في الحقيقة هو ما يجعلنا كائنين، أي نكون أو لا نكون، هذا الشيء هو روح التفكير، أو روح العقل، أو روح الفهم والإدراك والوعي النقدي بما هو إحاطة نقدية بكل شيء، قد تكون إجابتنا هذه ذات نفحات فلسفية مختلفة (ديكارتية، باسكالية، اسبينوزية، …إلخ)، لكنها في نظرنا تختلف عنهم بمفهوم الروح L'esprit  التي تحيل إلى روح الشيء أي جوهره وماهيته وحقيقته الثابتة التي لا تتغير البتة.

يتحدد الإنسان بوجوده بوصفه كائناً يكون أو لا يكون، هذا الكائن الذي يكون يحاول ما أمكن مجاوزة كينونته أو وضعه وحالته التي هو كائن فيها، إنه كائن يصير ويسير ويتحول ويتغير، إنه كائن السيلان والتدفق والتعالي، أو إنه كائن الفعل والتفاعل والحركة والمقاومة الحيوية أو كائن الطاقة الخلاقة والكيان المجرد، وإن كان وجود الكائن الذي يكون وجوداً يتخذ أشكالا متعددة ومتميزة و"مستقلة نسبيا" وقادرة على الفعل والسلوك واتخاذ القرارات والمواقف والمبادرات الفاعلة لصالح الجماعة، فإنه في بعض الأحيان يتخذ صورة إرادة مقاومة ومزعجة تقاوم كل هذه الشروط أسميتها الإرادة في القدرة على الفعل، ما يعني أن كائناً يريد أن يكون هو كائن كيفما كان قادر على الفعل، لا منفعل سلبي دائماً.

إن العلاقات الثاوية الموجودة بين النحن والآخرين هي علاقات متغيرة بإستمرار لأنها بكل بساطة علاقات متنقلة بين الأطراف على شكل دوائر، وكأنها علاقات تندرج في فضاء متحرك تبقى مباغتة بالأحرى لبنيتنا الداخلية الخاصة.

وأكثر أفكارنا ومشاعرنا لفهم أنفسنا وذواتنا أو كوننا نحن نكون أو لا نكون ترجع إلى هذه البنى المتحركة والخارجة عن الذات، من خلال إنفتاحها على الآخرين وعلى العالم، لكن رغم كل هذا نظل نفتقد وجودنا في ذاتنا، أو نظل في بعض الأحيان نحاول أن نعيش تجربة الإنغلاق والتقوقع في الذات، إن مثل هذه الحالة هي ما نصفها بحالة إنغلاق كينونتنا الكائنة فينا، والتي تجعلنا كائنين بالضرورة.

ونُحَذِّرُ هنا من هذا الاستكفاء الوهمي الذي قد نعتقده النحن أو من يريد أن يكون حينما يدعي أنه بمكنته بشكل ذاتي داخلي قطعي أن يعيش حالة الإنعزال والإنغلاق والتخندق من خلال الإنطواء الذاتي والحر بمعزل عن الآخرين، ونلح على أنه لا يوجد في الحقيقة سوى أن نكون بالمشاركة والانفتاح على الآخرين.

"Nous mettons en garde contre cette autosuffisance illusoire que nous pouvons croire posséder, ou que l'on voudrait posséder, lorsque l'on prétend pouvoir vivre, de manière autonome et définitive, un état d'isolement, de fermeture et de repli sur soi, en se coupant du monde extérieur. Nous insistons sur le fait qu'il n'est possible de vivre qu'en partageant et en s'ouvrant aux autres."

وبما أن هذه الوثبة نحو التواجد والتساوق نحو أن يوجد المرء، أو أن يكون كائناً أو حتى ألا يكون، قد تتخذ أشكالاً ومظاهر متنوعة ومتغيرة ومتحولة وسائرة ومتدفقة وسيالة، فالمرء يفقد كينونته في حالة الإنعزال والإنغلاق والتخندق بمعزل عن الأغيار والآخرين، ما يجعل العزلة تلقي به، أي المرء الذي يريد أن يكون، داخل مجال من الاستيهامات لا تحقق شرط التعرف على الآخر، لهذا يحدث أن نسقط نحن جميعُنا في الاختزال والاجتزاء في علاقتنا بالآخرين.

أن تكون كائناً هو أن تقبل، فكرة أن لا شيء مستحيل التحقق، في حالة إنفتاحي على الآخرين-الأغيار، كما يجب هدم الحواجز والعوائق والعقبات التي توجد بيننا النحن والآخرين، لأن وجودنا متعلق بوَعْيِنَا ومبادرتنا الخلاقة للتحرر والفعل بإستمرار، أن نكون هو أن نسعى بإستمرار إلى أن نشارك في عالمنا الغير، ونراعي وجوده في عالمنا، أن نفترض الآخر في أعماق ذواتنا، ليست ذواتنا تدفقا خارجياً وفقط، إنها تدفق نحو الآخر، إنها توليفة مركبة ومعقدة ومنظمة بإتساق كغاية وليس مجرد وسيلة البتة.

***

محمد فرَّاح – استاذ فلسفة

 

في المثقف اليوم