أقلام فكرية
محمد سيف: كيف تشكّل اللغـــة أفكارنا وفقًا لعلم الأعصاب اللغوي؟
التضلّع في القواعد النحوية وانتقاء المفردات العويصة في نظر الكثير هو سنام امتلاك ناصية اللغة، ولكن يبدو أنّ لعلم الأعصاب اللغوي رأيًا آخر في هذه النظرة، واللغة في اعتبار شريحة واسعة من الناس مجرد قناة تواصل، ولكن لعلم الأعصاب اللغوي مراجَعة مدهشة في هذا الاعتبار.
أين تقع اللغة في العملية التواصلية؟
تجد المُدخَلات من العالَم الخارجي طريقها إلينا من خلال حواسّنا، هذه المُدخلات مقيّدة بنطاق قدرة حواسنا المحدودة، فعلى سبيل المثال يشير أهل الاختصاص إلى أنّ نطاق الترددات الصوتية التي تستطيع أجهزتنا السمعية رصدها من المُدخلات السمعية يتراوح تردّدها من ٢٠ هيرتز إلى ٢٠ كيلو هيرتز، أقلّ من ذلك (تحت صوتية) وأكثر (فوق صوتية) لا ترِدُنا أيّ مدخلات بشأنه رغم وجودها، ولكن لأن قدرتنا السمعية محدودة، فإنّ المُدخلات السمعية كذلك.
هذه المعطيات الخام المحدودة يتم معالجتها في الدماغ البشري ثم تحوّل تلك البيانات إلى تصوّرات ذهنية، وفي الداخل كل شيء يبدأ بفكرة، فكرة تتخذ من الإدراك الذهني عالما لها، عالم غير محسوس بالنسبة لنا، ودعونا في هذا السياق نعتبر أنّ مصطلح الفكرة ينسحب على الشعور كذلك إذْ هو الآخر يصول ويجول في دهاليز اللامحسوس، وهذا العالَم المجرّد من الأفكار والأحاسيس يتوسّل اللغة لتكون جسرا إلى العالَم المحسوس الواقعي؛ فننقل للآخر ما يَعِنّ في أذهاننا عبر قناة اللغة، ونفهم الآخر بالقناة نفسها، وحين تكون اللغة عَصِيّةً على الآخر وليست منطقة مشتركة، تأتي الترجمة لتسدّ هذا الفراغ، ولكن عندما نُنْعِم النظر فإنّ الترجمة لا يمكن أن تطوي مسافة اللغة؛ ولذا فالترجمة هي طبقة إضافية على اللغة الأصلية، وهي مسافة أخرى عن المعبَّر عنه من الفكرة الذهنية أو الشعور، وكلما كانت الترجمة عن لغة لا تنتمي لعائلة اللغات ذاتها كانت المسافة أكبر.
وإذا ما أحببنا أن نصوغ هذا السرد في معادلة توضيحية فإنّه يتشكّل لدينا هذا المسار:
المُدخلات من المحيط الخارجي => المعالجة الدماغية => تصوّرات ذهنية (أفكار/مشاعر) => لغة => ترجمة
والسؤال الجوهري الذي يتجلّى أمامنا هو: هل اللغة جديرة حقا بالتمثيل الدقيق للإدراك شعورًا كان أم فكرة؟
الواقع الواضح الذي ينبغي أن نعترف به ونواجهه هو أنّ اللغة لطبيعتها المحدودة لا يمكن لها استيعاب الأفكار/المشاعر كما نفكر ونشعر تماما، ولتبسيط الصورة، فالعلاقة بين اللغة وهي تعبّر عن فكرة أو إحساس يشبه مشهد القمر للناظر مِن على الأرض مقارنةً بحجمه الحقيقي في فَلَكه، فمشهد القمر يمثل اللغة، في حين يمثل حجم القمر الحقيقي الأفكار والمشاعر كما هي في إدراكنا! إنّ الكلمات تقدم طرفا متواضعا من كينونة الأفكار وماهيّة الأحاسيس كعنوان كتاب وباب قصر!
بات جليًا الآن كم هي دقيقة تلك التعبيرات التي نتداولها في لغتنا اليومية من قبيل:
مشاعري لا تستوعبها الكلمات
الكلمات عاجزة عن تجسيد ما يتلجلج في صدري من أحاسيس
لا أجد في اللغة ما يسعفني للتعبير عن الفكرة التي تَزِنُّ في رأسي
ولكن ليس لدينا سوى اللغة! فهي مع قصورها الحيلة الوحيدة التي لا يمكن للطبيعة البشرية القفز عليها.
ما تقدّم آنفا ليس سوى توطئة لا غنى عنها لصُلب موضوعنا، فإذا كنّا اتفقنا على أنّ اللغة غير قَمينةٍ بتمثيل الإدراك الذهني كما هو، فالسؤال المُلِحّ الآن:
هل اللغة العاجزة عن استيعاب ما نفكر ونحسّ به قادرة على تشكيل تفكيرنا؟!
في كتابه (The Stuff of Thought) (٢٠٠٧م) (مادّة الفكر) يقدّم الدكتور (Steven Pinker) وهو أحد أبرز المتخصصين في مجال علم اللغة النفسي والإدراك المعرفي، مقاربة لهذا التأثير، ومما أشار إليه هو أنّه لا يمكن تصوّر مفاهيم لا توجد لها مفردات في قاموس المتحدث، كما أنّ الأفكار من حيث أحد أهم روافدها الأساسية ناتجة من معارف مكتسبة، والتي بدورها تُسْتَقى عن طريق القراءة والحوار، وهي في نهاية المطاف عبارة عن لغة! وحيث إنّ اللغة في شكلها الفضفاض لا تتشكّل عن طريق لجنة محكّمة بل تخرج من التفاعل المجتمعي، فهذا يعني أنّ كل لغة تدفع الناطق بها إلى الانتباه لجوانب محددة من المفاهيم، مما يعني أنّ اللغة حين تكون عالمية تجعل البشرية تتصوّر العالم من خلالها، وفي الوقت الراهن نرى المجتمع العالمي يقرأ نفسه والكون من حوله من خلال الإنجليزية، وحتما سيختلف إدراك العالم لو كانت الصينية أو الألمانية مثلا هي من تتربّع عرش العالمية.
ولأن اللغة الأم تأتي في مرحلة البدايات حيث التشكّل البيولوجي في أَوْج مراحله، فتأثيرها الدماغي لا شك سيكون محوريا جدا من بين سائر اللغات المكتسبة لاحقا، ففي تاريخ (١٥ أبريل ٢٠٢٣م) نشرت مجلة (NeuroImage) وهي مجلة علمية محكّمة مختصّة بعلوم الأعصاب في عددها (٢٧٠) رقم المقال (١١٩٩٥٥) الرابط:
https://www.sciencedirect.com/
15?via%3Dihub) مقالا بعنوان (كيف يمكن للغة الأم أن تشكّل الوصلات العصبية في أدمغتنا؟!) حيث أجرى باحث الدكتوراه (Xuehu Wei) مع فريقه البحثي في معهد ماكس بلانك للعلوم الإدراكية والعصبية البشرية في لايبزيغ بألمانيا تجربة علمية بتوظيف تقنيات التصوير بالرنين المغناطيسي عالي الدقة، شملت عيّنة من الناطقين الأصليين بالعربية والألمانية، خلُص إلى أنّ اللغة الأم تؤثر على البِنية العصبية للدماغ؛ الأمر الذي يؤدي إلى الاختلاف في المعالجة اللغوية، حيث أشارت نتائج التجربة إلى أنّ مَن لغتهم الأم هي العربية يمتلكون اتصالا أقوى بين شقي الدماغ الأيمن والأيسر؛ نتيجة التعقيد الدلالي في اللغة العربية، في حين إنّ مَن لغتهم الأم هي الألمانية أظهروا اتصالا أقوى في شق الدماغ الأيسر؛ نظرا للتعقيد في القواعد النحوية في اللغة الألمانية.
إذن ثمّة تأثير حاسم وعميق للغة على البنية العصبية للدماغ وآلية معالجته المعلومات التي تنتهي بالأفكار، وهذا يُلقي بظلاله على نمط التفكير وما يفرزه من أفكار، فمن الطبيعي إذن حين نفكر في موضوع ما باللغة العربية فإن العمليات الدماغية/الشبكات العصبية تختلف عما إذا ما فكّرنا فيه باللغة الإنجليزية مثلا، ومما تجدر الإشارة إليه أنّ لكل لغة خصوصياتها المعقّدة (Idiosyncrasies) فبعض اللغات تأخذ حمولة ثقافية مكثفة من الطابع الديني، وهذا بطبيعة الحال له بصمته في ساحة التفكير! كاللغة العربية ما قبل العصر الحداثي، التي يكاد من المستحيل فصلها عن حاضنتها الإسلامية؛ لارتباطها المتشابك بها، حتى غَدت ثنائية بهُويّة واحدة، فلا فهم للإسلام بلا عربية، ولا لغة عربية قائمة بلا إسلام، مرة أخرى.. أعني اللغة العربية ما قبل العصر الحداثي، إذْ الناظر للغة العربية في الاستعمال المعاصر يدرك كم هو مقدار التلاقح مع اللغات المحيطة بها، مع بقاء الطابع الإسلامي - بلا ريب - في جانب كبير منها حتى الآن. كما أنّ بعض اللغات تتملّكها عقلية ثقافية محددة، ومن الأمثلة الحيّة للتأثير المتبادل بين نمط التفكير واللغة جيئةً وذهابا ما نجده في المجتمع الألماني، حيث يرددون باستمرار في مواقف عدة تراكيب مثل (Ich habe Angst) أي لدي قلق أو أنا خائف، للتعبير عن عقلية الخوف والقلق، ليختزل جذوره الضاربة في القدم في الثقافة والتاريخ الألماني، الذي شهد أوضاعا مريرة تمخّض عنها حروب عالمية ضَرُوس، بل إنّ عقلية الخوف سابقة على هذه المرحلة في المجتمع الألماني كما نلمس ذلك في أعمال أشهر الفلاسفة الذين كتبوا بالألمانية مثل كافكا ونيتشه!
على أننا في تواصلنا اللغوي اليومي - بِغضّ النظر عن اللغة - نتغاضى عن الفروق الدقيقة بين المفردات التي نسميها مرادفات (لستُ ممن يرى الترادف في اللغة بمعناه الشائع) سواء أكان هذا التغاضي عن قصد أو إفرازا طبيعيا لقصور معرفي، هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى نحن نميل لاستخدام لغة مشوّهة لتهويل ما نشعر به، فمن يمرّ بضيق عابر يستمرئ التعبير بـ (قلبي منفطر) بدلا من (أنا منزعج قليلا)، وهذا التعبير المُهوَّل - شئنا أم أبينا - له ارتداداته النفسية خصوصا مع التكرار الذي تصاحبه كثافة شعورية، فينتقل على المستوى الشعوري من مجرد ضيق عابر إلى انفطار حقيقي يكوي القلب، فتكون اللغة عاملا مؤثرا على الشعور، ويكون الشعور محفزا على التعبير بلغة من سِنْخِها ونوعها.
اللغة لها علاقة فاعلة ومنفعلة في التفكيرِ آليّتِه ونمطِه، وإذا كانت اللغة التي يستعملها طرف ما لا تحرك شيئا في أفكار الآخر، ليس من حيث الإقناع وإنما من حيث التفاعل، فهي لغة مهملة وأجنبية، ولا تعدو أن تكون في نظر الآخر سوى تَمْتَمَات وهَمْهَمَة لا معنى لها ولا جدوى.
إذن (اللغة) منتَجٌ تفاعلي يضطلع بدور مركزي في تشكيل تصوّراتنا وانفعالاتنا الذاتية، والتي بدورها تنحت لغتنا، في عملية دائرية لا تنتهي، وتفعل الصنيع نفسه في تفاعلنا اللغوي مع الآخر!
***
بقلم محمـــد سيـــف