أقلام فكرية
فاطمة الثابت: جنود الوهم بين صراع الوهم والحقيقة
(ان الوهم الاجتماعي يسيطر اليوم على كل أنقاض الماضي المتراكمة، والمستقبل له بدون شك، فالجماهير لم تكن في حياتها أبدا ظمأى للحقيقة، وأمام الحقائق التي تزعجهم فإنهم يحولون أنظارهم باتجاه آخر، ويفضلون تأليه الخطأ، إذا ما جذبهم الخطأ، فمن يعرف إيهامهم يصبح سيدا لهم، ومن يحاول قشع الأوهام عن أعينهم يصبح ضحية لهم).. غوستاف لوبون
وأنا أجلس في ذلك الفضاء المقدس، أركز نظري على الوجوه التي أمامي، يبدو كل وجه وكأنه مستنسخ، بدءًا من طريقة لباسهم وحتى الإيماءات الدقيقة التي يقومون بها، حتى أصواتهم وكأنهم يرددون ترتيلات، تبدو وكأنها أصداء لبعضهم البعض، إنهم مثل الجنود، يحافظون بأستقتال على ديمومةأوهامهم ..
سيرورة الوهم:
في تتبع شبكة الأوهام المعقدة التي تشتبك مع النفس البشرية، وتشكل التصورات وتملي الأعراف المجتمعية. تتجذر الأوهام وتزدهر، والتي يديمها أولئك الذين يمارسون السلطة، حدد فرنسيس بيكون كما جاء في كتاب د.عادل مصطفى في «الأورجانون الجديد»ثمة أربعة أنواع من الأوهام تُحدِق بالعقل البشري، وتظل تلاحقه في عملية تجديد العلوم نفسها، وتضع أمامه العوائق ما لم يأخذ البشرُ حِذرَهم ويُحصِّنوا أنفسَهم منها قدْر ما يستطيعون، «فدراسة الأوهام هي بالنسبة إلى تفسير الطبيعة مثل الدحوضات السوفسطائية بالنسبة للمنطق العادي.» كان بيكون قد عرض لهذه الأوهام في كتاب سابق له (تقدم المعرفة/النهوض بالعلم/إنهاض العلم) نشره عام ١٦٠٥م، ولكنه لم يقيِّض لها أسماءً، أمَّا في الأورجانون الجديد فقد أطلق عليها أسماءً تدل على براعةٍ منقطعة النظير في استخدام الاستعارة الحية»، مفهوم «الأصنام»، وهي تحيزات معرفية أو أوهام تشوه إدراك الإنسان وفهمه للعالم،وهي بنيات مجازية تكشف عمق قابلية الإنسان للتشويه والتلاعب المعرفي، وفي الوقت نفسه نحن نتأمل في استعارة أفلاطون للكهف، حيث يسلط الضوء على الانفصال العميق بين الواقع المدرك والحقائق المتعالية التي تكمن وراءه، وقد صنف بيكون هذه الأصنام إلى أربعة أنواع:
أصنام القبيلة: وهي متأصلة في طبيعة الإنسان نفسها، إنها تنشأ من الميول المشتركة ونقاط الضعف في الإدراك البشري، مثل ميلنا إلى إدراك أنماط غير موجودة، أو تفضيل الأفكار المألوفة على الأفكار الجديدة، أو إسقاط تجاربنا الخاصة على الآخرين.
أصنام الكهف: وهي تحيزات فردية أو شخصية، إنها تنتج عن التعليم الخاص للشخص، وتربيته، وخبراته، وتصرفاته. يمثل “الكهف” الخاص بكل شخص وجهة نظره الفريدة، مما قد يؤدي إلى تشويه فهمهم للواقع.
أصنام السوق: تنشأ من استخدام اللغة والتواصل، وتحدث عندما يتم استخدام الكلمات أو الرموز بشكل غير دقيق أو غامض، مما يؤدي إلى سوء الفهم أو استنتاجات خاطئة. يمكن أن يؤدي سوء الفهم إلى إدامة المعتقدات الخاطئة وإعاقة السعي وراء الحقيقة.
أصنام المسرح: وهي أوهام تنبع من أنظمة فلسفية أو أيديولوجية، وهي تنشأ عندما يقبل الأفراد دون نقد العقائد أو النظريات أو وجهات النظر العالمية الراسخة ويلتزمون بها دون إخضاعهم لتدقيق صارم أو اختبار تجريبي. يمكن لهذه الأصنام أن تقيد البحث الفكري وتعيق التقدم العلمي.
يسلط تحليل بيكون لهذه الأصنام الضوء على أهمية التفكير النقدي، والشك، والتحقيق التجريبي في التغلب على التحيزات المعرفية وتطوير المعرفة الإنسانية والقضاء على هذه الاوهام، ومن خلال الاعتراف بهذه الأوهام ومعالجتها، اعتقد بيكون أن البشرية قادرة على تطوير فهم أكثر دقة للعالم الطبيعي وتحسين عملية صنع القرار الفردية والجماعية..
نقيضة الوهم وسياقات المعرفة:
وبينما نبحر في متاهة الوهم، لابد أن نوضح نقيضه لفهم الحقيقة وفي هذا الجانب يرى غوستاف لوبون كما هو موضح في ملاحظاته منهجًا صارمًا يضع الحقيقة العلمية في قمة الصلاحية، وهو يصنف الحقيقة إلى عدة مجالات، بما في ذلك البيولوجية والعاطفية والدينية والجماعية والعقلية، ومع ذلك يحدد الحقيقة العلمية باعتبارها الحقيقة الفعلية الوحيدة التي تتوافق مع وصف «توافق الفكر مع الواقع».
في هذا السياق، يشير تأكيد لوبون على أن اليقين هو حالة الروح التي تعتقد أنها ممسوسة إلى أن اليقين الحقيقي لا يمكن تحقيقه إلا من خلال الحقيقة العلمية، حيث يتماشى الإيمان مع المعرفة. ويؤكد أن الرضا أو القبول أو الإجماع المجتمعي لا يعني اليقين ما لم يرتكز على أدلة علمية.
بالتالي أن سيرورة الوهم التي قد يدعم بها الأفراد والمجتمعات والمؤسسات معتقدات أو أيديولوجيات معينة، حتى عندما يفتقرون إلى المعرفة العلمية، ويمكن تطبيق مفهوم جنود الوهم على أولئك الذين يدافعون عن معتقدات راسخة، سواء كانت دينية أو أخلاقية أو أيديولوجية، على الرغم من غياب الأدلة التجريبية.
السياق الأجتماعي
يذكر أريك فروم في كتابه « ماوراء الأوهام « الذي يناقش فيه توليفة مقنعة لأفكار كارل ماركس وسيغموند فرويد» يبين لنا كل من ماركس وفرويد أن الإنسان ليس كما يعتقد، وأنه مدفوع بقوى غير واعية إلى حد كبير، ولكن بينما يصر ماركس على الطبيعة الاجتماعية لهذه القوى، يصر فرويد على طبيعتها الفردية والليبيدية.»
بالتالي إذا حفرنا عن الحقيقة في الخطاب المعرفي سنجدها تتشكل أجتماعياً وكما يقول فوكو (الحقيقة هي من العالم انها تنتج هناك بفضل قيود متعددة... لكل مجتمع نظامه الخاص للحقيقة، (سياسته العامة) للحقيقة التي تعني نماذج الخطاب التي تحويها وتجعلها صحيحة، الآليات والامثلة التي تتيح للمرء ان يميز بين البيانات الصحيحة والزائفة،المنهج في كليهما مُقرٌ،التقنيات والاجراءات المفضلة لاحراز الحقيقة، مكانة الموكلين بالقول ان ما حسبوه كان صحيحا».
ومع ذلك، بينما نتصارع مع تعقيدات الحقيقة والوهم، فمن الأهمية بمكان أن ندرك البناء الاجتماعي للمعرفة والتأثيرات التي لا تعد ولا تحصى والتي تشكل تصوراتنا للواقع، تذكرنا رؤى ميشيل فوكو بأن الحقيقة ليست مجرد انعكاس للواقع الموضوعي، ولكنها متشابكة بشكل معقد مع ديناميكيات السلطة، والأعراف المجتمعية، والممارسات الخطابية.
وفي ضوء ذلك، فإن بحثنا عن الحقيقة وتحدينا لجنود الوهم يجب أن يكون مصحوبًا بالرغبة في تحدي المعتقدات الراسخة، واستجواب الواقع باستمرار من خلال تعزيز ثقافة البحث النقدي والتواضع الفكري، يمكننا أن نطمح إلى تجاوز الأوهام التي تربطنا والسعي نحو فهم أكثر استنارة للعالم بالتالي فإن الرحلة نحو الحقيقة هي مسعى مستمر وجماعي، يتطلب يقظة مستمرة وفضولاً فكرياً والتزاماً بمبادئ العقل والدليل،وفي هذا المسعى، قد نجد العزاء في كلمات سقراط، الذي أعلن في عبارته الشهيرة: “إن الحياة غير المدروسة لا تستحق العيش”.
***
د. فاطمة الثابت – أستاذة علم الاجتماع في جامعة بابل