أقلام فكرية
سامي عبد العال: سلطة الحقيقة (2)
هناك افتراضٌ مُؤدّاه: أنَّ (الحقائقَ هي حقائق) ولا تحتاج إلى سلطةٍ، مما قد نتحدث عنه بمزج تلك الحقائق بدلالاتٍ ثقافية أخرى. ومن ثمّ،َ فلا تُوجد مبرراتٌ عمليةٌ لربط السلطة بالحقيقة. ورغم أنَّ قولاً كهذا يتضمن نوعاً من المنطق، إلاَّ أنَّه يَفترض التسليم بالحقائق دون اعتباراتٍ مغايرة. ولاسيما إذا ما وردت مقولة (الحقائق حقائق) كمثالٍّ له تطبيقات متنوعة بوصف الحقيقة عاريةً تلقائياً. وأنّها واضحةٌ بذاتها لدرجة البداهة، ولا تتطلب فهماً مركباً لطبيعتها الخاصة. وعليه، فلتذهب دلالةُ السلطةِ من حيثُ أتت، ولتبْقَ الحقيقةُ متفردةً من غير شوائب!!
ولكن لو كانت المسألةُ هكذا، لما كان هناك إنسانٌ يعرف الحقائقَ ابتداءً، فالحقيقة توجد مؤولةً في المعرفة والتاريخ، فضلاً عن كيفيةِ صياغتها. وحتى إذا سرْنا مع هذا المنطقِ إلى منتهاه، لعرفنا أنَّ للحقيقة قُوى أخرى: (قوة اعتراف، وقوة إقرار، وقوة عدالة وجودٍ، وقوة حُكم، وقوة بقاء، وقوة عودة) في سلةٍ واحدةٍ. وهذا ما ندركه بمجرد القول بأنَّ: (الحقائق حقائق)، وأنَّ أية قوى من هذا القبيل ذات طبيعة دينامية، وليست سلطةً تمارس تأثيراً فوقياً كنسق للفعل والحركة. وسيقف كلُّ ذلك- لو صح الأمر- في منطقة تجليات الحقيقة البينية داخل المجتمعات. فهذه الحقائق، وبخاصة بعض أحداث التاريخ والسياسة والمجتمعات، حقائق نوعية وتمس المناطق الموضوعية من الرؤى والحياة.
على أيّ حالٍ، يجب التفرقة بين أنواع الحقائق لمعرفة: ما إذا كانت كذلك موضوعية أم لا؟ وكيف ترتبط بمسألة سلطة الحقيقة؟!
حقائق طبيعية
وهي حقائق تجسد ظواهر طبيعية نلاحظها مثل شروق وغروب الشمس، مثل الليل والنهار، مثل حقيقة أثار الجاذبية ومثل حقيقة الطفو ومثل الضوء والزمان والحركة والطاقة. وهي الظواهر التي أبانت عنها كشوف علمية طوال السنوات السابقة، ومازالت هناك ظواهر أخرى لم تكتشف بعد. ولا أتصور أنَّ تلك الظواهر محل نقاش سوى في مدى تفسيرها العلمي، وما يترتب عليه من آثارٍ، وما ترتبط به من قوانين طبيعية. وبالفعل لا تخلو الحقائق الطبيعية من قوانين تُسيّر حركة الطبيعة وظواهرها المختلفة.
وعندما أقول إنَّه ليس هناك مجال للشك في ظواهر كهذه، فلأنَّها متميزة بوجودها الطبيعي، وبإمكان الإنسان العادي أنْ يلمسها ويجد مُبرراً لها نتيجة ترديد النظريات العلمية المفسِرة، ناهيك عن كونّها حقائق ذات دلالةٍ واضحةٍ، وأنَّ العلوم الطبيعية قد أثبتت آلياتها وتكرارها. ولكن الاختلاف وارد حول: طبيعة معرفتها، وكيفية صياغتها وجوهر التفسيرات التي تطرح لها. والأهم أنها ظواهر غير مثقلة بدلالات أخرى غير طبيعية، سواء أكانت إنسانية أم دينية أم غيرهما. أي ينتفي معها القول بقوى خفية تحركها أو قوى سحرية تأخذها بهذا الاتجاه أو ذلك. لأنَّ هناك معايير وأسباباً ومتغيرات يمكن سبر أغوارها بعمليات البحث والمعرفة. فالجانب الموضوعي منها يجعل سؤالَ الحقيقة واضحاً، إذْ ينزعُ عن الظواهر أية صفات إنسانية ترتديها، لأنها واضحة التكوين والتداعيات.
ولكن تظهر مشكلة الحقيقة، عندما يحاول الإنسان إلباس الحقائق الطبيعية لباساً انسانياً، فقد تُخلع عليها صفات المعقولية والروحانية والتعاطف والتغيُّر من حين لآخر بحسب ظروف الناس، وذلك عندما يتم ربط الظواهر بتحولات المجتمعات. فقد يسود اعتقاد أنَّ هناك ارتباطاً بين تحولات الطبيعة وأقدار الناس كما في حالتي التنجيم والسحر، وربما يتم الربط على أساس الاعتقاد والإيمان كذلك. ارتباط موروث في الثقافات البشرية من جانب بعض المجتمعات القديمة التي ألّهت النجوم والكواكب وقدّست الجبال والغابات والأشجار والحيوانات. وهذه الممارسات لا تذهب انثروبولوجيا هباءً، لكن الثقافة أجرت لها (إعادة تدوير recycling) من خلال المعتقدات والأفكار المهيمنة.
فبدلاً من تأليه الطبيعة وبعض عناصرها (بخلاف تطورات المعرفة وأوضاع الأديان التوحيدية)، كان التنجيم هو الساحة الخلفية التي تسللت منها نزعات تأليه الطبيعة في أشكال من العِرافة والخرافة وقراءة الطالع والتنبؤ بالمستقبل والأقدار. فإذا كان للحب إلهٌ، وإذا كان للسعادة إلهٌ، وإذا كان للخير إله، وإذا كان للشر إله، فربط الكواكب والنجوم بخريطة ميلاد الإنسان وحياته، اتاح إمكانية للدجالين والكهان الجدد للتحدث عن سؤال الحقيقة وسلطتها. لأنَّ الايهام بحدوث الأشياء والأحداث على خلفية السحر والدجل يراهن على إشعار المتلقي بأن الكون يسير بحسب ما يزعم أصحابهما.
وهنا رأس المشكلة: أن ما ألّه الظواهر الطبيعية قد (أخرج سلطة الحقيقة) من القمقم، فسادت ثقافة الخرافة لدى بعض الجماعات البشرية وغلّبت سلطة الحقائق موقفها من الحياة والطبيعة والإنسان والزمن. ومن يُراجع التصورات الشعبية عن الحسد والدجل والخرافة والأساطير، يدرك أنَّ سؤال الحقيقة هنا بات هو السؤال الأهم. وأنَّ نزع الأساطير عن العالم الطبيعي كان مهمةَ عصر فلسفي كامل اسمُه عصر التنوير والحداثة.
حقائق ميتافيزيقية
إذ تمثل تصورات عقلية مجردة يطرحها بعض الفلاسفة أو منْ يراها حقائق مؤكدة كبعض الأفكار والرؤى حول العالم والحياة. فلو قلنا إنَّ الوجود لامتناه، وإنه ممتد في الزمان والمكان، فهذه الفكرة ميتافيزيقية. وليس هذا فقط، بل وتؤسس لبعض التصورات الجزئية المرتبطة بالأفكار والعلاقات بين الإنسان والعالم والأشياء.
والميتافيزيقا تاريخياً – بصرف النظر عن إلتقائها مع الأديان- هي الوريث الشرعي للأساطير والسرديات اللاهوتية البدائية حول الوجود والكون والطبيعة. لكنها تلجأ إلى وضع مبدأ موحد عقلي بدلاً عن الأسباب الوهمية الأسطورية. أي أنَّ المبدأ الميتافيزيقي مع تطور العقل أخذ وظيفة الأساطير مع المرحلة البدائية. وإنْ كان هناك من يرى أنَّ الأديان تتماس مع الميتافيزيقا في التحدث عن عالم الغيبيات، فليس هذا صحيحاً، لأنَّ الميتافيزيقا مبادئ عقلية، وليست إلهية المصدر (نتيجة الوحي). وهي تنطوى على تلك المبادئ المجردة لتفسير الطبيعة كنوع من المبادئ التي توحد العقول تجاه معنى كلي وشامل.
عندما قال أرسطو إن هناك محركاً أول لا يتحرك وراء تغير الظواهر ووراء كل أصناف الحركة، وهو المسئول عن تفسير حركة الأشياء والطبيعة، فكان يقصد الوصول إلى مبدأ عام مُفسر للظواهر، وكان ذلك تفسيراً عقلياً لظواهر الحركة ليس أكثر. لأننا لا يمكن الرجوع دون نهاية إلى سبب كل حركة صغرت أم كبرت، إذ يجب الوقوف عند محرك أول هو مبدأ كل حركةٍ في الكون، بحيث تجري معرفةُ كلِّ الأشياء داخل نطاقه.
وتنتهي الميتافيزيقا- أو بالأحرى تتحول- إلى رؤى حول العالم والكون، وهي موجوده في كل ثقافات الشعوب تقريباً، لكونها أساسية بقدر ما تعبر عن رغبة الإنسان في إقامة علاقة إدراك مع العالم، ولكن تلك الرغبة تتحول إلى اسقاط الأفكار والأوهام على الواقع. وكأنَّ لسان الحال يقول: إنه طالما استطاع الإنسان إطلاق المبادئ نحو الكون ككل، فلماذا لا ينزل بها إلى أرض الواقع؟
ومن ثمَّ، أخذ يظهر سؤال الحقيقة في ضوء هذا الاسقاط الذي يظن الفلاسفة كونه حاكماً للعالم والأشياء. حتى أن تاريخ الميتافيزيقا كله هو تاريخ الإسقاط لأفكارنا وأخيلتنا باختلاف مصادرها على عالم الأشياء. وهي كذلك تاريخ التصديق التجريدي لهذه الإسقاطات بوصفها حقائق. وكأن الميتافيزيقي يكتشف قانوناً كونياً مثله مثل علماء الطبيعة.
حقائق دينية
حقائق تتحدث عنها الأديان والنصوص المقدسة وأخبار الرسل والأنبياء مثل الوجود إلهي باختلاف العقائد حوله ووجود الملائكة والشياطين ووجود الجنة والنار وعالم الغيب وأخبار الأمم والعصور السالفة بمجملها. وهي تدخل في باب الحقائق من زاوية الايمان والاعتقاد، وليس هناك طريق آخر سوى هذا الأفق الصاعد إلى السماء، بل وهي معتمدة على درجات الايمان وقوته بالمثل.
في هذا الجانب، ليس هناك ما يدعو للإثبات ولا الانكار، لأنها حقائق تقول لنا من أول وهلة أنها خاصة بالإيمان. أي أن تؤمن أنت بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الأخر والقدر خيره وشره وحين تؤمن بهذه المفردات فهذا سببٌ كاف لأنْ تصدق وتتيقن من إيمانك وموضوعاته. وطالما كانت حقائق الدين من هذا القبيل، فلا تماثل الحقائق بمعناها المعروف، لكنها مطلقة وخالدة وليس ثمة طريقة معرفية ولا نقدية ولا فلسفية مؤدية إليها رأساً بشكل حاسم. لأنَّ الإيمان إرادة إعتقاد خاص يمتلئ بها المؤمن مؤكداً ما يتلقّاه، كأنَّه يراه رأي البصر والبصيرة. ولئن تساءلت: كيف ولماذا وبأية وسيلة؟ فهو كمؤمن سيكون أول العاجزين عن إثبات ما يؤمن. وربما أن ما طال تلك الحقائق من جدال ونقاس فكري طوال تاريخ البشرية يدعم هذا المعنى.
يقفز سؤال الحقيقة متى أراد إنسانٌ فرض عقائده على الآخرين، حاملاً إياها دفاعاً عما يؤمن، فالترويج للأديان باختلافها مأزق يجر التساؤل عن الحقائق ويثير فضول البعض لمعرفة الأسباب وخلفيات القضية. وبالنسبة لصاحب العقائد يغمره تصور بكون ديانته هي الحقيقة المطلقة لا غير، بينما ما عداها من أديان لا تستحق تلك الصفة. وقد يسقطها من فوره دونما اهتماتم لما يحدث لأصحابها قرباً أو بعداً عنه.
والأخطر هو ما يفعله البعض الآخر من تحويل عقائد الدين إلى أيديولوجيا، وهو ما يصطدم بالتنوع والاختلاف، ويحيل الأديان إلى خناجر وسيوف ومعاول لإشعال الصراعات الطائفية والتنظيمية والمذهبية دون جدوى. الأمر الذي يطرح الأديان على طاولة البحث عن الحقائق، ويجعل هناك صدوداً لهذا التسلط باسم الإيمان بحقيقة دينية معينة. وسواء أكان الأمر واضحاً أم غير واضح، فالأيديولوجيا تجعل من الحقيقة سلطة على افتراض وجود حقيقة للعقائد الدينية كما يؤمن أصحابها. سلطة الحقيقة عندئذ هي مستوى مؤدلج تبلغه الأفكار الدينية وتحاول حشد الأنصار، واعتبار الخارجين عنها في مرمى السلطة مباشرة. وقد تنتج الأيديولوجيا الدينية على هيئة تنظيم لممارسة الإكراه الديني أو في صورة خطاب زاعق الصوت في محاولة لمحو الأصوات الأخرى.
وفي جميع الأحوال، لو أنك سألت أحد أفراد هذا التنظيم أو ذاك: لماذا تفعل هذ؟!، لكان رده مباشرة أنني أقف على أرض صلبة هي الحقيقة، وما دونها باطل يجب مطاردته. فأنني مؤمن بالدين الحق وأن السعي وراء الحق أولى بالتلبية من سواه. وهنا تكون سلطة الحقيقة بالغة الخطورة وتتحول إلى نزعة تدميرية صوب الأغيار بالمقام الأول.
حقائق منطقية
وهي القضايا المنطقية البدهية والمسلمات التي تفهم صحتها بشكل منطقي. عندما أقول (هؤلاء هم أبناء هذا الرجل)، فسيُفهم تلقائياً من القول أنَّ الرجل متزوج وليس أعزب. لأنَّ منْ له أبناء سيكون قد أنجبهم من خلال الزواج وليس بمفرده. وبالتالي سيقال أنهم أباؤه المرتبطين به كأب. وعندما نقول المثلث، سأعرف ضمناً أنَّه شكل هندسى مُحاط بثلاثة أضلاع وله ثلاث زوايا. ومن ثمَّ، ليس المثلث مربعاً ولا مستطيلاً بحال من الأحوال.
وتدخل في هذا الجانب الحقائق أو المبرهنات والمعادلات الرياضية التي تحمل صدقها في ذاتها وتكون واضحةً وضوحاً تاماً بناء على أطراف المعادلات والنتائج الحاصلة منها. حيث تعد حقائق بدهية رياضياً وقائمة على البرهان والصياغة المنضبطة الدقيقة.
وليس ثمة مشكلة بصدد الحقائق المنطقية والرياضية، طالما تحمل مرجعيتها في ذاتها، وبطريقة أخرى تمثل الحقائق من هذا الصنف صدقاً واضحاً وقادرة على الاتساق مع صيغتها ومقدماتها. ويستطيع العقل البشري أن يقر بصدقها، متى فهم هذه المقدمات وانتقل إلى النتائج.
وربما الحقائق المنطقية من أكثر الحقائق قدرةً على الإقناع، وبالتأكيد تنال اتفاقاً حولها بحكم استنادها إلى التفكير السليم، ولا تسمى بداهتها بسلطة الحقيقة إلاَّ إذا تم اعتبار المنطق أداة لترويج الأيديولوجيات وإعتبار الأيديولوجيا مادةً منطقيةً كمن يُحوّل العقل إلى عاطفة بالضبط. حينئذ سيكون هناك نوع من اللّي لعنق العقل أو بالأحرى الإخلال بالحقائق لممارسة (فعل أيديولوجي فاضح). ونحن نعلم أن المنطق قد استخدم كثيراً في الترويج الإيديولوجي، سواء بالنسبة للمذاهب الفلسفية كالماركسية واستعمال مؤيديها للمنطق الجدلي في تبرير الصراع وتفسير حركة التاريخ أم كالمذاهب الدينية ومحاولة استخراج منطق ديني موازٍ يدافع عن العقائد ويحمي الأفكار المؤدلجة من السقوط. وأحيانا ينظر أتباع تلك المذاهب إلى بعض رمزهم الفكريين على أنهم أصحاب اسهام منطقي، فيذهبون لاستنطاق مؤلفاتهم بما تجود به من حقائق منطقة مفترضة، بينما هي لا تلوي على جوانب منطقية بالضرورة.
حقائق إنسانية (تاريخية، اجتماعية، سياسية..)
حقائق تمثل ظواهر أو أحداثاً أو ممارسات تخصُ المجتمعات في التاريخ أو الحاضر، وقد وقعت بالفعل وتدور حولها التوصيفات وعمليات البحث والمعرفة من جوانب عدة. وربما تختلف حولها الروايات والسرديات بصدد على سبيل المثال: مدى مصداقيتها وحقيقتها، والكيفية التي حدثت بها، وما المقصود الكامن فيها، وإلى أية أهداف كانت ترمي، وما معناها بالنسبة للمجتمعات، وهل تركت آثاراً زمنية أم لا؟
هذا النمط من الحقائق هو الذي تسوّقه السلطة القائمة وتضع نفسها في القلب منه، فالأحداث قد تُقبل أو لا تُقبل بقدر ما يتم تكريس تأويلها على نطاقٍ عام كأنَّ المجتمع هو الفاعل لها، رغم أنه في تاريخ البشرية لم توجد فكرة أن المجتمعات قد قامت جميعها بأحداث معينة. فهذه خرافة لم توجد قط في أي عصر من العصور. هناك بطبيعة الحال فاعلون وهناك هامشيون، وهناك مشاهدون ومتابعون وهناك متأثرون وهناك لا حقون على الأحداث. ولكن الأوضح أن هناك دوماً منْ يرى في بعض الأحداث حقائق راسخة، وهي الأجدر بتعميم نبرتها على المجتمع كل المجتمع.
لا يخفى علينا القول الشهير إن المنتصرين هم من يكتبون التاريخ. وبالتالي سيظل المهزومون والمنسحقون قابلين بروايته كما كُتب دون حراك أو بالأحرى دون إمكانية تغيير الأوضاع. جميع جوانب التاريخ كتبت بهذا المداد الذي يقطر نصراً وهزيمة، وأن النصر لا يستمر هكذا بسواعد مادية وفي ساحات الحروب، ولكنه ينتقل إلى مرحلة التدوين الذي يستثمر في سلطة الحقائق. وهي سلطة تأويل وصناعة مخيلة جماهيرية عابرة للأحداث. ليس المدهش هو كيف تنتصر، لكن الأكثر إدهاشاً كيف تجعل الأطراف الأخرى أن تدون انتصارك في الذاكرة وأن تقنع الأجيال- بعد الأجيال- أنك مازلت منتصراً، وأن ما قمت به هو الحقيقة. كل ذلك يقع في فضاءات ما بعد الحقيقة، إنه واقع آخر له أفعاله البديلة.
وبطبيعة الحال ليس فرض سلطة الحقيقة أمراً سهلاً، لكنه يتطلب (عمليات غسيل تأويلي interpretative washing) متواصلة، فكما قلت سلفاً إن الأفق الثقافي العام للمجتمعات يعمل بآلية التأويلات، ولا يوجد فراغ تأويلي طوال الوقت. وبالأحرى لا تسمح السلطة في المجتمعات بهذا الفراغ التأويلي. ولذلك سيكون على سلطة الحقيقة في هذا الصدد حسم أمر الحقائق الإنسانية وتقديم تأويل بإمكانه إزاحة التأويلات الموجودة وبإمكانه حسم الصراعات لصالحه في المخيلة الجماهيرية. فلا تُوجد سلطة حقيقة دون (غسيل تأويلي) طويل الأمد وشاق الدروب ووعر التحولات تجاه الذهنيات السائدة. لأنَّ معارك الحقائق أصبحت في عصرنا الراهن حروب معانٍ ورموز بإمتياز.
يبقى سؤال مهم: هل للحقيقة قُوى تحُول دون توظيفات السلطة ؟!
***
د. سامي عبد العال – أستاذ فلسفة