أقلام فكرية
حاتم حميد محسن: نظرية ستيفن هاوكنك حول أصل الزمن والحياة؟
كتب استاذ الفضاء البلجيكي توماس هيرتوج عن زميله العالِم المعاق ستيفن هاوكنك وكيف عملا معا لأجل تطوير "نظرية كوانتمية جديدة عن الانفجار العظيم بغ بانغ" عام 1998(1). ما بدأ كمشروع رسالة دكتوراه تطوّر على مدى عشرين عاما من التعاون المكثف لينتهي بوفاة العالِم البريطاني هاوكنك في 14 مارس عام 2018. اللغز في بحثهما طوال تلك الفترة كان: كيف أمكن للانفجار العظيم خلق ظروف مثالية جدا لنشوء الحياة. جوابهما نُشر في كتاب جديد بعنوان (أصل الزمن: النظرية النهائية لستيفن هاوكنك).
الأسئلة حول الأصل النهائي للكون وضعت الفيزياء في موقف غير مريح. غير ان هذا بالضبط ما غامر به العالم البريطاني هاوكنك. الأمل بفك لغز الكون قاد هاوكنك الى المزيد من البحث في الكوزمولوجي او (علم الكون). شعارهُ كان "إعمل أشياءً يخاف منها الآخرون".
يقول توماس ان سعيهما العلمي المشترك يعني انهما اقتربا جدا. كونك قريب منه يجعلك تتأثر بتصميمه وتفاؤله بأمكانية معالجة الأسئلة المحيرة. يقول: هو جعلهُ يشعر كما لو كانا يكتبان قصة خلقهما الخاصة، وهو ما قاما به فعلا.
في السابق كان الإعتقاد ان تصميم الكون يشير الى ضرورة وجود مصمم – او إله. اليوم، يشير العلماء بدلا من ذلك الى قوانين الفيزياء. هذه القوانين لها عدد من الخصائص المدهشة المنتجة للحياة. انظر الى كمية المادة والطاقة في الكون، تجد هناك نسبة دقيقة من القوى، او عدد من الأبعاد المكانية. الفيزيائيون اكتشفوا انك لو تغيّر قليلا في هذه الصفات ،ستجعل الكون غير قابل للحياة. الشعور تقريبا كما لو كان الكون مرتّب – حتى مع حجمه الكبير.
ولكن من أين جاءت قوانين الفيزياء؟ بدءاً من اينشتاين وحتى هاوكنك في عمله المبكر، اعتبر معظم فيزيائيو القرن العشرين ان العلاقات الرياضية هي التي تؤطر القوانين الفيزيائية كحقائق أبدية. حسب هذه الرؤية، يكون التصميم الظاهر للكون هو مسألة ضرورة رياضية. الكون هو الطريقة التي يجب ان يكون عليها لأن الطبيعة ليس لها خيار آخر غير ذلك.
وفي مطلع القرن الواحد والعشرين، برز توضيح مختلف. وهو اننا نعيش في كون متعدد، او فضاء هائل يفرز خليطا من الاكوان، كل واحد له نوعه الخاص من الفيزياء والانفجار العظيم. سيكون من المنطقي إحصائيا لبعض هذه الأكوان ان تكون صديقة للحياة.
غير ان هذه التأملات في تعدد الأكوان وقعت حالا في مفارقات دائرية ولم تكن لها تنبؤات ذات موثوقية بحيث يمكن التحقق منها.
إعادة نظر جذرية في علم الكون
هل يمكننا العمل بشكل أفضل؟ نعم يقول العالمان هاوكنك وزميله، ولكن فقط عبر التخلي عن فكرة متأصلة في علم الكون المتعدد بان نظرياتنا الفيزيائية يمكنها ان تتبنّى نظرة الهية كما لو انها تقف خارج الكون الكلي. من الواضح انها مسألة تيليلوجية (غائية). نظرية الكون يجب ان توضح حقيقة اننا نوجد ضمن الكون لا خارجه. "نحن لسنا ملائكة ننظر الى الكون من الخارج"، يقول هاوكنك لزميله. "نظرياتنا لا تنفصل عنا ابدا ".
يقول توماس انهما انطلقنا لإعادة التفكير بعلم الكون من منظور المراقب. هذا تطلّب تبنّي القواعد الغريبة لميكانيكا الكوانتم التي تحكم العالم الجزئي للجزيئات والذرات. طبقا لميكانيكا الكوانتم، يمكن للجزيئات ان تكون في عدة أماكن في وقت واحد – وهي الخاصية التي تسمى بالتراكب superposition(حيث يسمح النظام الكوانتمي بوجود الجسيم في اكثر من موقع في وقت واحد مادام لم يتم قياسه بعد). فقط عندما يُلاحظ الجسيم يكون التقط (عشوائيا) مكانا محددا. ميكانيكا الكوانتم ايضا تستلزم تقلبات وقفزات عشوائية، مثل ظهور الجزيئات من مكان فارغ ثم اختفائها مرة اخرى.
لذلك، يبرز في الكون الكوانتمي ماضي ومستقبل محسوس من سديم الإحتمالات عبر عملية مستمرة للملاحظة. هذه الملاحظات الكوانتمية لاتحتاج الانسان لتنفيذها. البيئة او حتى الجزيء الواحد يمكن ان "يلاحظ". هناك عدد لامتناهي من أفعال الملاحظة الكوانتمية تحوّل باستمرار ما يمكن ان يحدث الى ما يحدث فعلا، وبالتالي تسحب الكون بقوة راسخة نحو الوجود. وحالما تتم ملاحظة شيء ما، فان جميع الإحتمالات الاخرى تصبح غير ملائمة.
العالمان اكتشفا بانه عند النظر رجوعا الى المراحل المبكرة للكون وبعدسة كوانتمية، يجدون هناك مستوى عميق من التطور تتغير فيه حتى قوانين الفيزياء وتتطور في تزامن مع اتخاذ الكون لشكله. وما هو اكثر من ذلك، ان ما بعد التطور هذا meta evolution (تطبيق مفاهيم تطورية على انظمة غير حية) يتخذ نكهة دارونية. التغيرات تدخل للعملية لأن قفزات الكوانتم العشوائية تخلق باستمرار رحيلا مؤقتا عن ما هو اكثر احتمالا. الاختيار يدخل اللعبة لأن بعض تلك السفرات يمكن ان تتضخم وتتجمد بفضل الملاحظة الكوانتمية. التداخل بين هذه القوى المتنافسة – التغاير والاختيار – في الكون المبكر أنتج شجرة متفرعة من القوانين الفيزيائية.
المحصلة من ذلك هي مراجعة عميقة لأساسيات علم الكون. علماء الكون عادة يبدأون بافتراض قوانين وظروف أولية وُجدت في وقت الانفجار الكبير، ثم ينظرون كيف تطور منها كوننا الحالي. لكننا نفترض ان تلك القوانين ذاتها هي نتيجة للتطور. أبعاد، وقوى، وجزيئات تتولى التحوّل والتنوّع في فرن الانفجار الكبير – بطريقة ما مشابهة لبروز الانواع البايولوجية بعد مليارات السنين لتكتسب شكلها الفعال بمرور الزمن. كذلك، العشوائية المتجسدة في العملية تعني ان محصلة هذا التطور – مجموعة معينة من قوانين الفيزياء التي تجعل كوننا على ما هو عليه - يمكن فهمها فقط بأثر رجعي.
بمعنى ما، الكون المبكر كان تراكبا لعدد هائل من العوالم الممكنة. لكننا ننظر الى الكون اليوم في وقت يوجد فيه البشر والمجرات والكواكب . هذا يعني اننا نرى التاريخ الذي يقود الى تطورنا. نحن نلاحظ حدوداً مع "قيم محظوظة". لكننا نخطيء في الافتراض انها صُممت او هي دائما كذلك.
مشكلة الزمن
يقول توماس ان جوهر فرضيتنا هي اننا عند التفكير بأثر رجعي في الزمن، فان التطور يستمر نحو مزيد من البساطة وأقل بنية على طول الطريق. وبالنهاية، حتى الزمن ومعه قوانين الفيزياء ستتلاشى. هذه الرؤية خصيصا وُلدت من الصورة الثلاثية الأبعاد لنظريتنا. "المبدأ الثلاثي الأبعاد" يتنبأ بانه مثلما الصورة الثلاثية الأبعاد تبدو لها ثلاثة أبعاد عندما هي في الحقيقة تُشفّر في بعدين فقط، كذلك تطور كامل الكون هو مشفّر على سطح مجرد وبلا زمن.
الكاتب وهاوكنك ينظران الى الزمن والسببية كـ "صفات ناشئة"،ليس لها وجود سابق وانما تظهر من التفاعلات بين جزيئات كمية لامتناهية. انها تشبه الى حد ما الحرارة عندما تبرز من عدة ذرات تتحرك مجتمعة، حتى عندما لا تمتلك أي ذرة منفردة للحرارة.
عند المغامرة رجوعا في الزمن، وأخذ نظرة ضبابية مختزلة لسطح ثلاثي الأبعاد، سنفقد بالنهاية كل المعلومات المشفرة في ذلك السطح. هذا سيكون أصل الزمن – الانفجار الكبير.
يقول الكاتب انهما درسا أصل الكون مقابل اساس مستقر لقوانين الطبيعة الثابتة. لكن نظريتهما تقرأ تاريخ الكون من الداخل أي يتضمن في مراحله المبكرة أصل القوانين الفيزيائية. انها ليست القوانين بحد ذاتها وانما قدرتها على التغيير هي الكلمة الأخيرة.
ملاحظات المستقبل الكونية قد تجد دليلا على هذا. على سبيل المثال، ملاحظات دقيقة لتموجات موجات الجاذبية في نسيج الزمكان قد تكشف بصمة بعض الفروع المبكرة للكون. لو تم تحديدها، فان ملاحظات هاوكنك الكوزمولوجية النهائية قد تثبت انها أعظم موروث علمي.
***
حاتم حميد محسن
..................................
الهوامش
(1) القصة نشرها بروفيسور الفيزياء توماس هيرتوج Thomas Hertog الاستاذ في جامعة كيو لوفين في the conversation بتاريخ 10 مايو 2023.