أقلام فكرية
عبد الوهاب البراهمي: "مارسال بروست" والفلسفة
"نسيء فهم"مشروع بروست الفلسفي" حينما نعتقد أنه بإمكاننا العثور على فلسفة قائمة في أفكار" (مارلو بونتي في درس عن مارسال بروست).
"تكشف أعمال مارسال بروست الروائية عن" عدوى روائية أصابت ممارسة الفلسفة".. " لم يدمج بروست في كتاباته الروائية موضوعات فلسفية كلاسيكية فحسب، بل ابتكر موضوعات صارت فلسفية وذلك بقدرته على الكتابة فيها روائيا، ليفتح الطريق بذلك للتفكير فيها على نحو فلسفي غير مسبوق" (آن سيمون " صخب عبور المسافات").
"يساعدنا بروست على فهم أسرار الزمن.." (جان ماري ديران). " ليست الساعة ساعة لا غير، بل هي مزهرية مملوءة بالروائح والأصوات والمشاريع والمناخات..إنّ دقيقة نمضيها من نظام الزمن تخلق فينا من أجل أن نحسّ بها، إنسانا تحرّر من نظام الزمن".(م. بروست " البحث عن الزمن المفقود").
*
هل علينا أن نقول أولا أنّ مارسال بروست (1871 - 1922) روائيّ بالأساس؟ ربّما. ولكنّنا إزاء روائي فذّ أثار جدلا وما يزال على أكثر من صعيد وخاصّة من ناحية علاقته بالفلسفة، أو بالأحرى، من جهة حضور الفلسفة على نحو ما في كتاباته الروائية. ذلك أن النظر مثلا في روايته المميزة " البحث عن الزمن المفقود"(التي نشرت من1913 إلى 1927) يكشف، فضلا عما فيها من " مقاطع نظرية" أشبه "بتحليلات الفلاسفة "، يوجد فيها اهتمام بمسائل فلسفية وأخلاقية واستيتيقية.. وإن على نحو خاص. ممّا يؤكّد أنّنا إزاء " رواية " مميزة، وأنّ ما يميّزها، من ضمن عناصر أخرى - هو بالخصوص"البعد الفلسفي ". وهو الذي سمح لبعض النقاد بالنظر إليها جنسا خاصا من الرواية هو" الرواية الفلسفية". أو لعلّها كما يقو آخرون من قبيل فلسفة خاصّة، " فلسفة روائية" أي فلسفة أصيبت بعبارة " آن سيكون " بعدوى روائية". ولعلّ هذا ما يفسّر اهتمام كثير من الفلاسفة بأعمال بروست وبرواية" بحث عن الزمن المفقود " على وجه الخصوص. بل اهتمام كثير منهم أيضا بالبحث في الروافد الفلسفية (من أفلاطون إلى شوبنهاور وبرجسون الخ) لكتاباته الفنية، لرواياته واختلافهم في ذلك في حدّ اليوم. ولعلّ هذا ما يحملنا على التساؤل عمّ يبرّر هذه العلاقة بين ضربين من الإبداع يحيلاننا إلى مجالين مختلفين هما الرواية والفلسفة، إلى الفنّ والفلسفة. ما وجه صلة مارسال بروست بالفلسفة: هل يعود الأمر إلى بروست ذاته، إلى خيار شخصي ام إلى قرابة بين الفلسفة والرواية لم يفعل بروست سوى كشف مقوماتها بل وتكريسها ربما في اعماله؟ وما شأن بروست والفلسفة ؟ هل هو بالأساس فيلسوف ضل الطريق إلى الرواية أم روائي أو فنان يجنح إلى الفلسفة ؟
"صورة مخطوطة لمارسال بروست لرواية " البحث عن الزمن المفقود " (مذكرات. XXXI-XCII)
علينا أن نشير أولا أن تكوين بروست " فلسفي" بالأساس. فقد حصل على الإجازة في الفلسفة. و أظهر اهتماما بالفلسفة منذ دخوله المعهد وحضور دروس الفلسفة لأستاذه ألفونس دارلي (1849-1931) فيلسوف عرف كبيداغوجي أكثر منه فيلسوف حيث لم يترك آثارا ذات بال، رغم كونه كان مؤسسا لمجلة " الفكر" المعروفة. وقد ورد في مخطوطات معرض حول بروست في المكتبة الوطنية الفرنسية ما يفيد بالعلاقة الوثيقة التي جمعت بروست بأستاذه. فقد جاء فيها:" سيجد مارسال بروست طريقه في قسم الفلسفة بفضل أستاذ فلسفة مميز هو ألفونس دارلي، الذي مارس عليه تأثيرا عميقا. وإذا ما صدقنا رواية جان سانتوفيل حيث يشير فيها على لسان دارلي إلى التعليم الذي يفترض انه أزعج في البداية بروست. على أن الأستاذ والتلميذ لم يتأخرا في تبادل عبارات الإعجاب بينهما بما أن مارسال "كتلميذ ليومين فحسب، قد توجه إلى أستاذه داركي يطلب منه مشورة أخلاقية ".(م.بروست، مخطوطات معرض المكتبة الوطنية الفرنسية 1956 ص14). وقد توطّدت علاقة بروست بالفلسفة فيما بعد في " الكوليج دي فرنس" وتتلمذ على أساتذة فلاسفة أمثال إيميل بوترو وفكتور بروشار وإميل رابيه. انصرف اهتمام بروست في شبابه إلى الكتابة في الفلسفة مثلما تؤكده شهادة معجب به هو دي بارغوت"De bergotte وهو كاتب معروف.إذ يقول عنه:" أحبّ فلسفته (يشير إلى بروست) أكثر من أيّ شيء وقد وهبت نفسي لها إلى الأبد، فهي تجعني متلهفا إلى الوصول إلى السن الذي يسمح لي بالدخول إلى الكوليج حيث يوجد قسم يسمّى قسم الفلسفة". غير أن علاقة بروست بالفلسفة انشغالا وكتابة لم تدم طويلا نتيجة ما أصيب به من إحباط تجاه تعليم الفلسفة، الأمر الذي جعله يتجه شيئا فشيئا إلى الرواية ليصبح كاتبا وأديبا مميّزا. لكن هل يعني هذا التحوّل انقطاع الصلة بالفلسفة؟ هل من أثر للفلسفة على كتابات بروست؟
على الرغم من أن بروست يؤكّد بأنّ " صلته بالفكر تضعف يوما بعد يوما" (في " ضد سانت بوف") وتحفّظه إزاء " الأنساق الفلسفية" والنظريات وحضورها خاصة في الكتابات الأدبية، حيث يقول تعبيرا عن تقليله من شأن هذه العلاقة:" إنّ أثرا توجد فيه نظريات هو بمثل شيء نضع عليه طابع الثمن"(بروست " البحث عن الزمن المفقود)، فإنّه أي بروست، يفصح عن تأثّر عميق بالفلسفة يؤكد استفادته من تعلمها وذلك من خلال اعتراضه على التيار الرمزي (الذي نقده بمقال في شبابه " ضدّ الغموض" نشر سنة 1896 بمجلة روفي بلانش) في مقابل تأكيده على لزوم وضوح التعبير عن الأفكار، وضوحا هو مدين به إلى الفلسفات التي كوّنت فكره وخاصة تلك التي كانت بارزة في عصره، فلسفة برجسون وغيره، والتي أكسبته قدرة على التحليل، لا خدمة للمفاهيم بل لوصف انطباعات راوٍ يبحث عن الحقيقة السامية، الحقيقة الفنية تحديدا. غير أن حرصه هذا على الوضوح في العبارة والأسلوب و تجنبه غموض " الرمزيين" لا يعني انحيازه إلى" الميتافيزيقيين أصحاب النظريات"، إلى الفلسفي بالذات. فهو القائل بلزوم الحفاظ على حدود التمايز بين مجالات القول، بين الفلسفي والفنّي. عبّر بروست وهو في سنّ 25 عن هذا في مؤلف عرض فيه آراءه الجمالية كتاب " ضدّ الغموض" 1896، إذ قال فيه مبينا حدود التمايز بين الشعر والفلسفة ولزوم تجنب الروائي حشر النظريات في روايته:" إنّ الروائي الذي يحشو روايته فلسفة ما، رواية ستكون دون شكّ بالغة القيمة في نظر الفيلسوف كما الأديب، لا يرتكب خطأ أكثر خطورة ممّا أجده لدى شعراء شبّان لم يطبّقوا النظرية فحسب بل شيّدوا عليها. لقد نسوا كما هذا الروائي أنّه، إذا كان الكاتب والشاعر لا يستطيعان أن يذهبا بعيدا إلى عمق واقع الأشياء بقدر ما يكون لدى الميتافيزيقي ذاته، فذلك لنهما يسلكان طريقا آخر، وانّ عون التفكير، بعيدا عن أن يفوته، يعيق زخم الشعور القادر وحده على حملها إلى مركز العالم. فليس بمنهج فلسفي بل بضرب من القدرة الغريزية كان لـ"ماكبث " عطر بقية فلسفة. إنّ عمق عمل كهذا هو بمثل عمق الحياة ذاتها بما هي الصورة التي تظلّ، حتى للفكر الذي يثيرها، شيئا حسيّا ودون شكّ غامضة. لكنه غموض من نوع آخر، تعميقه مثمر ومن البغيض جعل النفاذ إليه مستحيلا بسبب غموض اللغة والأسلوب".(م. بروست" ضد الغموض ").
هكذا يكون مارسال بروست منحازا بوضوح إلى الفنّ، إلى الرواية، إلى الكتابة الروائية " بوضوح في العبارة والأسلوب". وهو بهذا يؤكّد مرة أخرى أنه روائي بالأساس الأمر الذي يجمع عليه النقاد تقريبا، و يؤكّده أيضا صديقه بنيامين كريميو B. crumieux (1888-1944) في شهادة نشرت في مقال سنة 1924 في مجلة باريس بعنوان:"بسيكولوجيا بروست" جاء فيها:" من المزعج كثيرا ردّ ما يمكن أن نسمّيه "نسق بروست" إلى مجرد صيغ. فبروست، فعلا هو فنان وليس فيلسوفا، إنه يحذر النسق. و يريد أن يكون واقعيا فحسب ولا يشتغل إلاّ على تدقيق ملاحظاته. وحينما يصل واقعتين في مجموعٍ بعلاقة السبب والنتيجة، فهو يحذر من الذهاب بعيدا. لن تعثر لديه على عبارات جامعة (مفاهيم)، بل بالأحرى على رفض محفّز للوقوف عند عبارات جامعة".
ولكن إذا كان من الثابت لدى النقاد أن بروست روائي بالأساس وليس فيلسوفا، فما قيمة " الفلسفي " الكامن والثاوي في رواياته؟ هل يعبّر عن " فلسفة" أو فكر فلسفي أم يكشف بعبارة فانسون ديكوت " عن فكر روائي" يعبّر عن جنوح إلى الفلسفة لا غير؟
لقد حذّر مارلوبونتي في درس خصّصه لبروست من سوء الفهم الذي قد يثيره "مشروع بروست الفلسفي" حينما نعتقد، كما يقول مارلو بونتي، أنه بإمكاننا العثور على فلسفة قائمة في أفكار". ذلك أنّ فكر بروست من قبيل " الفكر الروائي"، يتنزّل بالأساس في مجال الفنّ لا الفلسفة ؛ حيث أنّه لا يعبّر عن نفسه في لغة نظرية (بمفاهيم فلسفية ولا بمنهج تحليلي استدلالي أو برهاني..) بل بلغة أدبية تحديدا وبأسلوب أدبي. فكتاباته روائية تحديدا، غير فلسفية وإن عبّرت عن " قدرة مستقلّة ذاتية على التوضيح والوصف والتحليل"، تحليلا وتوضيحا لا يعني بالمرّة توسيعا " لنظرية" فلسفية معينة، بالرغم من حضور بارز للبعد الفلسفي خاصّة في الجزء الأخير من رواية " البحث عن الزمن المفقود"، حيث يكتمل معنى الأثر ويبرّر مجموعه". وإذا كانت رواية " البحث عن الزمن المفقود" قد تضمنت اشتغالا " روائيا" أدبيا على مبحث " الذاكرة والزمن"(وهو مبحث فلسفي بلا شك") وهو مركز اهتمام بروست، فإن هذه " المعالجة الأدبية" لم تشر بالمرة إلى فلسفة نسقية بعينها؛ بالرغم من تأكيد النقاد على تأثر بروست بفلسفات عديدة واستلهامه أفكاره عن الزمن وغيره من نظريات فلسفية يردّها بعض النقاد إلى أفلاطون ونظريته في التذكّر. بل إنّ بعض النقاد أمثال الصحفي" جان بيروفو.Pierrefeu J (1881-1940) يعتبر جازما أن " بروست تلميذ أصيل لبرجسون " موافقا في ذلك ل. بيار كينت P،Quint (1895-1958) الذي ذكر في كتاب جماعي خصص لبروست بأنّ " الأفكار التي تهيمن على فكر وعمل بروست كما كتب ل. بيار كوينت في دراسته لحياة بروست، أفكار من قبيل سيلان الزمن والنموّ الأبدي للشخصية في الديمومة، وثراء اللاوعي الذي لا يقبل الارتياب ولا يمكن العثور عليه إلا حدسا، والذاكرة أو التداعي اللاإرادي والذي لا يمكن التعبير عنه إلاّ بواسطة الذكاء، والذكاء الذي يظلّ عاجزا عن إدراك الحياة أو الفنّ بوصفه الحقيقة الوحيدة للعالم والذي يسمح بالعثور على الحياة في عمقها، كل هذه الأفكار مستلهمة من برجسون، ويبدو أن بروست قد عاش وأحس وجرّب شخصيا كل بسكولوجيا برجسون". وهذا بالرغم من أن بروست نفسه قد أنكر علاقته بفلسفة برجسون فيما يخص فكرته عن الذاكرة خاصّة. فقد جاء في رسالة له إلى روني بلوم سنة 1913 ما يفيد توجهه الشخصي بعيدا عن برجسون خاصة وبالذات في روايته " البحث عن الزمن المفقود" التي يعتبرها كما قال:" الكتاب الذي وضعت فيه أفضل ما في فكري وحياتي بالذات". ويقول عنه في رسالته المذكورة:" من غير المفيد أن نقول كل ذلك. إنّه كتاب جدّ واقعي لكنه محمول نوعا ما على محاكاة الذاكرة اللإرادية (التي في رأيي، رغم أن برجسون لا يقوم بهذا التمييز، هي الذاكرة الحقيقية الوحيدة، الذاكرة اللاإرادية، ذاكرة الذكاء والأعين التي لا تعيد لنا الماضي إلاّ في صورة محاكية غير دقيقة لا تشبهه أكثر مما لا تشبه لوحات أسوء الرسامين الربيع الخ ". وبالرغم من هذا التأكيد لبروست على المنحى الشخصي في كتاباته، فإنّ البعض يصر على البحث فيها عن أثر لهذا الفيلسوف أو ذاك، عن أثر لأفلاطون وشوبنهاور وللايبنتز أيضا. فقد ورد في نشريات " بيزييه" ليوم 23 فيفري 1924 مقالا تحت عنوان:" فيدروس" بيّن العلاقة بين بروست ولايبنتز:" في رأي الفلاسفة، يشمل الحدث البسيط في المطلق وفي نظر الإله، تكوين الكلّ وحكم الكون. إنه شعور مثيل نجده عند بروست. يقيم تحت ملاحظات بروست التي تبدو في الظاهر بلا معنى وغالبا رتيبة، المعنى الأكثر دقّة للتداخل بين الكوني والأبديّ. شاء البعض ردّ ذلك إلى تأثّر بفرويد وبرجسون وانشتين. لكن ذلك قد يبدو لنا ذي صلة خاصّة بلايبنتز، إنّ لم تكن رؤية بروست أكثر أصالة، بل لعله يجسّد حتّى مذهب هذا الفيلسوف الكبير. ذاك الذي يمثّل كل موناد لديه الكون كله من وجهة نظره الفردية. إنّ توجهه الضدّ أخلاقي المزعوم هو لايبنيتزي أكثر. هذه النزعة التفاؤلية التي جيب أن نذكرها: النظر إلى الكلّ يكشف عن كلّ شيء حسن، وجميل وهامّ. ومرّة أخرى بالتأكيد إذا ما بدا أحدهم محتقرا للكلّ والأنساق الميتافيزيقية عند كاتب يومي صغير كما كان، فهو بروست. لكنه في هذا بالذات هو ميتافيزيقيّ، وأي نوع من الميتافيزيقيين ! - بما أنه كما سنؤكد على ذلك مرارا - توجد في الحدوث الهارب لساعة، حتى التي هي مؤلمة وسيئة ـ الحياة الأصيلة للنفس الانسانية، وكلّ ارتعاشات الكائنات منعكسة في نفس بروست ذاته. ذلك هو الحوض الكبير الذي يرى الحيوان كلّه في عظم صغير ". لقد طرح بروست على وجه الخصوص في روايته " البحث عن الزمن المفقود" مسائل فلسفية كبرى من قبيل " الزمن والفكر والذاكرة والفردية والوهم والنوم والحياة والاستيتيقا والعرضية والضرورة والمثل العلى أو علاقة اللغة بالواقع الخ.." غير أن طرحه لها، إذ يجعله من جهة " المبحث" مشاركا للفلاسفة دون أن يكون بذاته فيلسوفا خاصّة أنه يأبى على نفسه أن يكون كذلك، بالرغم من حيرة قد تصيبه أحيانا إزاء ما يكتب بسؤاله: " هل أنا روائي؟.." أم أنا فيلسوف؟ ".. ؛ فإنّ طرحه لهذه المسائل ليس طرحا فلسفيا بل على صورة، كما قالت آن سيمون في كتابها " صخب عبور المسافات" اتحاد الفكر بالسرد". أو هو من قبيل" الدمج عنوة لبعض الموضوعات الفلسفية الكلاسيكية ولكنه مفعم بكل نوع من الانفعال والموت والحبّ والغيرة والحرب والحكايات المؤلمة والمغامرات المجنونة التي تجعلها موضوعات متحوّلة ". وتضيف آن سيمون في نفس المصدر، بأن " هذا الدمج في سياق سردي لهذه المشكلات الفلسفية في حكايات يبعدها عن المفهوم، ويجعلها تقيم في شخصيات لا تكف عن المفاجئة والخيانة، وفي أمكنة تهيمن عليها الانفعالات، يجعلها مطبوعة بالتواء ينتهي بنا إلى عدم التعرّف عليها كموضوعات فلسفية."
غير أنّ الدمج " للفلسفي" في "الحكاية"، إذ ميز بوضوح بروست عن الفلاسفة، فإنّه قرّبه منهم. ربما بموجب ما أسماه "لوك فراز" " تلفيقية بروست"، (التي تتجلّى في التقارب مع عديد الفلسفات المتنوعة المناحي والتوجهات بل والمتباينة) و ذلك أن روايته المميزة " البحث عن الزمن المفقود" قد " ساعدت على التفكير فلسفيا في الزمن " والذاكرة وموضوعات أخرى، على " نحو غير مسبوق" فضلا عن أنّها كانت مصدر سعادة عديدة الفلاسفة المعاصرين أمثال مارلوبونتي ودولوز وفوكو وغيرهم أيضا من الفينومينولوجيين والوجوديين أمثال سارتر والمشتغلين على الحقل النفسي أمثال بارط وغيرهم مثل فانسون ديكومب وجيليا كريستينفا ومارتا توشيوم وجاك بوفراس.. لقد قاد كتاب بروست وبالخصوص " البحث عن الزمن المفقود"مارلو بونتي ودولوز كما تقول لنا آن سيمون في كتابها المشار إليه سابقا:" إلى الاشتغال على الرواية في أفق المفهوم وإدماجها من جديد في حركة أفكارهما. فبالنسبة إلى مالوبونتي في فكرته عن: الإدماج والمشهد وعلاقة المحسوس بالمعنى والصمت الكامن في الكلام الإبداعي وإدخال العمق داخل الزمن وفي العلاقة بالمرئيّ. أما بالنسبة إلى جيل دولوز فمن جهة الغيرة والجنون والرغبة والتهيج الجنسيّ وظواهر الغنيمة والتجسيد اللغوي للتعميم وللسرعة..".غيرأنّ استلهام هذه الأفكار من بروست أفضى لدى كل من مارلوبونتي و دولوز إلى حديث فلسفي دون "حكاية" بل إلى تحليل فلسفي ". لقد كان تأثير مارسال بروست في الفلسفة المعاصرة بَيِّنٌ، بما يملك من " قدرة سردية " و ابتكاره موضوعات صارت " فلسفية"، وبقدرته على الكتابة فيها روائيا. يظلّ بروست روائيا دون شكّ ولكنّه روائي مسكون بالفلسفة، يجنح إليها وهو الذي تربي في أحضانها.
صورة لـمارسال بروست
" من المفيد للفلاسفة قراءة الروايات لا من أجل مغادرة الفلسفة، بل من أجل ممارسة تمرين هو في ذات الوقت خيالي ومجسّد في الفكر " (آن سيمون - صخب عبور المسافات).
ولكن، من شيء أفضل للوقوف على ما سمّي بالبعد الفلسفي في روايات بروست، من الدخول إلى عالمه " الخاص، واللقاء به عبر نصوصه بالذات وقراءتها، حتى نعرف من هو وفيم يفكّر. من أجل ذلك أقترح عليكم قراءة بعض النصوص التي انتقيتها وتيسّرت لي قدر الإمكان ترجمتها دون الزعم بأنها أفضل ما يكون قدرة على رسم صورة عمّا كتب مارسال بروست، عن هذا الذي سميّ " اتحاد الفكر بالسرد". إنما ذلك من أجل أن نتيح للقارئ اللقاء بهذا الروائي الفذّ وربط علاقة " صداقة" معه عبر القراءة، و"القراءة صداقة " كما يقول بروست ذاته.
* مارسال بروست: نصوص مختارة:
1- " صخب عبور المسافات":
" لكن، حينما أشعر أنّ فكري قد أصابه التعب دون أن يدرك مبتغاه، أرغمه على العكس بأن يسلك مسلك هذا اللهو الذي أبعده عنه، أن يفكّر في شيء آخر، وأن يتعافى قبل محاولة قصوى، ثم أجعل ذهني صافيا أمامه، وأضع من جديد قبالته الطعم الحديث لأوّل جرعة وأشعر بانتفاضة شيء ما في نفسي، شيئا ما يتحرّك ويريد أن يصعد، شيئا ما لم يثبّت، في عمق سحيق، لا أعرف ما هو، لكن ذلك يصعد ببطء ؛ وأحس بالمقاومة، وأنتظر صخب عبور المسافات".
(م. بروست " البحث عن الزمن المفقود" على لسان أحد شخصيات الرواية - ترجمة النص: عبد الوهاب البراهمي).
2- عن القراءة:
" الصداقة دون شك، الصداقة التي تولي اعتبارا للأفراد هي شيء عارض، والقراءة صداقة. ولكنها، على الأقلّ، صداقة خالصة، وكونها تتجه إلى ميّت، إلى غائب، فإنّ ذاك يمنحها شيئا من النزاهة، شيئا مؤثّرا تقريبا. إنّها فضلا عن ذلك، صداقة تخلّصت ممّا يشكّل قبح الآخرين. ومثلما أنّنا لسنا، نحن سائر الأحياء، سوى أموات مع تأجيل التنفيذ، فإنّ كلّ هذه اللياقة وكل هذه التحيّات في الرواق التي نسمّيها احتراما وامتنانا وإخلاصا والتي نمزجها بأكاذيب كثيرة، هي عقيمة ومرهقة. بالإضافة إلى أنّنا- ومنذ علاقات التعاطف والإعجاب والاعتراف الأولى، - والكلمات الأولى التي ننطق بها، والأحرف الأولى التي نكتبها، ننسج حولنا أولى خيوط شبكة العادات، بأسلوب حقيقيّ للوجود، لن نستطيع التخلّص منه في الصداقات الموالية؛ دون اعتبار أنّه، أثناء ذلك الوقت تظلّ الكلمات المتهوّرة التي ننطقها مثل صكوك علينا دفعها، أو سندفعها أكثر أيضا كامل حياتنا ندما على تركها تنفلت منّا. في القراءة سرعان ما تردّ الصداقة إلى نقاءها الأول. لا مجاملة مع الكتب. فإذا ما أمضينا المساء مع هؤلاء الأصدقاء، فذاك لأنّنا رغبنا في ذلك. ونحن على الأقلّ لا نفارقها غالبا إلاّ على مضض. وحينما نكون قد فارقناها فلا وجود لهذه الأفكار التي تفسد الصداقة: ماذا كان رأيهم فينا؟ - هل أعوزتنا البراعة؟ هل أعجبوا بنا؟ - والخوف من النسيان بالنسبة إلى آخرين. تنتهي كلّ هذه الاضطرابات للصداقة عند حدّ هذه الصداقة الخالصة والهادئة التي هي القراءة".
"مارسال بروست " عن القراءة" تمهيد كَتَبَه بروست سنة 1905 لترجمته لكتاب " السمسم والزنابق " لجان ريسكان. ترجمة النص: عبد الوهاب البراهمي)
3- عن الحسد:
"الحسد من الأمراض المتناوبة، سببها متقلّب، إلزامي و متماثل دوما لدى المريض نفسه، وأحيانا مختلف تماما لدى آخر. يوجد من مرضى الرّبو من لا تهدأ أزمته إلاّ بفتح النوافذ، وبالاستنشاق الهواء بملء رئتيه، هواء نقيّا على المرتفعات، بينما يلجا آخرون إلى وسط المدينة، في غرفة مليئة بالدّخان. لا يوجد حاسد لا يسمح حسده ببعض الاستثناءات. فهذا يقبل خداعه شريطة أن لا يعلموه بذلك، و آخر أن يخفوه عنه، فيم ليس أحدهما أقلّ سخافة من الآخر، بما أنّ الثاني قد خُدع حقّا فيم حجب عنه من الحقيقة، بينما يطلب الأول في الحقيقة الغذاء والامتداد والتجديد لآلامه."
(مارسال بروست - السجينة - ترجمة النص: عبد الوهاب البراهمي).
4- عن الكآبة:
" لنعترف بفضل الأشخاص الذين يمنحوننا السعادة، إنّهم بستانين رائعين يُزهرون أرواحنا. ولكن لنكن أكثر اعترافا بالجميل للنساء الشرّيرات أو غير المكترثات فحسب، للأصدقاء القساة الذين سبّبوا لنا الأسى.
لقد حطّموا قلوبنا اليوم فهي متناثرة، حطاما، فلا يمكننا التعرف عليها، لقد اقتلعوا الجذوع وقطّعوا أرقّ الأغصان، مثل ريح نأسف لها، ولكنها تزرع بعض البذور لحصاد محتمل.
لقد سمحوا لنا في النهاية بتأمّل الحزن والحكم عليه. وذلك بتحطيم كلّ سعادة صغيرة تخفي بؤسنا الكبير، وبجعل قلبنا فناء عار كئيب. تحدث المسرحيات الحزينة فينا شعورا حسنا مماثلا؛ وعلينا أن نعتبرها أيضا أسمى من المسرحيات المضحكة، التي تخدع جُوعَنَا بدل أن تشبعه: إنّ الخبز الذي يجب أن يغذّينا مُرٌّ. ففي الحياة السعيدة، لا تبدو لنا مصائر أشباهنا على حقيقتها، إذ تقنّعها المصلحة أو تحوّلها الرغبة. لكنّ، فيما يضفيه الحزن من فتور في الحياة، والإحساس بالجمال المؤلم في المسرح، فإنّ مصائر غيرنا من البشر ومصيرنا، تجعل أنفسنا المتيقّظة تفهم في النهاية القول الأبدي غير المنتظر للواجب والحقيقة.
يكلّمنا الأثر الفنيّ الحزين لفناّن حقيقيّ بلهجة أولئك الذين تألّموا، والذين يحملون كلّ إنسان عاش الألم على ترك كلّ ما تبقّى هنا وعلى الاستماع.
يا للأسف! إنّ ما يمنحه هذا الإحساس، هذا المتقلّب، يتفوّق على الأثر الفني. والحزن الأرفع من المرح غير باق مثل الفضيلة. لقد نسينا هذا الصباح "التراجيديا" التي رفعتنا ليلة أمس إلى الأعالي حتّى نظرنا إلى حياتنا في مجملها وفي واقعيتها بشفقة صريحة وصادقة. سنكون ربّما في عام، قد شفينا من خيانة امرأة، ومن موت صديق. والريح قد زرع البذرة تحت دفعة الدمع، وسط هذه الأحلام المحطّمة، لهذا النُّثَاِر من السعادة الذابلة، لكنّها ستجفّ سريعا جدا كي يمكنها أن تصدّ."
(مارسال بروست " اللذات والأيام" 1896. ". نشر "كالمان ليفي" تمهيد "اناتول فرانس". ترجمة النص: عبد الوهاب البراهمي)
5- عن الغياب والنسيان:
" بما أنه يمكن للإنسان أن يؤثّر في العالم، فكيف باستخدامه الحيلة والذكاء والمنفعة والانفعال لا يتوصّل إلى إزالة هذا الشيء الفظيع: غياب ألبارتين؟ نعتقد أّنا سنغيّر الأشياء حولنا وفق رغبتنا، نعتقد ذلك لأنّنا لا نرى حلا مناسبا دونه. لا نعتقد فيما قد ينتج غالبا، مّما هو مناسب أيضا: لا نتوصّل إلى تغيير الأشياء وفق رغبتنا، لكن رغبتنا تتغيّر شيئا فشيئا. فالحال الذي نأمل تغييره لكونه غير محتمل لدينا، يضحى غير مثير لاهتمامنا. لم نتمكّن من تجاوز العائق، مثلما نريد حتما، غير أن الحياة بدّلته عندنا وجعلتنا نتجاوزه حتى أنّنا إذا ما التفتنا إذن نحو الماضي البعيد، بالكاد نقدر على تبيّنه، من فرط ما أضحى عليه من الضبابية. هذا الهدوء الذي أنا بصدد تذوّقه، هو أول ظهور لهذه القوة الكبيرة المتقطّعة، التي ستقاوم فيّ، الألم والحبّ، وستنتهي إلى منحهما الحقّ. إنّ هذا الذي حصل لي من انطباع أول وفأل، كان، وللحظة فقط، ما سيصبح عندي فيما بعد حالة مستمرّة، حياة لن أقدر فيها على التألم من أجل ألبارتين، حياة لن أحبّها فيها. وقلبي الذي قد اعترف بعدّوه الوحيد الذي يستطيع التغلب عليه، أي النسيان، صار يرتجف، كأسد في قفصه الذي حبس فيه."
مارسال بروست " غياب ألبارتين" ترجمة: عبد الوهاب البراهمي)
6 - عن البحر:
" يفتن البحر دوما أولئك الذين تخطّى لديهم الاشمئزاز من الحياة و إغراء الغموض، أولى الأحزان، مثل شعور بقصور الواقع عن إشباعهم. أولئك الذين هم في حاجة إلى الراحة قبل أن يعيشوا مرة أخرى أيّ تعب، سيواسيهم البحر، ويثير حماسهم على نحو غامض. لا يحمل البحر مثل الأرض آثار أعمال البشر والحياة الإنسانية. لا شيء يستديم فيه، ولا شيء يمرّ عبره إلاّ هاربا، كم يضمحلّ فيه أثر مَخْرِ السفينة! من هنا كان هذا الصفاء الكبير للبحر الذي لا تملكه الأشياء الأرضية. وهذا الماء البكر هو أكثر حساسية من الأرض الصلبة التي لابدّ من فأس لنبشها. تترك فيه خطوة الطفل أثرا عميقا مصحوبا بصخب، وتكون الفوارق المجتمعة للماء لحظة مهشّمة؛ ثمّ تمّحي البقيّة، ويعود البحر هادئا مثلما كان في الأيام الأولى للعالم.سيقع إغراء كلّ من كان متعبا من دروب الأرض أو من يتنبأ، قبل أن يسلكها، كم كانت خشنة ومبتذلة، سيقع إغراءه بالطرق الشاحبة للبحر، أكثر خطورة وأكثر عذوبة، غير آمنة ومقفرة. كل شيء فيه غامض، إلى حدّ ظلاله الضخمة التي تطفو أحيانا بسلام على الحقول العارية للبحر، دون بيوت ودون تظليل، والذي تتسع فيه الغيوم، قراه السماوية، و أمواجه الهائلة.
للبحر سحر الأشياء التي لا تسكت عند الليل، وهي بالنسبة إلى حياتنا القلقة رخصة للنوم، ووعد بأنّ كلّ شيء سيزول، بمثل مصباح ليلي لأطفال صغار يؤنسهم حينما يضيء. ليس البحر منفصلا عن السماء مثل الأرض، إنه دوما في تناغم مع ألوانه، يتحرّك بفوارقه الأكثر رقّة.إنه يشعّ بنوره تحت السماء و يبدو كل مساء كأنما يموت معها. وحينما تختفي، يستمر متأسفا عليه، في الحفاظ قليلا عن ذكراه المضيئة، قبالة الأرض التي يعمّها ظلام دامس. هي لحظة انعكاساته الكئيبة، نحسّ فيها بقلبه لطيفا جدّا يذوب وهو ينظر إليها. وبالكاد يحلّ الليل وتظلم السماء على الأرض المسودّة، يتوهّج البحر وهجا ضعيفا، لا نعرف بأيّ غموض، وبأي بقايا للنهار تحت موجات مدفونة.
ينعش البحر ذاكرتنا لأنّه لا يجعلنا نفكّر في حياة البشر، بل يسعد روحنا، لأنّه مثلها رشفٌ لا محدود وعاجز، زخم لا ينتهي حطّمته الشلالات، شكوى دائمة ورقيقة. هكذا يفتننا البحر مثل الموسيقى، التي لا تحمل كما اللغة أثر الأشياء، والتي لا تقول لنا شيئا عن البشر، لكنها تحاكي حركات روحنا. ينسى قلبنا، وهو يقارع الموج ويسقط معها، خيباته الخاصّة ويواسي نفسه في حميميّة متناغمة بين حزنه وحزن البحر، الذي يمزج بين مصيره ومصير الأشياء."
(مارسال بروست "اللذّات والأيام" 1896 - "28 - البحر" ترجمة النص: عبد الوهاب البراهمي)
***
......................
مراجع:
- بروست " البحث عن الزمن المفقود" ترجمة إلياس بديوي.
- مجلة أدب" الفرنسية " بروست فيلسوفا؟ - هشام ستيفان
- بروست والفلاسفة - فرانس كيلتير.
- موقع غالياكا gallica.bnf.fr " بروست والفلسفة " اوليفييه فريسار
-ويكيبديا.
- مارسال بروست، دراسة نقدية - جاك برات
- دراسات فرنسية - مارسال بروست، نقد أدبي - جان إيتيه -بلاي.
- فلسفة الرواية ونظرية القراءة: بروست،ديكومب وألتوسير - جيوم بيرييه النشرية العالمية للفلسفة 2009 عدد 248 ص 177-190.
- التلفيقية الفلسفية لمارسال بروست - لوك فراسو.