أقلام ثقافية
نسرين إبراهيم: ثقب أسود في المدينة
ظلال خجولة، طائرات ورقية تلامس حافة الهاوية
في شقٍّ ضيِّق بين عمارتين، حيث يتجمّع الغبار وتهمس الريح بحكاياتٍ قديمة، تتسرّب ظلال خجولة من الحائط.
تأتي في الصباحات متثاقلة، وعند المساء تراها كفراشاتٍ ملوّنة تبحث عن ضوء.
هي وجوهٌ صغيرة أيدٍ ترتجف، عيونٌ تلمع كالبلورات تتوقف وسط الرصيف لتطلب لقمة أو ابتسامة.
حواراتهم بسيطة: اسمهم قصير، جوابهم أنيق كبلسمٍ يهبط على جرحك فجأة.... وأنت في الطرق، تجد نفسك تتريّث، تصغي، تدهشك براءتهم قبل أن تبتلعها المدينة بصمتٍ قاتل.
وفي قلب المدينة، خلف صخب الأضواء ولوحات الإعلانات، فتح ثقبٌ أسودٌ له مقعدٌ من فراغ.
لا صوت له إلا امتصاصٌ بطيء: الفضاء الذي يختفي فيه الأطفال، الوقت الذي يلتهم الفرص، الأمل الذي يتقلّص مع كل يوم بلا مأوى ولا مدرسة.
هذا الثقب ليس مجرد فراغ طبيعي؛ هو منظومة ممتصة: إهمالٌ مؤسسي، سوقٌ يستغلّ الضعف، صمتٌ اجتماعي يجعل من البكاء أمراً عادياً وتبريراً لللامبالاة.
الظلال الخجولة تمرّ من الشقّ الضيق، تحاول أن تمرّر نفسها عبر مساحات صغيرة؛ لكنها تلامس محيط الثقب في كل مرة.
تبدأ بلطف: قطعة خبز، سؤال عن الطريق، ابتسامة تستعيرها من المارة، ثم شيئاً فشيئاً، يتوسّع الثقب، يلتهم طاقات الطفولة، ويحوّل البلورات إلى شظايا.
ثم تتحول إلى آلةٍ ذات حوافٍ حادة دفاعاً أو هروباً تجرح من حولها من دون أن تريد.
نحن أمام تتابع نذير:
الطفل الذي كان يغنّي كلمة واحدة يتعلم أن يصمت، ثم يتعلم كيف يسرق وقتك بالشفقة، بعدها كيف يصبح وقوداً لسوقٍ منظمٍ يربح من كسر الطفولة......
الطفل الذي كان يطير طائراً فوق الأرصفة كبلسمٍ يهبط، يتحول إلى ظلٍ يُبتلع.
أيُّ مدينةٍ هذه التي تسمح لثقبٍ أسودٍ أن ينمو في أحشائها حتى يصبح قادراً على ابتلاع وجوهٍ بريئة؟
الوقوف ضروري الآن ليس كرمزٍ بل كعملٍ مادي. أن نضمّر هذا الثقب الأسود يعني أن نملأه بما ينقذه: مأوى، تسجيلٌ مدرسي، رعاية صحية ونفسية، وسجلّات حقيقة تُؤمّن للطفل اسماً في المجتمع. أن نضيء الشقّ المتسلّل منه الظلال الصغيرة يعني أن نفتح مساحاتٍ أوسع من التعاطف المنظم، لا التعاطف العابر. أن نضع لصيغة الحوارات البسيطة التي نمتلكها مع الأطفال قيمةً — فلا تظل مجرد لحظةٍ عابرة في زحمة اليوم.
لنعد إلى هذا المشهد المرئي: الطائر الذي يطير ويحطُّ على كتفك وأنت تتحدّث مع طفلٍ في الرصيف. تلك اللحظة هي كلّها فرصة لالتقاط اسمه، لتقديم مساعدة فورية، لكن أيضاً لتسجيله في مدرسة متنقلة، لربطه بمنظمة محلية، لوضعه تحت شبكة حمايةٍ تعيد له حضوره بوصفه مواطناً قادراً على التعلم والنمو. إنّ غياب البيت والمدرسة ليس مجرد نقصٍ في مادة؛ هو نقصٌ في الزمن الذي يمنح الطفل القدرة على الحلم.
نقطة التحوّل تكمن في القرار: هل نريد مدينة تحوّل ظلالها إلى وقودٍ للثقب، أم مدينةً تحوّل الثقب إلى فراغٍ يُملأ بالدفء؟ يمكن للسياسات أن تكون قاطعة: تسجيل فوري للأطفال المشردين، مدارس متنقلة تعمل بمرونة، مراكز ليلية آمنة، برامج إدماج أسرية وإعادة تأهيل. والمجتمع المدني يمكن أن يكون شرياناً: حملات إحصاء ميداني، شبكات مساعدة محلية، مبادرات توظيف مدني تحفظ كرامة الأطفال بدل أن تستغلهم.
لا نملك ترف الانتظار. كل يوم يبتلع فيه الثقب أسود وجهاً بريئاً يسرق من المدينة مستقبلها. الاستجابة لا تحتاج فقط إلى مشاعرٍ فورية، بل إلى بناءٍ مؤسسي مستدام: قوانين تحمي، مدارس تُفتح بلا شروط تعجيزية، ومراكز تجعل من العائد إلى البيت احتمالاً حقيقيًا.
في نهاية المشهد، لا بد من سؤالٍ مباشر: هل نريد أن نكتب تاريخ مدينتنا كحكاية عن ظلالٍ خجولة استطاع الثقب الأسود أن يبتلعها، أم كسردٍ آخر عن أناسٍ قرروا أن يضيئوا الشق وأن يستعيدوا الطائرات الورقية الصغيرة التي كانت ترفرف فوق أرصفة.......
***
د. نسرين ابراهيم الشمري







