أقلام ثقافية

ناجي ظاهر: كلمات موجزة في الشعر والشعرية

اختلف النقّاد والشعراء في تعريفهم للشعر، وتعدّدت مفاهيم هؤلاء، تقاربت حينًا وتباعدت آخر، غير أنهم لم يختلفوا في تعريف الادب في جوهره، وقد اتفق مَن قاموا بدراسة الادب وتعمّقوا فيها، على أربعة عوامل لا بدّ من توفرها في أي عمل أدبي حقيقي وجدير، هذه العوامل هي: الفكر، المشاعر، الخيال والأسلوب، أما فيما يتعلّق بأدبنا العربي القديم، فقد ذهب بعض من الباحثين، لا أقول النقاد، إلى ان الشعر هو الكلام الموزون المقفّى، وقد اختلف النقاد مع هؤلاء، ورأوا ان اشعر ابعد واعمق من الكلام الموزون المقفى، كما سنلاحظ فيما يلي، هكذا رأى بعض العالمين ببواطن الشعر ان له علاقة بالسحر، وانه عالم من الخلق، الدهشة والاغراب، ومن مثل هكذا رؤية، بات الشعر، إضافة الى أهمية الوزن والقافية في تكوينه، اشبه ما يكون بالكلام الطائر المجنح، الذي يتمكّن فيه صاحبه من أخذ قارئه الى عالم مجنح من يرفرف في مرافئ بعيدة، وجزر لا تغيب عنها الشمس. من هذا الراي انطلق في ابداء عدد من الملاحظات، دفاعًا عن هذا الكائن الفاتن الرائع/ الشعر، وذودًا عن حياضه المُنتهكة من اعداد هائلة من المتطفلين والمنتهكين المحترفين.

الشعر العمودي: ابادر أولا الى ما سبق وردده الكثير من النقاد قديما وحديثا، وهو ان الشعر ليس كل كلام موزون ومقفى، وضرب بعض هؤلاء مثالا صارخا في هذا المجال، بألفية ابن مالك التي يُعرّف بها قواعد اللغة العربية، بوساطة الشعر الموزون المقفى. فما هذه الالفية بإجماع الجميع، الا نظم متقن وخال من الحياة والروح. وقد ميّز الناقد المفكر العربي العريق عبد القاهر الجرجاني، صاحب دلائل الاعجاز واسرار اللغة، بين النظم والخلق، ورأى في الشعر زيادات واضافات من العاطفة والخيال، ضمن إشارة مفادها ان القصيدة العمودية ما هي الا عالم ضاج بالحركة والاثارة. اما ناقدنا العربي الكبير حازم القرطاجني صاحب منهاج البلغاء فقد رأى ان الشعر، ويقصد العمودي بالطبع، هو عالم من الاغراب والادهاش، وان الشاعر المبدع هو ذاك الذي يأخذ بيد قارئ قصيدته زاجا إياه في حالة شعرية فاتنة سبق له وان عاش فيها وعبر عنها، بكل ما في كينونته ووجوده من إغراب وإدهاش كما سبقت الإشارة. وقد تقاطع مع ناقدنا في مفهومه هذا للشعر ناقد معروف في كل المحافل الأدبية في العالم، هو جون كوهن صاحب اللغة العليا وبناء لغة الشعر، فقد رأى هذا الناقد في الشعر، نفس ما رآه حازم القرطاجني فيه. ماذا نُريد أن نقول من هذا؟.. نريد أن نقول إن معرفة العروض واتقان الاوزان لا تخلق شاعرًا مبدعا، وان الشاعر لا يولد بين ليلة وضحاها، وانما يحتاج الى ثقافة ومعرفة بالشعر، اسراره وخفاياه، لدى كباره وعظمائه خاصة. أقول هذا كله وانا أفكر في أولئك الذين يعتقدون انهم بتعلمّهم العَروض والاوزان، يمكنهم تعاطي الشعر والتعامل معه، وها انذا أتذكّر نادرة طريفة في هذا السياق، عندما نوى الحسن ابن هاني/ أبو نواس، ان يكون شاعرا اقترح عليه أحدهم، ان يستشير خلف ابن الأحمر، أحد اهم رواة العرب الشعريين في زمانه. ذهب أبو نواس الى خلف ووجه اليه سؤاله ذاك، فطلب منه ابن الأحمر ان يذهب الى البادية وان يحفظ هناك الفي بيت من الشعر. نفّذ أبو نواس ما طلبه منه ابن الأحمر وعاد اليه ليستظهر ما حفظه عليه. استمع ابن الأحمر الى ابي نواس وهو يهز راسه اعجابا وتقديرا، وقال له الان بإمكانك ان تكتب الشعر. هذه النادرة تؤكد ما قاله جرول ابن اوس/ الحطيئة، وهو ان الشعر صعب وطويل سُلّمه، فلا تستخفوا بالشعر يا اهلي واحبابي.

قصيدة النثر: اعتقد أن ما قيل عن بحر الرجز في شعرنا العربي القديم، وتردّد على اكثر من لسان وفي اكثر من مجلس، وهو ان الرجز هو حمار الشعراء، انطبق على قصيدة النثر او ما اطلقت عليها هذه التسمية. فكل مَن أراد ان يكون شاعرا، دون دراسة مُتعِبة ودراية تحتاج الى سهر الليالي الطوال، توجّه الى كتابة هذه القصيدة، وكل من اعجزته معرفة الموسيقى الشعرية، مكنوناتها ومكنوزاتها، تلك التي تعتبر من اساسيات العملية الشعرية، كما اقر بها العشرات من المنظّرين، النقّاد والباحثين، توجّهوا الى هذا النوع من الكتابة، التي لا تكلّف الواحد منهم سوى نثر الكلمات دون ترتيب منطقي مسبق، ليطلق على ما كتبه مصطلح قصيدة النثر. اما مَن فشل في قصة حب واراد ان يبعث رسالة مُغلّفة بكلمة شعر الساحرة، خاصة في الاذن العربية، حتى قام بكتابة تلك القصيدة الما تتسمى. اما النساء لا سيّما مَن ارادت ان تسجل تفوقا مشهودا على بنات جنسها، فقد دخلت السباق الشعري الموهوم، وراحت تدبّج الكلمات تلو الكلمات مطلقة عليها تلك الصفة، لا اريد ان اواصل ذكرها. اشير بالمناسبة الى ما سبق ونوّهت اليه في العديد من الكتابات واللقاءات، وهو انني عرفت الاخوة الذين كتبوا قصيدة النثر في بلادنا، وعرفت أيضا انهم حاولوا وبذلوا الكثير من الجهد والوقت لتعلّم البحور الشعرية غير انهم أخفقوا، الامر الذي دفعهم الى كتابة هذا النوع من الشعر، أولًا كي يقنعوا أنفسهم والمحيطين بهم انهم يستحقون تلك الصفة الباهرة الساحرة صفة الشاعر، وثانيا لأنهم اقنعوا أنفسهم بأوهام طالما اقتنع بمثلها أناس في الخارج وفي بلادنا أيضا، وفي مقدمتها انه توجد هناك قصيدة تسمى قصيدة النثر، ناسين او متناسين عمدا، ان غياب الموسيقى من الشعر هو اشبه ما يكون بغياب الروح من الجسد، واذكّر هنا بما قاله الناقد محمد النويهي، نقلا عن نقاد معروفين ومشهود لهم في العالم الشعري، وهو ان الموسيقى هي جانب هام من جوانب العملية الإبداعية. فالطفل عندما يفرح لأن اباه عاد بما أراده واحبه من فواكه يهتف راقصًا اجى ابوي.. اجى ابوي. اما الشاعر الفرنسي الكبير بول فالري فقد وصف الشعر بالرقص والنثر بالمشي. وشتان ما بين الاثنين. لا اعرف لماذا يصرّ الكثيرون على تسمية ما يكتبونه بقصيد النثر، مع اننا نعلم انه يوجد هناك تعبير حداثي جديد يقول بشعرية الكلام. وهنا اضم صوتي الى أصوات نقّاد آخرين، من بينهم الناقد الصديق نبيه القاسم، في احتجاجهم على إصرار البعض اطلاق اسم القصيدة على كلام قد يكون نثرا شعريا جميلا.. هل هو جنون التسمية؟ هل ابتعدنا عن الابداع الإنساني الى هكذا حدّ؟.. هل وصلنا الى جنون الشكل.. واهملنا عقلانية الجوهر؟. ما هذا الجنون.. ولماذا تصرفون عقلاءنا عن قراءة الشعر بنشركم ترهاتكم يا اصلحكم الله.

شعر فيسبوكي: بالعودة الى كتابة سابقة في هذا الموضوع، اكرّر، ما سبقة وطرحته حول هذا النوع الذي اخذ يطلّ علينا مشرئبا بعنقه هازا براسه، منذ ظهور وسائل الاتصال الاجتماعي، والفيس بوك تحديدا، فقد شرعنا نرى تحوّلا في مفهوم الشعر، يركّز على ما يطلبه القارئ او المستمع، مِن نقد، وأفكار لا تخلوا من جفاف، فيصوغ الكلمات بطرائق متعدّدة، كل ما تطلبه هو اثارة المستمع او المشاهد الى حدّ التفاعل والتصفيق، وعليه اخذنا نرى هذا الشاعر يتلّوى ويتقصّع، ويوجه انتقاداته اللاذعة الى هذه الظاهرة او تلك من الظواهر، التي يعرف تمام المعرفة انه يوجد هناك الكم الكبير من جمهوره يريد ان يسمعها، وان تفاعله معها بات في معتقده من الأمور المفروغ منها، أو راينا تلك المرأة الملآى رغبة في الظهور كونها حديثة عهد به، توجّه كلماتها الناقدة الى كل الزعماء العرب واضعة إياهم في كفة واحدة وكأنما لا يوجد بين احدهم والآخر أي فرق، كما هو الامر في الواقع. صحيح ان النقد والفكر هما من صفات الانسان المثقف المُطّلع، سواء كان كاتبا او شاعرا، وهذا ما شهد به التاريخ الادبي عامة والشعري خاصة، حتى ان شاعر العرب الأكبر أبو الطيب المتنبي، وجّه إليهم نقدا لاذعا وصفهم، او بالأحرى وصف قطاعا واسعا منهم قائلًا: يا امة ضحكت من جهلها الأمم. هذا وغيره صحيح ومعلوم، بل اننا نذهب الى ابعد منه فنرى ان الادب الحقيقي بعامّته، انما هو في أحد تعريفاته العميقة، ضد كل سلطة سواء كانت السلطة الحاكمة او السلطة النصّية السابقة والمُهيمنة. هذا كله صحيح، ولا يوجد لدينا خلاف كبير معه، الخلاف يبدأ عندما يتحوّل مَن يُمكننا أن نطلق عليهم شعراء الفيسبوك، الى مُهرجين او اشباه مهرجين كل همهم هو ان يثيروا جمهور مشاهديهم او مستمعيهم، وان يستجدوا تصفيقهم. فالشاعر الحقيقي لا يمكن ان يكون مهرجا كل همّه اثارة جمهوره، كما يحصل في الحالة التهريجية، وهو إضافة الى هذا لا يمكن ان يكون مستجديا يتسوّل المشاعر والتصفيق، بترداده ما يودّ الآخر ان يستمع اليه. الانسان الحقيقي، بما يشمل الشاعر الحقيقي، يُبدع في العُمق لذاته أولا وثانيا وثالثا، بمعنى انه انما يكتب لإنسان صغير في داخله، انسان يشبهه كل الناس المماثلين له على الأقل، وعندما يصل الى هذا الانسان، يصل الى الآخر، اما ان يقلب الآية ويبدا من الاخر، فهذه هي الطامة الكبرى التي قد يُفضي اليها هذا النوع من الكتابة الشعرية.. شعر الفيسبوك.

***

ناجي ظاهر

 

في المثقف اليوم