أقلام ثقافية

محمد سعد: الريف.. أين ذهبت رائحة الطيبة الفطرية؟

كان الريف المصري يومًا ما لوحة فنية مرسومة بيد الزمن، ألوانها البساطة، وخطوطها التكافل، وظلالها الطيبة الفطرية التي تسكن النفوس قبل البيوت. لم يكن هناك صراع مرير من أجل المال، ولم يكن التفاوت الطبقي صارخًا كما هو اليوم. كانت الحياة تسير بإيقاعها الهادئ، حيث الجميع متقاربون، ليس فقط في مستوى المعيشة، ولكن في الروح والقيم والمبادئ.

في رمضان، كنا ننتظر أذان المغرب بقلوب صافية، الأطفال يرقبون رفع الأذان بلهفة، والناس تجتمع على المصاطب  والأسطح، دون الحاجة إلى مكبرات الصوت، فقد كان الصوت يصل إلى القلوب قبل الآذان. قبلها، كانت الطرقات تمتلئ بالمواشي العائدة من الحقول، تسير في انتظام يشبه رقصة الطبيعة. الأوز يعود من الترعة في طوابير منظمة، والراعي يقود قطيعه إلى الحظيرة، ليكمل القطيع الآخر طريقه بمفرده، وكأنما لكل مجموعة نظامها الفطري الذي لا يحتاج إلى أوامر أو تدخل.

كانت الأسر تجتمع حول المدفأة أو "الكانون"، حيث الدفء الحقيقي لم يكن في النار، بل في القلوب المتآلفة. لم يكن هناك انشغال مفرط بالماديات، ولم يكن الصراع على النفوذ والسلطة يُفسد النقاء الريفي. كان الفقير يجد في بيت الغني طعامًا دون إحساس بالإهانة، وكانت الأبواب تُفتح للجميع دون حسابات المصالح.

الطيبة التي أصبحت من المظاهر مفضوحة والتسول الذي تحول إلى استعراض

لكن اليوم، تغير كل شيء. البركة التي كانت تسكن كل شيء تبددت، والطيبة الفطرية التي كانت أساس التعاملات أصبحت نادرة. أصبح الريف يعاني من نفس صراعات المدن: تفاوت طبقي، صراع على النفوذ، ولهاث وراء المال دون اعتبار للقيم. حتى المساعدات التي كانت تُخرج في السر، حفاظًا على مشاعر الفقراء، تحولت اليوم إلى استعراض على مواقع التواصل الاجتماعي. أصبح البعض ينشر صور المحتاجين وكأنه يفضح قلوبًا مدفونة تحت وطأة الفقر، يُعريها أمام الجميع تحت ستار "الخير"، وكأن الكرامة أصبحت شيئًا يمكن المساومة عليه مقابل صورة أو مقطع فيديو يحصد الإعجابات.

وعلى النقيض، ظهرت وجوه كلحة، تطلب بعين جاحظة، رغم أنها ليست في حاجة حقيقية، وكأن رمضان صار موسمًا للتسول. تغيرت النفوس، واختلط المحتاج بمدعي الحاجة، وانقلبت الموازين. كنا ونحن صغار نرى الناس تتحسس في إخراج الزكاة والصدقات، خشية أن تجرح مشاعر الفقير، أما الآن، فقد صار الأمر كرنفالًا من الفرجة، تُنظم فيه قوافل المساعدات كأنها مهرجانات، وتُوزع الصدقات على الأرصفة وسط أضواء الكاميرات، وكأن الفقر أصبح مادة إعلامية للتسويق الاجتماعي.

هل فقدنا هويتنا إلى الأبد؟

ارتدى الريف ثوب الحداثة، لكنه ثوب عارٍ من الأخلاق. تحول التكافل إلى تنافس، وتحولت البساطة إلى تعقيد، وصرنا نبحث عن ذلك الدفء القديم فلا نجده إلا في ذكرياتنا. لكن السؤال الذي يطرح نفسه: هل فقدنا هويتنا إلى الأبد؟ أم ما زال هناك أمل في أن تستعيد القرى المصرية روحها الطيبة، بعيدًا عن صراعات المادة واللهاث وراء المظاهر؟

قد يكون الحل في العودة إلى الجذور، ليس بنبذ التطور، ولكن بمزجه بالأصالة، وإعادة إحياء قيم التكافل والطيبة التي جعلت الريف يومًا ما أكثر دفئًا من أي مكان آخر.،،، من يوميات كاتب في الأرياف ،،!!

***

محمد سعد عبد اللطيف - كاتب وباحث مصري 

في المثقف اليوم