أقلام ثقافية

أحمد صابر: ذاكرة واحة (16): منسج الحصير

داخل الساحة الصغيرة بالقرب من البئر الذي حُشر في الزاوية، وأنت قادم من خارج الزقاق المتفرع عن أحد الدروب الرئيسية في القصبة، الذي تأخذك من الباب الرئيسي للقصبة، تمرُّ من تحت السقائف واحدة تلوى الأخرى، فجأة يظهر لك نور ساطع منبعث من آخر الزُّقاق، وإذا بك تنجذب نحوه خطوة بعد خطوة، عند وصولك تلتفت يمينا ويظهر لك جدار منحدر يدور حول حافة البئر مبني بالحجارة، الحبل منسدل من الأعلى وهو مربوط إلى خشبة مغروزة في الجدار بإحكام... وإلى جانب البئر حوض مائي صغير طوله لا يتجاوز خطوتين وعرضه لا يتجاوز قدمين، يسكب بداخله الماء الذي يجلب من البئر، وتوضع فيه قُلل الفخار قبل أن تملأ بالماء... الساحة نفسها وأنت طل عليها من السطح تبدوا لك شبيهة ببئر واسع يحتضن في أحد زواياه بئرا صعيرا...

بعض من النسوة في الجانب الآخر من الساحة، منهمكات في غرز مجموعة أوتاد خشبية في الأرض على شكل مستطيل، عرضه متر ونصف وطوله ثلاثة أمتار، وبعد ذلك تكلَّفت إحداهن بتمرير حبل نحيل جدا مفتول من سعف النخيل، مختلف الاوتاد المثبَّتة على الأرض من جهة العرض والطول، وهي عملية تحول الشكل إلى مربعات صغيرة، وقد أحضرت احداهن حزمة من سعف النخيل المجفَّف...بعد وقت قليل اتضح بأن العمل الذي انخرطت فيه كل النِّسوة بكل طواعية، يتعلق ببسط وتثبيت مَنْسَج الحصير، وذلك بالعمل على لفِّ سعف النخيل المجفف على خيوط الحبل النحيل المتقاطعة فيما بينها...

في الوقت الذي ينسج فيه النِّسوة الحصير بهدف الجلوس عليه صيفا وشتاء... يدخلن في التمهيد لنسج علاقات أسرية قادمة، وذلك بالمداولة فيما بينهن في موضوع زواج بناتهن وأولادهن، فكل واحدة تبدي برأيها في من هي الفتاة التي تليق بفلان أو في من هو الشاب الذي يستحق فلانة...الجزء الكبير من حكي النِّسوة وهن ينسجن الحصير يستولي عليه حديثهن عن أسرهن في علاقتهن بحماتهن و بأزواجهن وأولادهن... فحكاية كل واحدة منهن حكاية ممزوجة بألوان الفرح والحزن والمشقة والراحة والأمل والتفاؤل والطموح...حكايتهن تبدوا عفوية وبسيطة و هي في الأصل حكاية واحدة تتكرَّر بأشكال مختلفة، محكوم عليها بأن تبقى حبيسة قُمقمِ الواحة وأهلها في نظرتهم للمرأة وفي نظرة المرأة لنفسها، وبطبيعة الأدوار المنوطة بها في الحياة...النِّسوة ثرثارات فمن عادتهن الحكي الكثير والمتكرِّر... مجالسهن كلها كلام في كلام، فالرجال يتعمدون مغادرة بيوتهم في كثير من الأحيان وبالأخص ما بعد صلاة العصر، ليخلو المكان للنِّسوة للحديث فيمات بينهن...

تتولى النِّسوة مهمة اختيار الفتيات التي تراهن تتوافق مع تطلعات أولادهن، فالمرأة التي لديها أولاد مقبلون على الزواج يحوم حولها النسوة ذوي البنات المقبلات عن الزواج، وقد تتولى الكثير من النِّسوة الوساطة ما بين هذا الطرف أو ذاك، وهنا تأتي أهمية الحكي، بوصف مختلف المميزات الخِلقية والخُلقية للمعنيين بالأمر من أولاد وفتيات... الحسم في خيار زواج فلانة بفلان، قرار يخرج من غرف الحكي المغلقة بين النِّسوة، وهي غرفة محكمة لا يدخلها الرجال، أحيانا يكون قرار زواج معين مرهون بقرار زواج آخر سيأتي بعد فترة قصيرة من الزمن،  وهو عبارة عن صفقة سرية بين النِّسوة لا يعلم بها أحدا  دونهن، فالهم الكبير لكل نساء القرية هو تزويج بناتهن، فكثير من النسوة تقبل على خطبة ابنة فلانة لابنها مقابل صفقة تبادل تضمن من خلالها عريس لابنتها من أهل أم البنت التي اتخذتها عروسا لابنها، وهي صفقات تكون في الغالب تحت سلطة الطلاق، فعندما لا يوفي الطرف الآخر بوعده أو يتأخر عنه، فسيتم إخراج ورقة الطلاق فجأة بدون سبب يذكر، وقد تجد العروس التي سارت أما لحفيد أو حفيدين... في طريقها مختلف الصعاب والمشاكل... وقد يتمرَّد زوجها عن قرار أمه... وفي الغالب يقبل الطرف الآخر على إتمام الصفقة... وأحيانا يقع المكروه  بتطليق فلان لزوجته ليرد أهلها بتطليق أحد زوجات أبنائهم لأنها قريبة في النسب من أهل أسرة الزوج الذي طلق بنتهم، ويتراجع أحد أقربائهم عن خطبة فتاة قريبة من نسب أسرة الزوج الذي طلق زوجته...وهكذا يدخل أهل القصبة في موجات متتالية من الطلاق... في هذه الحالة يتحول حديث النِّسوة إلى حالة من الجنون... وتختلُّ مختلف الصفات غير المعلنة...

المصاهرة والزواج بين أهل الواحة، بشكل عام تكون تحت سقف أعراقهم وانتماءاتهم القبلية، فمن الاستثناء مصاهرة عرق مع عرق آخر، ومن الاستثناء مصاهرة قبيلة مع قبيلة أخرى تبعد عنها من جهة النسب، القبائل التي سبقت أن دارت بينها حروب لا مصاهرة ولا زواج فيما بينها، وإن حدث ذلك فهو برهان على الصلح وصفاء القلوب.

عندما يولد الصبي ينظر إليه على أنه يافع، وعندما يصبح شابا ينظر إليه بأنه رجل... النّاس يستبقوا الزمن ويستعجلون قطف ثمرته، فقوة القبيلة وحمايتها تعود لرجالها، فرحة الأعراس في القصور والقصبات فرحة عامة لا تنحصر في أسرة العروس والعريس، فهي فرحة القبيلة بأكملها، فليالي الأعراس شبيهة بمهرجان تحضر فيه مختلف الرقصات والألعاب والأهازيج بالضرب على الدفوف والطبول، ونظم الأشعار...

اختفت مناسج الحصير، وخفّ الحكي والقيل والقال ما بن مختلف النسوة، فالزمن صار زمنا آخر، وقد تحولت مختلف دروب وأزقة القصبات والقصور إلى خراب ...الحفلات والأعراس أخذت لونا آخر وطعما جميلا، لكنه يفتقد لجمالية بساط الحصير، ويفتقد جمالية إيقاع الطبول والدفوف... الحفلات والأعراس اليوم، تقام في بيوت متفرقة هنا وهناك، بالقرب من قصبات وقصور خربة، ووسط مقبرة كبيرة للنخيل، تظهر فيها الجذوع بلا جريد... ... يتبع ...

***

بقلم: د. أحمد صابر

كاتب وباحث مغربي مختص في قضايا الفكر والدراسات القرآنية.

في المثقف اليوم