أقلام ثقافية
صادق السامرائي: خاتمة المتنبي!!
"سبحان خالق نفسي كيف لذتها
فيما النفوس تراه غاية الألم"
كُتب الكثير عن الشاعر المتنبي الذي طغى على ساحة الأدب العربي منذ تألقه وإلى يومنا هذا، ففيما نكتبه نذكر أبياتا من قصائده، التي نتفاعل معها كمنبع للبلاغة والإبداع الشعري الألمعي الأصيل.
والعديد من أبياته تعادل عشرات وربما مئات القصائد التي قيلت بعده. فهو شاعر إخترق القرون وإنتصر على الزمن، فصرعه بكلماته الخالدة.
كان الرجل مغامرا يطارد حلما عصيا، فقرر تجسيده بالشعر، ليطلق مآرب نفسه فيه، ويكون مملكته وعرشه وكرسي وجوده الإنساني المنير، الذي لا يعادله كرسي أو مملكة أرضية، لأنه يصنع الخلود ويشيّد جنان الأبدية وأكوان السرمدية.
وهكذا أمضى عمره في تفاعلات متوهجة مع واقعه ورموز القوة والإقتدار فيه، فلم يعرف الهدوء والسكينة، كأن أيامه تستعر أينما حلّ أو نزل.
"أمط عنك تشبيهي بما وكأنه
فما أحد فوقي ولا أحد مثلي"
وعاش المتنبي حيا بيننا، لأنه قال ما فينا بوضوح وشجاعة وتقنية فنية متميزة.
وفي قصائده تتجلى صراعاته مع ذاته وواقعه، ومحاولاته للوصول إلى أهدافه النرجسية، ذات الرؤى الذاتية الكبرى.
وربما أمعن في حب ذاته ورؤيتها كما هي في خياله وأعماقه البعيدة، لدرجة أنه فاق في تقييم نفسه واقع حاله وحقيقة أيامه ومقاساته.
فكان منفصلا عن وجوده في واقع الحياة العراقية والعربية، ومنطلقا في فضاء خياله الرحيب. وفي قصائده يشير إلى نكران ما هو عليه ويقترب مما يراه عن نفسه ودوره وقيمته وحكمته وعقله.
" سيعلم الجمع ممن ضم مجلسنا
بأني خير مَن تسعى به قدم
*
أنا الذي نظر الأعمى إلى أدبي
وأسمعت كلماتي مَن به صمم"
وقبل أن يغامر في رحلته التي كان واضحا بأنه سينتهي فيها، توفرت لديه المعلومات والأخبار التي تشير عليه أن يعدل عن طريق وجهته لأنه سيلاقي حتفه حتما، لوجود الاستعدادات للقضاء عليه .
لكنه أنكر ما وصفوه له بدقة وحذروه من عواقبه بشدة، وإتبع نداءات ذاته وصوت خياله، وإنقطاعه عن واقعه ونكرانه لمجريات الأمور والأحداث فيه.
ففي رواية ما جرى قبل شروعه برحلة الختام جاء ما يلي:
" وكان أبو الطيب قد مر بأبي نصر محمد الحلبي فأطلعه على حقيقة الأمر، وما ينويه فاتك من الشر له ونصحه بأن يصحب معه مَن يستأنس به في الطريق، فلم يزدد إلا أنفة وعنادا وأبى أن يصحب معه أحدا قائلا: أنا والجراز في عنقي، فما بي حاجة لمؤنس.
ثم قال: والله لا أرضى أن يتحدث الناس بأنني سرت في خفارة غير سيفي.
فحذره أبو النصر كثيرا فما كان منه إلا أن أجاب: أبنجو الطير تخوّفني ومن عبيد العصا تخاف عليّ؟!!
والله لو أن محضرتي هذه ملقاة على شاطئ الفرات وبنو أسد معطشون لخمس، وقد نظروا الماء كبطون الحيات، ما جسر لهم خف ولا ظلف أن يرده، معاذ الله أن أشغل فكري بهم لحظة عين!! فقال له أبو نصر: قل إنشاء الله.
فقال: هي كلمة مقولة لا تدفع مقضيا ولا تستجلب آتيا.
ثم ركب وسار فلقيه فاتك في الطريق فقتله." (ديوان المتنبي، دار الجيل بيروت)
لقد عاش المتنبي خمسين سنة (915-965 م)، يمدح ويهجو، وفي الحالتين كان شعره مؤثرا ومدويا، وبقدر ما تجزل مدائحه العطايا عليه، فهجائياته تثير الضغينة والعداء.
"وفي قصة مقتله يُحكى أنه قال قصيدة هجا بها ضبة بن يزيد العيني، وكانت والدة ضبة شقيقة فاتك إبن أبي جهل الأسدي، فلما بلغته القصيدة أخذ الغضب منه كل مأخذ وأضمر السوء لأبي الطيب.
ولما بلغه مغادرة المتنبي لبلاد فارس وعلم بإجتيازه بجبل دير العاقول تتبع أثره، فاقتتلوا حتى قتل المتنبي مع ولده محسّد وغلامه مفلح على مقربة من دير العاقول في الجانب الغربي من سواد بغداد في السابع والعشرين من أيلول عام تسعمائة وخمسة وستين ميلادية." (نفس المصدر)
والقصيدة التي قتلته عنوانها " أنصف القوم ضبه" ومطلعها:
ما أنصف القوم ضبه
وأمه لطرطبه .
وكلمة طرطبة تعني المرأة العظيمة الثديين أو المسترخية الثديين. وقد تبدو عيبا وعورة في زمانها، وتثير شكوكا عن معرفة ذلك، لأنه من خصوصيات المرأة التي لا يعرفها إلا أفراد عائلتها المقربين، ولهذا إشتد غيظ أخيها وقرر أن يقتله.
وعند قراءة القصة وتحليلها وما جرى قبل قتله بوقت قصير، يتبين أن السلوك كان أقرب إلى الانتحار، لأنه ألقى بنفسه في قبضة المتربصين له من غير إستعداد كافي، وإنما إمعانا بالفتك بالذات، وكأنه يريد أن يعاقب نفسه وينتقم منها، ويتخلص من ثقل الحياة وأوزارها.
وهو ينأى بكل ما فيه عن واقعه ويتفاعل مع فضاء خياله وهيامه النرجسي العظيم، فأصابه ما أصابه، ولما إستيقظ أدركته نهايته المريرة، فكأنه كتب شعرا عجز عن كتابته بالكلمات فكتبه بدمه وروحه، وبرأسه الذي تدحرج فوق التراب.
و"إذا ترحلت عن قوم وقد قدروا
ألا تفارقهم فالراحلون هم"
***
د. صادق السامرائي
6\12\2009