أقلام ثقافية
سُوف عبيد: في مقهى المِرعي
هو مقهى صغير بل صغير جدا يعترضك وأنت صاعد أو نازل في نهج جامع الزيتونة بمدينة تونس العتيقة وفيه تتذوّق نكهة الشاي الأخضر بالنعناع أو فنجان قهوة بسكر زائد أو بقليل السكر.. في هذا المقهى كنت أجلس وأنا تلاميذ في الصادقية ثم وأنا تلاميذ في معهد ابن شرف ثم وأنا طالب في كلية الأداب بالقصبة.. لي في هذا المقهى ذكريات لاتنسى حيث كنت أجلس فيه أيضا لنيل قسط من الراحة عندما كنت أحلس على مدى عشرات السنين للمطالعة والبحث في رحاب دار الكتب الوطنية التي كانت بسوق العطارين واليوم مررت بها عندما فاجأني المطر فقلت لا بأس من تناول كأس شاي أخضر مُنعنع فجلست حذو شيخ جليل من زمان كنت أصادفه يسير الهوينى في زيه التونسي الأصيل من الشاشية الحمراء إلى لحفته البيضاء التي يتعمّم بها إلى جبته وبرنسه وبلغته وعكازه مع قفّته البيضاء فقلت هذه مصادفة ثمينة لأعرف هذا الشيخ وما كدت أستوي إلى جانبه حتى بادرني بالترحاب.
وسُرعان ما جرى الحديث بيننا بسلاسة بعد أن أبديت له تقديري ومعرفتي له منذ سنوات عديدة وإعحابي بالتزامه بلباس زيّه التونسي الأصيل وإعجابي بمُحافظته على السّير حيث كنت ألقاه واثق الخُطى في كل الفصول مهما كان الطقس فبدا على أسارير وجهه السّرور والاِبتهاج وهذا ما شجّعني على الاِستزادة من حديثه فعرفت أنه جاوز التسعين وأنه من أهالي مدينة ـ كسرى ـ وسألني حينذاك ـ كالمُمتحن ـ عن موقعها وهل أعرفها ؟ فنزل سؤاله عليّ بردا وسلاما فقلت له ـ عجبا يا حاج من لا يعرف كسرى لا يعرف تونس! ـ وكأني أردت تأكيد معرفتي إيّاها قلت له ـ يا حسرتاه على كسرى القديمة العالية حيث المدرسة الاِبتدائية التي تقع على يسار الطريق وأمامها يوجد منزل ـ عم عمّار العمايري رحمه الله ـ والد صديقي محمد على العمايري وهو من أعزّ أصدقائي وقد تذوّقت مرات عديدة تين سانيته اللذيذ …عندئذ هَشّ سي الحاج وبَشّ وقال أنا درست في تلك المدرسة التي تأسّست سنة 1926 وعائلة العمائري تنتمي إلى نفس العرش الذي أنتمي إليه ثمّ مضى سيدي الحاج يسرد مسيرته الدراسية التي بدأها بحفظ جزء كبير من القرآن الكريم ثم درس الاِبتدائي في تلك المدرسة غير أن اِمتحان الشهادة الاِبتدائية أجراه في مدينة الكاف ثمّ اِلتحق بالعاصمة لمواصلة تعليمه الثانوي وبعد تخرّجه من مدرسة ترشيح المعلّمين قضّى سنوات في التدريس ثم اِلتحق للعمل بإدارة سكّة الحديد فشيخنا إذن متقاعد منذ أكثر من ثلاثين سنة وعرف في مختلف أطوار حياته أغلب جهات البلاد بمُدنها وقُراها فيحدّثك عنها مدينة مدينة وقرية وقرية حتى عن مختلف خصائص أهلها في العادات والتقاليد ناهيك عمّا تمتاز به تاريخيا وجغرافيا بما في ذلك النواحي الاقتصادية والعمرانية بالإضافة إلى أهم طبائع أهلها.
إن الجلوس إلى هذا الشيخ ـ مَتّعه الله بالصحة والعافية وطول العمر ـ مُتعة وإفادة فهو كتاب تونسي مفتوح عندما تُنصت إليه ساعة من الزمن خير من الجلوس إلى بعض أدعياء الأدب والثقافة وهم يخوضون في أمور الجوائز والتكريمات والدّعوات…
***
سُوف عبيد