ترجمات أدبية

يوكو أوغاوا: مسابقة الجمال

بقلم: يوكو أوغاوا

ترجمة: د. صالح الرزوق

***

لدى والدتي كنزان. أحدهما خاتم من الأوبال، وهو الهدية الوحيدة التي تلقتها من والدي المرحوم. احتفظت به في علبة صغيرة، ولم تعرضه للعيان إلا مرة أو اثنتين لعدة ساعات في العام، خلال مناسبات خاصة. والعلبة مغطاة بمخمل لونه أزرق داكن، وإذا فتحته يصدر عنه صوت خفيف، كأنه قطة تتثاءب. حينما أكون وحدي في البيت، غالبا ما أفتح العلبة لأنظر إلى الأوبال. وهذا ليس ممنوعا. ولكن في طفولتي كنت أشعر أنه من الأفضل أن أفعل ذلك بالسر. كان الخاتم أثريا، وهي حقيقة تبدو للعيان من حالة العلبة. بدأ الخشب يبرز للعين حيثما اهترأ الغطاء المخملي، ويشير العنوان المكتوب على الغطاء من الداخل إلى شارع، ولكن تبدل اسمه حينما تم إعادة تنظيم البلدة. وكان الخاتم ملفوفا بلفافة من القطن ولكنها أصبحت قاسية ودون لون، وخشيت أن تضر اللفافة البالية الجوهرة. غير أنه لم يخطر لأمي فكرة استبدالها. حينما نظرت إلى الأوبال تذكرت فورا المرطبات - وبالأخص النوع المسمى ليلة مشرقة بالنجوم، وكانت تباع في متجر السكاكر أمام المحطة. مرطبات بنكهة الفانيلا ويتخللها البرتقال. وردية مصفرة مع رقاقات من المرطبات ولونها أزرق خفيف. أما التغليف فقد كان جذابا، وهو من الألومنيوم ويبلغ حجمه حجم رأس طفل صغير، ومغطى أيضا بنجوم فضية من الورق. وكانت علب الألومنيوم مصفوفة في مجمدة قرب واجهة المتجر. ولا حاجة للقول أنني لم أتذوق الليل المشرق بالنجوم، أو نظرت إلى محتوياتها.  فقط لمحت العينة البلاستيكية المعروضة فوق المجمدة. في الحقيقة لم أحصل على الكثير من الكوكيز من ذلك اامتجر، فهي مرتفعة الثمن جدا بالنسبة لنا. كنت أضع الخاتم على غلاف قلمي، أو أضعه أمام الضوء أو أجربه بأصبعي لدقيقة من الوقت. غير أنه واسع جدا بالنسبة لكل أصابعي. وحين يتدلى من يدي، أرى أنه أقل جاذبية من ليلة مشرقة بالنجوم. ودائما أعيده قبل عودة أمي. أعيد القطن لمكانه، وأغلق غطاء العلبة، وأحرص أن لا أترك بصمات أصابع على المخمل.

الكنز الآخر  قصاصة من الصحف احتفظت بها في كيس من البلاستيك. كان الورق مبقعا وحافته مكرمشة. ولكن التاريخ مقروء - وهو 30 تشرين الثاني 1962. ومعها صورتي حين كسبت مسابقة للجمال.

بعكس الخاتم، كنت أخرج هذا الكنز لأعرضه على الآخرين. كلما جاء الأقارب والأصدقاء - أو أي شخص آخر - ليزور بيتنا. وإذا أصبحت موضوع الحوار، تأتي الوالدة بالقصاصة وتتكلم عنها بنبرة تدل أنها لم تفكر بالموضوع منذ فترة طويلة. معظم الناس كانوا دمثين ويبدون الإعجاب - "كم هذا حلو" - ولكن من الواضح لا يبدو أنهم مقتنعون أو لديهم كلام إضافي. ولذلك كانوا يبدون الاهتمام ويتظاهرون أنهم يقرأون المقالة بينما الوالدة تشرح معايير الحكام، وعدد المتسابقات، والجوائز (مجموعة قوالب خشبية من أوروبا وعلبة من الكارتون  بمحتويات طفولية)، ومشهد المسرح، وأسئلة الصحفيين. وكنت في الصورة بعمر ثماني شهور أرتدي طاقية مطرزة ومعقودة تحت ذقني. وكنت لا أزال بالفوطة، وتنورتي المزركشة الصغيرة منفوخة حولي. الرأس مائل بخجل  وأنظر إلى مصاصة وضعها أحدهم في يدي. كنت ثمينة بالنسبة للوالدة مثل القصاصة، ولكنها من الواضح لم تهتم بقراءة المقال المكتوب على الطرف الآخر منها، ولكنني أحفظه عن ظهر قلب: ... في أمسية 28-------- (72عاما) حضرت لعائلتها السوكياكي من الفطر الذي جمعته من الجبال القريبة من بيتها، وفي صباح ال 29، زوجها --------- (76 عاما) وزوجة ابنها -------  (39 عاما)، وحفيدتها ------ (6سنوات) ظهرت لدبهم أعراض التسمم. نقلوا إلى المشفى المحلي بالإسعاف، و -------- و  --------- ولا زالوا مسجلين في لائحة الحالات الحرجة. أرسلت الشرطة بقية الفطر للتحليل والتصنيف.

كان بقية المقال مقصوصا، ولكن كلما أخرجت أمي القصاصة، أتذكر البنت الصغيرة التي تناولت الفطر المسموم، فأشعر بوعكة في معدتي.

لم أعتقد أن وجهي حلو القسمات. كانت عيناي غير متساويتين، وذقني مدببة، وشعري أجعد ولا يمكن تسريحه. ولكن يعجبني جبيني. وهذا لأنه يشبه جبين والدي المرحوم، وليس لأنه جميل. ولكن كانت والدتي مصممة على إقناع العالم بجمالي. كانت تخيط كل ثيابي بنفسها، وتقلد تصاميم رأتها في متاجر أطفال راقية. وحتى إذا زارت طبيب الأسنان، تحرص على عقد شعري بشريط وارتدائي حذاء لماعا. وهي مستعدة لأن تجوع أحيانا، ولكنها لا تقصر حين تشتري المؤونة. وكل عام في يوم مولدي، تلتقط صورة لي في أستوديو للتصوير، وتوافق أن يعرض الأستوديو هذه الصور في الواجهة وأن يطبعها في دليله التجاري مقابل نسخ مجانية. حينما مات والدي بحادث مرور، بعد ولادتي فورا، عملت والدتي في وحدة للغسيل الجاف، ووجدت طريقة لإسعادي - تشغيل ماكينة الخياطة أو إعادة تمشيط شعري أو عرض قصاصة الجريدة.

وحينها أصبح فوزي في مسابقة ملكات جمال الأطفال مجرد شعاع تبقى من الشمس ولا يضيء غير آخر لحظات حياة والدي. ورد في المقال كلام  يعزى للوالدة "إنها طفلة بسيطة ورائعة. وزوجي غنى لها ألحانا إيرلندية، ودائما تضحك منها وتغني معه. وهذا لا علاقة له بالأغاني اليابانية، لا بد أن تكون إيرلندية". وهي مجنونة بحب أبيها وتعلمت كيف تعرف صوت خطواته، مهما كانت تفعل، حين تسمعه قادما إلى البيت تزحف إلى الباب بأسرع ما يمكنها.  وتلهو بدمى بشكل حيوانات تشبه الدجاج طيلة اليوم. وإذا أفاقت وهي تبكي أضعها في سريرها الصغير فتعود بسرعة للنوم مجددا". وحينما بلغت عشر سنوات، وجدت الوالدة استمارة للمشاركة بمسابقة جمال أخرى في مكان ما، وسألتني إن كنت مهتمة بدخولها. أخبرتها أنني لا أريد. ولكن طبعا لم تستمع لي.

قالت:"المسابقة تمولها مجلة. وهي غير مسابقة الأطفال التي كانت جزءا من المهرجان المحلي. يا ريكو لا بد أنك رأيت مجلة 'بنت المدرسة'. نحن لا نشتريها. ولكنها موجودة على الرف في المكتبات. إذا ربحت ستنشر صورتك على الغلاف مثل عارضة محترفة. وهذا شيء رائع أليس كذلك؟".

"رائع" كانت كلمتها المفضلة، وأعظم آمالها أنها ستثبت أنها "رائعة" بطريقة ما.

قلت لها:"ولكن لا توجد أمامي فرصة للفوز".

أجابت:"كيف تعلمين دون أن تجربي؟. ولا يهم إن ربحت - فكري بالمتعة الناجمة من ارتياد مكان جديد، وكسب صداقات جديدة".

"تعلمين أنني أصاب بالدوار في الحافلة".

"يمكنك تناول دواء ما لذلك. وسأرافقك، وإن بذلت جهدك، سأشتري لك هدية، أي شيء تريدينه. ماذا تفضلين؟".

"مثلجات ليلة مشرقة بالنجوم".

ومباشرة بدأت بخياطة ثوب جديد لي. القماش من الحرير والصوف وبلون بني محمر، وأضافت له ياقة وأساور بيضاء وشريطا من التيرولين ليظهر الخصر المرتفع. وهو زي كان في واجهة متجر نسخت عنه أزياءه، ولو ابتاعته من هناك دون شك سيكلفها ربع دخلها الشهري. وأبدت جدتي رأيها، أن لون القماش باهت قليلا، ولكنها نفت ذلك بحركة من يدها. كانت أمي تشعر أن الألوان البراقة تخفي جمال الطفل الداخلي. وأن الاعتدال يناسب  سحر البنت الذكية مثلي. وهو ما يؤكد على نقائي ونباهتي.  ولتجنب البرد، كنت أرتدي في المدرسة ثيابا داخلية صوفية. أعلى حمى تسببت لي بتقبيلة السخونة وانتشرت البثور على شفتي،  ولذلك توجب تجنب المرض بكل الوسائل. بعد الشامبو دلكت جمجمتي بزيت الكاميليا ثم سرحت شعري خمسين مرة بالفرشاة. كانت رائحة زيت الكاميليا تشبه الخنافس الجافة الموجودة في مجموعة الحشرات التي قدمتها إلى المدرسة في أحد فصول الصيف. وكانت واجبا مفروضا علينا.

كان الطقس في يوم المسابقة  دافئا، والسماء صافية. أكلت كرتين من الأرز حضرتهما لي جدتي، وتناولت دواء دوار الحركة، وارتديت ثوبي الجديد. وبذلت أمي أيضا جهدا كبيرا. تزينت بخاتم الأوبال وأفضل ثوب لديها، ولكن كانت ألوانه ممحية قليلا.

قالت:"رائع". وجعلتني ألتف حول نفسي أمام المرآة. أضافت:"رائع تماما". وكما قلت هذه هي كلمتها المفضلة.

"أهم شيء الإجابة على الأسئلة دون تفكير. هل تفهمينني؟. لا يجب أن تترددي أو يظهر عليك الخوف. قفي باستقامة، وتكلمي ببطء وصوت مرتفع. ولا تتظاهري. ثوبك يناسبك تماما، وكنت محقة بشأن الشريط. متر منه يكلف نصف سعر ما تبقى. ولكن لمسة الرفاهية تلك تزيد من أناقة الثوب كله، هل انت معي؟".

عقدت المسابقة في صالة داخل مركز البلدة. بأزواج: أم - ابنة، مثلنا، وتجمعنا في الردهة. بعض البنات معهن آباؤهن، وحضرت أيضا عائلات كاملة، والقليل من الأخوة والأخوات الصغار في عربات الأطفال.

وقفت شابة وراء طاولة الاستقبال وحملت شارة تعلن عن رقم ثوبي وهو 34. كانت الشارة كبيرة وغطت تقريبا الطرف الأيسر من الصدر كله. وأخفت معظم شريط الترولين الذي تعتز به والدتي. كانت غرفة تبديل الثياب مزدحمة ومليئة. وجدنا كرسيين فارغين في زاوية فجلسنا عليهما. كان أمامنا تقريبا ساعتان قبل بداية المنافسة. دمدمت الوالدة:"لماذا جعلوا الشارة كبيرة مع أنها مسابقة أطفال؟. سوف تبدين مثل رقم عملاق يمشي على المنصة". وحاولت زحزحة الشيء المزعج لتظهر على الأقل قطعة من الشريط. ولكن لم تنجح. كان بقية الآباء مشغولين ومحتارين ببناتهم. إحدى البنات الصغيرات، والتي زينت ثوبها بزركشة على الرقبة، والكمين، والخصر، لوثت جوربيها في حفنة ماء وهي ذاهبة إلى المنافسة فعنفتها أمها. وحاولت الأم مسح الجوربين بمنديل رطب، فأرجحت البنت قدمها الحافية إلى الأمام والخلف وتثاءبت مرتين متتاليتين. سمحت بنت أخرى لفت شعرها بشكل كرة فوق رأسها، أن تدلك أمها وجهها بالمطريات. كانت الآن مثقلة بالمجوهرات التي ترن كلما تحركت. بعد أن اننهت من طلاء المطري أضافت أحمر الشفاه لشفتي البنت. وكان يبدو أن عيني الفتاة مسحوبتان إلى أعلى مع كعكة الشعر المثالية، ومنحها ذلك سحنة غاضبة قليلا. همست أمي:"إضافة المساحيق للأطفال إفراط". كنت صغيرة جدا حينذاك و لا أعلم معنى كلمة "إفراط". ولكن  من نبرتها خمنت أنها ليست إطراء. أضافت:"لا يوجد شيء كئيب أكثر من إظهار بنت صغيرة كأنها امرأة ناضجة". ويبدو أن أمي يئست أخيرا من ضبط مكان الشارة، ولكن ليس قبل عدة محاولات بدبوس الأمان الذي صنع عدة ثقوب في ثوبي.

في تلك اللحظة، انتبهت للبنت الجالسة بجانبي. كانت وحدها، وبلا شخص كبير يحوم فوقها.  وظهرت هادئة تماما، بتعابير مرتاحة، وهي تحملق بنقطة ما بعيدة عنها.  وسبب انتباهي لها، أنها ليست جميلة ولو بمقدار بسيط. ولكنني لست مهتمة بمظهري على وجه العموم: ولا أهتم بمظهر الآخرين. ولو أنني هنا في مسابقة للجمال. ولم أنفق أي وقت بمقارنة مظهري مع بقية البنات في الغرفة. وكان هناك شيء ما في تلك الفتاة وقد امتلك اهتمامي بإلحاح. والآن لست متأكدة أن نقص جمالها هو الصفة التي استحوذت علي. وكنت متيقنة أنها مختلفة عن الأخريات. كانت ملامحها الشخصية عادية جدا: وجه بيضاوي، بشرة سمراء، عينان صغيرتان ومستديرتان مع جفون مزدوجة. وكان أنفها وشفتاها وحاجباها بلا جاذبية. أما شعرها فمقصوص بعناية ومتساو  وكأنه تم قياسة بالمسطرة. ثيابها بسيطة. بلوزة بيضاء، وكنزة رمادية. وشيء فيها يوحي أنها تلقت لكمة. فقد كانت عيناها تتصارعان. ومظهرها العام مقلق دون تفسير. ولم أتمكن من منع نفسي من النظر اليها.

همست أمي في أذني بعد أن اختلست نظرة من البنت التي بعدي:"بعض البنات لسن جميلات على الإطلاق. ومع ذلك نجحن بفحص الاستمارة". شعرت بالسخط عليها. مع أنها قالت بصوت مسموع ما كنت أفكر به.  كان كلامها خافتا، وحتى البنت نفسها لم يمكنها أن تسمع، ولكن هذا لم يحسن من إحساسي.

قال مدير الحفل:"نطلب من أعضاء العائلات الجلوس مع الجمهور الآن، لنتمكن من مقابلة البنات". ارتفع الضجيج في غرفة تبديل الثياب. لم تكن أي أم جاهزة للانصراف قبل نصيحة أخيرة لابنتها.

منحتني أمي نظرة أخيرة وقالت:"ارفعي صوتك بالكلام. ولا تترددي. الذقن إلى الأعلى، والظهر مستقيم - وهذا كل المطلوب". لوحت لي بيدها، وانصرفت من الغرفة. جلست هناك. الشفتان محكمتا الإغلاق. وبعد اندحار تحسسي، انتابني الشعور بالحزن. ولم أكن متأكدة أن السبب هو اقتراب بداية المنافسة، فقد كنت لا أزال مهتمة بالبنت المجاورة لي. حدد مدير الحفل ترتيب الإجراءات، واستعمل إشارات كبيرة ومسرحية. وأمسك بيساره ما يبدو أنه نص ملفوف وكان ينقر به  الطاولة من حين لحين للتأكيد على نقطة ما.

رفع يده فوق رأسه وأشار بثلاث أصابع:"هناك ثلاثة أمور يجب الاهتمام بها. هل هذا واضح؟. أولا الثرثرة الجانبية ممنوعة. كالمدرسة. ثانيا الركض ممنوع. لا على المنصة ولا في الكواليس. توجد أشياء كثيرة هناك في الخلف. ألواح، خشب، أسلاك كهربائية. والركض تصرف محفوف بالخطورة. مفهوم؟".  تكلمت عدة بنات للإشارة إلى الاستيعاب. لم تنطق البنت التي بجانبي. ولم تتبدل ملامحها إلا قليلا منذ أن رأيتها لأول مرة. ومن الصعب أن تعلم إذا كانت تستمع بانتباه أو أنها ضجرت واحتقنت عيناها بالدموع.

"أحسنت كل بنت أجابت. التهذيب معيار مهم لدى القضاة في الحفل. ثالث شيء يجب تذكره أن تتحركن بأزواج أثناء المنافسة. حين تدخلن الصالة، وتقتربن من مكبر الصوت، وحين تغادرنها، أمسكن بأيدي بعضكن البعض، ولتمشي كل واحدة مع رفيقتها. مفهوم؟".

في هذه المرة أجبن جميعا بصوت متهدج، وطبعا باستثناء، البنت المجاورة لي - وأنا فقد كنت مشغولة بمراقبتها.

قال:"حسنا إذا. قفن بالصف حسب الأرقام. بسرعة".

ارتفع الطنين حالما بدأت الحركة. وكانت الرقم 34 في مكان ما في وسط الصف، الذي يطول ويطول وهو يتلوى في الغرفة. بنات الأرقام الأحادية تماسكن بالأيدي مع بنات الأرقام الزوجية. وجلست البنت رقم 33 بجواري. جمعت أطراف شجاعتي وسألتها:"هل أنت وحدك؟".

التفتت نحوي. طرفت مرة وببطء. قالت:"نعم".

قلت لها:"لا بد أنها تجربة صعبة".

"ليس كثيرا. ولكن لم أجد من يأتي معي".

"لماذا؟".

"كلبنا مات اليوم صباحا. واكتسح بيتنا الجنون. ونسي الجميع المنافسة".

كانت يدها باردة ونحيلة.

من مقربة، كما تبين، كان شكلها مدهشا. ملامحها ومسافاتها ولون بشرتها وطريقة اهتزاز شعرها، ورنة صوتها - كل شيء فيها، جعلني أشعر شعورا لم أمر به من قبل، شيء محدد ولا يمكن إهماله، شعور هش وغريب تماما.  ولكن هناك أمر واحد مؤكد - لم يكن فيها شيء لا يقنع. سألتها:"هل كان مريضا؟".

"لا. اختنق".

كررت رغما عني:"اختنق".

أومأت برأسها. وشدت رباطات كنزتها على كتفيها.

"حفر حفرة تحت بيته، ووجدنا رأسه عالقا في الحفرة. البيت مثبت بأوتاد، ولا بد أن أطرافها ثقبت قفا رقبته".

"ولكن لماذا فعل ذلك؟".

مالت برأسها، كأنها تسأل نفسها هذا السؤال. قالت: "حينما وجدته هذا الصباح، لم أعتقد أنه ميت. توقعت أنه فعل شيئا طائشا فعلا. وأنه يخاف من مواجهتي. كان رأسه تحت الأرض، ولكن طوى ساقيه الخلفيتين تحته. وكان يجلس بشكل طبيعي. ولكن حينما حاولت أن أداعبه، رأيت أنه بارد. أخرجته بأسرع ما يمكن. لم أشاهد على وجهه علامة تنم عن المعاناة. وكان يبدو منتبها كأنه يحاول الاستماع لصوت بعيد. والعلامة الوحيدة التي تدل على خطأ هي العلامة التي تخلفت على قفا رقبته. وشعره كان منفوخا. وهناك كدمات على جلده وبعض بقع الدم.

اختناق، كدمات، ودم - كانت الكلمات تأتيها ببساطة، وكأنها تتذكر قصة خيالية، سمعتها في سنين مبكرة من عمرها. لم تكن تثرثر أي من البنات في الطابور. ومن الظاهر أن التوتر المتزايد والإثارة أسكتهن. أو أنهن تتذكرن فقط التعليمات الأولى التي ألقاها مدير الحفل. ولكن البنت التالية كانت تبدو غير واعية لأي شيء يجري من حولنا.

سألت فجأة:"ما رأيك بطريقة موته؟".

ارتبكت، ولم أجد رأيا أرد به. لم يكن لدي كلب، ولم أفكر بالاحتمالات التي تودي إلى الموت، سواء موت كلب أو موتي.

تابعت:"إدخال رأسك في مكان ضيق جدا ومظلم للغاية، يمر بسهولة، ويتغلغل تماما، ولكن حين تحاولين جره يعلق. في البداية تشعرين بغرابة الموقف، وتجربين كل أشكال المناورة. تلوين رقبتك بهذا الاتجاه وذاك. ولكن بالتدريج تفهمين أنه ميؤوس من هذه الحالة. ولا يوجد شيء يمكنك فعله. وكل الوقت تشعرين بصعوبة التنفس. ثم تنكسر رقبتك. وتبدأ عظامك بالتصدع. وأخيرا يستولي عليك اليأس... ما رأيك بهذا الموت؟".

كان صوتها هادئا وخشنا قليلا. ويدها التي لا زلت ممسكة بها باردة.

سألتها دون أن أجيب على سؤالها:"هل تحبين كلبك؟".

"كان موجودا يوم مولدي. كان كلبا بائسا ببقع سوداء في داخل أذنيه. ويحب اللهو بلفافات ورق دورة المياه".

"ولكن لماذا حفر حفرة في مكان كهذا؟".

"ربما حاول اصطياد دودة أرض".

"ولكنك لم تسمعي عواء غريبا أو شيئا آخر؟".

هزت رأسها، وتأرجح شعرها إلى الأمام والخلف تبعا لحركته.

قالت:"أتساءل كيف يفكر الكلاب أثناء احتضارهم. هل يتذكرون الأيام السعيدة. مثل الناس الذين يستعيدون أيام طفولتهم؟. أو ربما يفكرون بشيء يحبونه".

راقبتها بزاوية عيني، ولم أجد القدرة على التفكير بشيء أقوله. واستغربت أنها لا تبدو حزينة. كانت تطرف ببطء من وقت إلى آخر - كما لو أن ذلك يعينها على رؤية ما كان يفكر به الكلب.

قال مدير الحفل:"حسنا. أوشكنا أن نبدأ. هل أنتن مستعدات؟".

سمعنا صوتا يأتي من مكان ما. كانت أضواء المنصة ساطعة جدا، ويصعب أن أحتفظ بعيني مفتوحتين. وكان خداي محمرين ودافئين. مررنا أمام الحضور. اثنتان اثنتان. ثم اصطففنا بطابور على طول المنصة على المسرح. كانت الصالة معتمة، ويصعب أن ترى ما وراء الأضواء المنخفضة. ولكن يبدو أنها نصف فارغة في المؤخرة. مقدمة الحفل، امرأة بثوب مزركش ولكنها ليست شابة. وتعثرت مرتين وهي تتهجى أسماء لجنة القضاة. كان علينا أن نتقدم إلى أمام المنصة، بأزواج، وأن نرد على أسئلة القضاة. ما هو موضوعك المفضل في المدرسة؟ كيف تصفين شخصيتك؟ ما هو الكتاب الذي أثر بك أكثر من غيره؟ ماذا تفضلين أن تفعلي في مستقبلك؟ من تكنين له الإعجاب في هذا العالم؟  بعض البنات لم يرضيهن الإجابات البسيطة على الأسئلة وبادرن إلى الغناء والرقص.  يبدو أن وقتا طويلا مر. وشعرت أن قطرة عرق ترسبت على أرنبة أنفي. وأردت أن أمسحها عن وجهي. ولم يكن لدي منديل. فأمي لم تضف الجيوب إلى ثوبي. من وقت لآخر كنت أنظر إلى الرقم 33. هل كانت تفكر بالكلب؟. أفترض ذلك. الجميع هنا، اليافعات والصغيرات على حد سواء، تفكرن أي بنت أظرف. باستثناء نحن الاثنتين. كنا نفكر بالكلب الذي اختنق. وحان دورنا. هبطنا عن المنصة واقتربنا من مكبر الصوت. شعرت أن شعرها ينسدل إلى الخلف والأمام بجانب أذني. ولمع ضوء ناصع أمام وجوهنا مباشرة. وفجأة أدركت أنها ترتدي زوجا من أحذية الرشاقة المطاطية البسيطة. وساقاها رفيعتان وأنيقتان وتدعوان للدهشة. أما حذائي الجلدي الذي لمعته جدتي في ذلك الصباح فقط، فقد برق تحت الضوء.

قالت مضيفة الاحتفال:"لنبدأ بالرقم 33". وطلب من البنت المجاورة تقديم اسمها، وذكر عمرها، وصفها الدراسي، وأجابت بنبرة مباشرة تنم عن شخص بالغ. كان اسمها عاديا ولا يثير الانتباه، وليس الذي توقعته بسبب الانطباع الغريب الذي تركته عندي.

سأل رجل ممتلئ وذو شارب:"ما هو البرنامج التلفزيوني المفضل لديك؟".

قالت بعد صمت قصير:"إعادة مسابقات الملاكمة".

قالت مضيفة الحفل بكثير من الدهشة:"ياه! هذا كثير بالنسبة لفتاة".

تابع الرجل:"وماذا يعجبك بالملاكمة؟".

"أحب الصوت الناجم عن توجيه لكمة إلى جسم بشري".

فهمت أنها ليست مهتمة بالملاكمة، وأن هذه الكلمات تخرج من فمها دون معنى.

تحركت نحو الجانب قليلا، ولذلك أمكنني الاقتراب من مكبر الصوت. فقد حان دوري. الاسم، العمر، سنة الدراسة. لا شيء صعب بذلك. ويمكن لأي طفل في الروضة أن يخبرك بذلك. حاولت أن أفتح فمي، وحاولت أن أستدعي صوتي من مؤخرة حلقي، ولكن لم تثمر جهودي. وتسرب مني نفس ضعيف، لا أكثر. جاءت مضيفة الحفل ووضعت يدها على كتفي. سألتني:"هل أنت على ما يرام؟ مضطربة قليلا كما أرى. فقط استرخي وأخبرينا باسمك".

امكنني شم العطر. وجاءت دمدمة من الحضور، وهمسات منخفضة، وقهقهة هنا وهناك، وسعال - وقد جرفني ذلك تماما. تكلمي، الظهر مستقيم، ولا تترددي. تردد صدى صوت الوالدة في أذني. وحاولت أن أفتح فمي مجددا، وحاولت أن أتذكر أي عضلة تستعمل بالكلام، وكيف تتحرك أنفاسي. ولكن كان صوتي لا يزال متجمدا. ضغطت على يد الرقم 33 بقوة، وفجأة شعرت كأنني أربت على الكلب الميت. لون شعره، وقوس ظهره، وساقاه المطويتان تحت جسمه، وأيضا خيال بيت الكلب - كل تلك الأمور التي لم أشاهدها أبدا، طفت أمام عيني. الأذنان المنسدلتان والأنف المنحني والمغبر، ولمحة من لسانه الوردي.

دمدمت تقول لتمنحني بعض الوقت:"حسنا. لنتجاوز اسمك. خذي نفسا عميقا  أي إنسان يضطرب بين حين وآخر. ومن ضمنهم أنا. لا شيء يستحق القلق".

قال رجل الشارب:"ربما يمكنك أن تخبرينا عن شيءثمين  تحتفظين به؟".

كررت:"ثمين... ثمين..".

ضغطت البنت المجاورة على يدي بصمت ونظرت إلى الأمام مباشرة.

دمدمت:" .. كلب...".

قالت مضيفة الحفل:"ماذا؟".

كررت:"كلب. كلب ضعيف ببقع سوداء داخل أذنيه. ويحب اللعب بورق دورات المياه".

وفاضت الكلمات مني أخيرا.

وبدا أنها ارتاحت لأنني أخيرا تدبرت شيئا قريبا من جواب مناسب:"فهمت. حسنا. لا بد أنه كلب محبوب. شكرا. لننتقل إلى الزوج التالي. رقم 35 ورقم  36".

غادرنا المسرح ونحن ما زلنا نتماسك بالأيدي.

في النهاية، فاز الرقم 46 و47. بنت بذراعين وساقين طويلتين كانت تحرك عينيها باستمرار. لم تتكلم الوالدة أبدا ونحن عائدتين بالحافلة إلى البيت. ولكنها عبرت عن رأيها حين جلست على بعد عدة مقاعد مني. وهي تمسك جزدانها أمام صدرها وتتأمل من النافذة. علمت أنني أدين لها بتوضيح. ولكن لم أجد طريقة لأبرر ما حصل، ولذلك لزمت الصمت بدوري. حينما وصلت الحافلة إلى نهاية الخط، وبلغت المنعطف أمام المحطة. وقفت الوالدة وهبطت دون أن تنظر إلى الوراء. وتبعتها بسرعة. وتقدمت من متجر السكاكر، واشترت علبة من ليلة مشرقة بالنجوم. في النهاية لم تكن ليلة مشرقة بالنجوم لذيذة كما تخيلت. وضعت العلبة على الطاولة وغمست الملعقة. فتات المثلجات ترك في فمي طعما كئيبا وغير سار. ومهما أكلت، لم تكن كمية محتويات العلبة أقل. والنجوم الملونة ظهرت على التوالي. دمدمت:" لا تزال أفضل من الفطر السام". لم يرد أحد. فوضعت في فمي ملعقة أخرى مليئة.

***

.........................

* ترجمها من اليابانية ستيفن شنايدر.

منشورة في النيويوركير. عدد 27 تشرين الثاني  2023.

* يوكو أوغاوا Yoko Ogawa كاتبة يابانية  حازت على جائزة المؤسسة اليابانية لعام 2023. لها أكثر من عشرين كتابا في السرد الخيالي والسيرة. أهم أعمالها: شرطة الذاكرة، انتقام: إحدى عشرة حكاية مخيفة.

 

في نصوص اليوم