ترجمات أدبية
ليو تولستوي: الأسئلة الثلاثة
قصة: ليو تولستوي
ترجمة: د. محمد عبد الحليم غنيم
***
ذات مرة خطرت في ذهن الملك فكرة أنه إذا عرف دائمًا الوقت المناسب للبدء في كل شيء، وتمكن من التمييز بين الأشخاص الذين ينبغى أن يستمع إليهم والذين لاينبغي ان يستمع إليهم، وكذلك معرفة الأمور الأكثر أهمية للقيام بها، فلن يفشل أبدًا في أي شيء يقرر القيام به.
ولما استقر على هذه الفكرة، أعلن في جميع أنحاء مملكته أنه سيعطي مكافأة عظيمة لأي شخص يعلمه الوقت المناسب لكل عمل، ومن هم الأشخاص الأكثر ضرورة،وكيف يمكنه معرفة ذلك. ما هو أهم شيء يجب القيام به.
وجاء رجال متعلمون إلى الملك، ولكنهم جميعًا أجابوا على أسئلته بشكل مختلف.
رداً على السؤال الأول، قال البعض إنه لكي تعرف الوقت المناسب لكل عمل، عليك أن تضع مسبقاً جدولاً للأيام والشهور والسنين، ويجب أن تلتزم به بدقة. وقالوا إنه بهذه الطريقة فقط يمكن القيام بكل شيء في وقته المناسب. وأعلن آخرون أنه من المستحيل تحديد الوقت المناسب لكل إجراء مسبقًا؛ ولكن، دون أن يسمح المرء لنفسه بالانغماس في أوقات الفراغ الخاملة، ينبغي له دائمًا أن ينتبه إلى كل ما يجري، ثم يفعل ما هو في أمس الحاجة إليه. وقال آخرون مرة أخرى إنه مهما كان الملك منتبهًا لما يجري، فإنه من المستحيل على رجل واحد أن يقرر بشكل صحيح الوقت المناسب لكل إجراء، بل يجب أن يكون له مجلس من الحكماء، الذين يساعدونه في تحديد الوقت المناسب لكل شيء.
ولكن مرة أخرى قال آخرون إن هناك بعض الأمور التي لا يمكن الانتظار حتى يتم عرضها على المجلس، ولكن ينبغي على المرء أن يقرر بشأنها على الفور ما إذا كان يجب القيام بها أم لا. ولكن لكي نقرر ذلك، يجب على المرء أن يعرف مسبقاً ما الذي سيحدث. ولا يعلم ذلك إلا السحرة؛ ولذلك، لمعرفة الوقت المناسب لكل عمل، لا بد من استشارة السحرة.
وكانت الإجابات على السؤال الثاني مختلفة بنفس القدر. قال البعض إن الأشخاص الذين يحتاجهم الملك هم مستشاروه. وآخرون قالوا الكهنة. وآخرون قالوا الأطباء. بينما قال البعض إن المحاربين هم الأكثر ضرورة.
وبالنسبة للسؤال الثالث، ما هي أهم مهنة: أجاب البعض أن العلم هو أهم شيء في العالم. وقال آخرون إنها مهارة الحرب. وقال آخرون مرة أخرى إنها تعليم الدين.
مع اختلاف جميع الإجابات، لم يتفق الملك مع أي منها، ولم يمنح المكافأة لأحد. ولكن لا يزال يرغب في العثور على الإجابات الصحيحة لأسئلته، قرر استشارة ناسك معروف على نطاق واسع بحكمته.
عاش الناسك في غابة لم يغادرها أبدًا، ولم يستقبل سوى عامة الناس. لذلك ارتدى الملك ملابس بسيطة، وقبل أن يصل إلى زنزانة الناسك، نزل عن جواده، وترك حارسه خلفه، ومضى وحده.
وعندما اقترب الملك، كان الناسك يحفر الأرض أمام كوخه. فلما رأى الملك سلم عليه ومضى في الحفر. كان الناسك واهنًا وضعيفًا، وفي كل مرة كان يغرس فيه مجرفته في الأرض ويقلب قليلًا من التراب، كان يتنفس بصعوبة.
ذهب إليه الملك وقال: جئت إليك أيها الناسك الحكيم لأطلب منك الإجابة على ثلاثة أسئلة: كيف يمكنني أن أتعلم القيام بالشيء الصحيح في الوقت المناسب؟ من هم الأشخاص الذين أحتاجهم بشدة، ومن ينبغي لي أن أوليهم اهتمامًا أكبر من الآخرين؟ وما هي الأمور الأكثر أهمية والتي تحتاج إلى اهتمامي الأول؟
واستمع الناسك إلى الملك، لكنه لم يجبه بشيء. لقد بصق على يده واستأنف الحفر.
قال الملك: "أنت متعب، دعني آخذ المجرفة وأعمل لبعض الوقت من أجلك".
قال الناسك:
- شكرًا!
وأعطى المجرفة للملك، وجلس على الأرض.
وعندما حفر قدرسريرين توقف الملك وكرر أسئلته. لم يُجب الناسك مرةً أخرى، بل قام ومدّ يده للمجرفة وقال:
- الآن استريح لبعض الوقت - واسمح لي أن أعمل قليلاً.
ولكن الملك لم يعطِه المجرفة، واستمر في الحفر. مرت ساعة، ثم أخرى. بدأت الشمس تغيب خلف الأشجار، وأخيرًا غرس الملك المجرفة في الأرض، وقال:
- لقد أتيت إليك، أيها الحكيم، للحصول على إجابة على أسئلتي. إذا لم تستطع إعطائي إجابة، فأخبرني بذلك، وسأعود إلى المنزل.
قال الناسك:
- ها هو شخص قادم ركضًا، دعنا نرى من هو.
استدار الملك، ورأى رجلاً ملتحياً يخرج من الغابة ركضًا. كان الرجل يضغط بيديه على بطنه، والدم يسيل من تحتهما. عندما وصل إلى الملك، سقط مغشيًا عليه على الأرض يئن بصوت ضعيف. فك الملك والناسك ملابس الرجل. كان هناك جرح كبير في بطنه. غسل الملك الجرح بأفضل ما يمكن، وضمّده بمنديله وبمنشفة كانت لدى الناسك. لكن الدم لم يتوقف عن السيلان، وأعاد الملك مرة بعد مرة إزالة الضمادة التي تشبعت بالدم الدافئ، وغسل وضمّد الجرح مجددًا. عندما توقف الدم أخيرًا عن السيلان، أفاق الرجل وطلب شيئًا يشربه. جلب الملك الماء العذب وأعطاه له. في هذه الأثناء كانت الشمس قد غابت، وأصبح الجو باردًا. لذلك، حمل الملك بمساعدة الناسك الرجل الجريح إلى الكوخ ووضعه على السرير. استلقى الرجل على السرير وأغمض عينيه وهدأ؛ لكن الملك كان متعبًا جدًا من مشيه ومن العمل الذي قام به، حتى أنه انحنى عند العتبة، ونام أيضًا - نومًا عميقًا استمر طوال الليل الصيفي القصير. عندما استيقظ في الصباح، استغرق وقتًا طويلاً حتى يتذكر أين هو، أو من هو الرجل الملتحي الغريب الذي يرقد على السرير وينظر إليه بعينيه اللامعتين.
قال الرجل الملتحي بصوت ضعيف عندما رأى أن الملك قد استيقظ وينظر إليه:
- سامحني!
قال الملك:
- لا أعرفك، وليس لدي ما أسامحك عليه.
قال الرجل:
- أنت لا تعرفني، لكني أعرفك. أنا ذلك العدو لك الذي أقسم على الانتقام منك، لأنك أعدمت أخي واستولت على ممتلكاته. علمت أنك ذهبت وحدك لمقابلة الناسك، وقررت قتلك في طريق عودتك. لكن اليوم مر ولم تعد. لذا خرجت من مكمني لأجدك، والتقيت بحراسك، وتعرفوا علي، وجرحوني. هربت منهم، لكنني كنت سأموت نزفًا لو لم تعالج جرحي. أردت قتلك، وأنت أنقذت حياتي. الآن، إذا عشت، وإذا رغبت في ذلك، سأخدمك كأكثر عبيدك ولاءً، وسأوصي أبنائي بالقيام بالمثل. سامحني!
كان الملك سعيدًا جدًا لأنه تصالح مع عدوه بسهولة، وكسبه كصديق، ولم يسامحه فحسب، بل قال إنه سيرسل خدمه وطبيبه الخاص للعناية به، ووعد بإعادة ممتلكاته له.
بعد أن ودع الرجل الجريح، خرج الملك إلى الشرفة وبحث عن الناسك. قبل أن يغادر أراد مرة أخرى أن يطلب إجابة على الأسئلة التي طرحها. كان الناسك في الخارج، على ركبتيه، يزرع بذورًا في الأسرة التي حُفرت في اليوم السابق.
اقترب الملك منه، وقال:
- للمرة الأخيرة، أرجوك أن تجيب على أسئلتي، أيها الحكيم.
قال الناسك وهو مازال جاثيا على ساقيه الرفيعتين، وينظر إلى الملك الذي وقف أمامه فى هذه اللحظة:
- لقد تمت الإجابة بالفعل!
تساءل المالك :
- كيف تمت الإجابة؟ ماذا تعني؟
رد الناسك:
- ألا ترى، لو لم تشفق على ضعفي بالأمس، ولم تحفر تلك الأسرة لي، لكنت ذهبت في طريقك، وكان ذلك الرجل سيهاجمك، وكنت ستندم على عدم بقائك معي. لذا كان الوقت الأكثر أهمية هو عندما كنت تحفر الأسرة؛ وكنت أنا الرجل الأكثر أهمية؛ والقيام بعملي كان أهم أعمالك. بعد ذلك، عندما ركض إلينا ذلك الرجل، كان الوقت الأكثر أهمية هو عندما كنت تعتني به، لأنه لو لم تربط جروحه كان سيموت دون أن يصالحك. لذا كان هو الرجل الأكثر أهمية، وما فعلته من أجله كان أهم أعمالك. تذكر إذن: هناك وقت واحد فقط هو الأهم - الآن! إنه الوقت الأهم لأنه الوقت الوحيد الذي لدينا أي سلطة عليه. الرجل الأكثر ضرورة هو الذي أنت معه، لأن لا أحد يعلم ما إذا كان سيتعامل مع أي شخص آخر: والأمر الأهم هو أن تفعل له الخير، لأن لهذا الغرض فقط أُرسل الإنسان إلى هذه الحياة .
(تمت)
***
تعليق: هذه الحكاية من ليو تولستوي تدور حول كيفية النجاح في الحياة. يعتقد ملك أنه لن يفشل أبدًا في أي مهمة إذا عرف دائمًا ثلاثة أشياء: ما هو أفضل وقت للبدء؟ من هم الأشخاص الأكثر أهمية ليكونوا حوله؟ وما هو أهم شيء يجب أن يقضي وقته في فعله؟ يقدم مكافأة للحصول على الإجابات، لكن لا مستشاريه الحكماء ولا الآخرين الذين يأتون للمطالبة بها يمكنهم مساعدته تجربة مع ناسك الغابة وقاتل مصاب تعلمه ما يحتاج إلى معرفته. المواضيع: الحكمة، التواضع، اللطف، العفو، الأخلاق.