ترجمات أدبية
جي دي موباسان: أنشودة رعوية (إيديل)
بقلم: جي دي موباسان
ترجمة: د.محمد عبدالحليم غنيم
***
كان القطار قد غادر للتو جنوة في طريقه إلى مرسيليا وكان يتبع المنحنيات الطويلة للساحل الصخري. انزلق مثل ثعبان حديدي بين الجبال والبحر، مرورا بشواطئ من الرمال الصفراء تتناثر عليها موجات فضية صغيرة، قبل أن تبتلعه في فم نفق مثل حيوان ينطلق نحو عرينه.
في العربة الأخيرة، كانت امرأة ممتلئة الجسم وشاب يجلسان مقابل بعضهما البعض في صمت يختلسان النظرات الخفية لبعضهما البعض من حين لآخر. ربما كانت في الخامسة والعشرين من عمرها وكانت جالسة على جانب باب العربة وتنظر إلى منظر الطبيعة عبر النافذة. كانت امرأة فلاحة صلبة العود من بيدمونت، ممتلئة الجسم ممتلئة الخدود بعينين سواداوين وصدر ممتلئ. بعد أن دفعت عدة طرود تحت المقعد الخشبي، تحمل والآن سلة على ركبتيها.
كان الشاب في العشرين من عمره، نحيفًا جدًا وله سمرة عميقة لشخص يعمل في الحقول تحت أشعة الشمس الحارقة. وبجانبه مربوط في يقجة كانت ثروته بأكملها: زوج من الأحذية، وقميص، وزوج من بناطيل العمل الخيشية وسترة. تحت مقعده كان يخزن معولًا ومجرفة مربوطة بحبل. كان يأمل في العثور على عمل في فرنسا.
صبَّت الشمس الساطعة مطرًا من نار على الساحل. كان ذلك في أواخر شهر مايو، وامتلأت الأجواء بالعطور المبهجة وانتشرت عبر نوافذ العربات المنخفضة. تنفث أشجار البرتقال والليمون المزهرة في السماء الهادئة، روائح حلوة، نفاذة، عسلية تختلط بعطر الورود البرية التي تنمو على طول الطريق، تتجول فوق الحدائق الغنية التي مروا بها، حول أبواب الأكواخ الريفية المتداعية وفي الريف أيضا. هذا الساحل هو موطنهم الطبيعي. يملأون المكان برائحتهم الخفيفة والقوية ويجعلون الهواء شهيًا، مثل شيء ألذ من النبيذ ومسكر مثله.
كان القطار يتحرك ببطء كما لو كان يريد أن يظل ممتدا،مطيلا مشيته ويتذوق السحر اللطيف لعدن. وظل يتوقف عند المحطات الصغيرة حيث توجد بعض البيوت البيضاء، ثم انطلق مرة أخرى بوتيرته الهادئة، بعد أن أطلق صفيرًا لفترة طويلة. لم يدخل أحد. كان الأمر كما لو أن جميع السكان كانوا نائمين ومترددين في التحرك على الإطلاق في ذلك الصباح الحار من فصل الربيع.
من وقت لآخر، كانت المرأة الممتلئة تغلق عينيها، ثم تفتحهما فجأة، بينما تمكنت من إنقاذ السلة من السقوط من على ركبتيها. كانت تفحص المحتويات لفترة ثم تغفو مرة أخرى. وقفت حبات العرق مثل اللؤلؤ على جبهتها وكانت تتنفس بصعوبة وكأنها تعاني من انقباض مؤلم.
سقط رأس الشاب إلى الأمام على صدره وقد غرق في نوم عميق لصبي ريفي.
فجأة، عند مغادرتهما محطة صغيرة، بدت الفلاحة وكأنها استيقظت، وفتحت سلتها، وأخذت قطعة خبز، وبيضًا مسلوقًا، وقارورة من النبيذ، وبعض الخوخ، برقوقا أحمر جميلا وبدأت تأكل. استيقظ الشاب أيضًا فجأة ونظر إليها، وكان يشاهد كل قضمة تنتقل من الركبتين إلى الفم. جلس، وذراعاه مطويتان، وعيناه مثبتتان، وشفتاه مضغوطتان معًا. كانت خداه أجوفان.
كانت تأكل مثل امرأة كبيرة جشعة، وهي تتناول باستمرار رشفة من النبيذ للمساعدة على بلع البيض، وتوقفت لأخذ قسط من الراحة. ثم جعلت كل شيء يختفي، الخبز، البيض، البرقوق، النبيذ. وبمجرد أن أنهت وجبتها أغلق الشاب عينيه مرة أخرى. لذلك، شعرت ببعض الإحراج، خففت المرأة صدرها لتكون أكثر راحة وفجأة نظر إليها مرة أخرى. لم تقلق بشأن ذلك، استمرت في فك أزرار فستانها. أدى ضغط حضنها إلى شد النسيج بحيث، مع اتساع الفتحة، تم الكشف عن بصيص من الملابس الداخلية البيضاء وقليل من بشرتها. عندما شعرت المرأة القروية براحة أكبر، قالت بالإيطالية:
- الجو حار جدًا لدرجة أنك لا تستطيع التنفس.
أجاب الشاب بنفس اللغة وبنفس النطق:
- إنه وقت جيد للسفر.
سألت:
- هل أنت من بيدمونت؟
- أنا من أستي
- أنا من كاسال
لقد كانا جيران.
على الفور، بدأا في الدردشة معًا كجيران. لبعض الوقت، كما هو الحال في كثير من الأحيان بين الناس العاديين الذين لم يعتادوا كثيرًا على إجراء محادثة مع الغرباء، كانت محادثاتهما صارمة ورسمية. ثم ناقشا الشؤون المحلية واكتشفا معارف مشتركة. مع نمو قائمة الأشخاص الذين اصطدما بهم مؤخرًا، أصبح الاثنان صديقين. سقطت كلمات موجزة ومتسارعة بنهايات رنانة من شفاههما باللغة الإيطالية البسيطة. ثم انتقلا إلى الأمور الشخصية.
كانت متزوجة ولديها ثلاثة أطفال أصبحوا الآن في رعاية أختها. لقد وجدت لنفسها وظيفة مربية، وظيفة جيدة لسيدة فرنسية تعيش في مرسيليا. كان الرجل يبحث عن عمل. قيل له إنه سيجد البعض أيضًا هناك فى مرسليا، حيث يبدو أن هناك قدرًا كبيرًا من أعمال البناء المعروضة.
ثم صمتا.
كانت الحرارة شديدة، حيث تنهمر بشدة على أسطح العربات. وحلقت سحابة من الغبار خلف القطار واخترقت الداخل. وأخذت روائح أشجار البرتقال والورود نكهة أقوى وأكثر انتشارًا وأثقل.
راح المسافران ينامان مرة أخرى.
فتحا أعينهما في وقت واحد تقريبًا. كانت الشمس تغرق في اتجاه البحر، وتلقي بريقًا لامعًا على مياهه الزرقاء. انتعش الهواء وأصبح أخف وزنا.
كانت الممرضة تلهث، صدرها مفتوح، خداها مترهلان، عيناها باهتتان ؛ قالت بصوت ضعيف:
- لم أرضع منذ الأمس ؛ ها أنا أشعر بالدوار وكأنني سأصاب بالإغماء.
لم يرد، لا يعرف ماذا يقول. وتابعت:
- عندما يكون لديك لبن مثلي، عليك أن ترضع ثدياك ثلاث مرات في اليوم، وإلا ستشعر بالألم الشديد. إنه مثل وزن ثقيل على قلبي. ثقل يمنعني من التنفس ويكسر أطرافي. من المؤسف أن يكون لديك هذه الكمية الكبيرة من الحليب.
قال:
- نعم، هذا مؤسف. لابد أن يكون ذلك مصدر إزعاج لك.
بدت مريضة للغاية بالفعل، مرهقة وبائسة. همست:
- فقط أعصره فيخرج الحليب مثل النافورة. من الغريب حقًا رؤيته. لن تصدق ذلك. في كاسال، جاء جميع الجيران لينظروا إلي.
يقول: أوه! حقًا.
- نعم صحيح. أود أن أريه لك، لكنه لن يفيدني بأي شيء. لا يكفي خروج اللبن بهذه الطريقة أيضا.
صمتت.
توقف القطار، خلف الحاجز كانت تقف امرأة نحيفة خشنة الملبس، وتحمل بين ذراعيها طفلاً يبكي. نظرت إليها الممرضة. قالت بنبرة متعاطفة:
الآن هناك امرأة يمكنني مساعدتها. وهذا الطفل سوف يمنحني بعض الراحة، يمكنني أن أخبرك! أنا لست امرأة ثرية، ولن أترك منزلي هكذا، وأهلي وحبيبي الصغير أصغر سناً للعثور على عمل بعيدًا، لكنني سأمنح خمسة فرنكات كاملة بسرعة للحصول على هذا الطفل لمدة عشرة دقائق وأعطيه الثدي. سأكون امرأة جديدة.
مرة أخرى صمتت. رفعت يدها الدافئة عدة مرات لمسح جبينها الذي كان يتصبب عرقًا. تأوهت:
- لم أعد أستطيع التحمل. يبدو لي أنني سأموت.
بحركة لا إرادية فتحت فستانها بالكامل، كاشفة عن ثديها الأيمن الضخم المشدود بحلمته البنية. واشتكت المرأة المسكينة:
- يا إلهي! أنا لا أعرف ما يجب القيام به! ماذا يمكنني أن أفعل؟
انطلق القطار مرة أخرى واستمر في طريقه وسط الزهور التي تعبق أنفاسها فى الأمسيات الدافئة. في بعض الأحيان بدا قارب صيد نائمًا على البحر الأزرق، مع شراعه الأبيض الثابت المنعكس في الماء كما لو تم العثور على قارب آخر مقلوبًا.
تلعثم الشاب محرجا:
- لكن... سيدتي... أستطيع... أن أريحك.
أجابت بصوت مكسور:
- نعم، إذا أردت. سوف تقدم لي خدمة عظيمة. لا يمكنني الصمود بعد الآن، لا يمكنني الصمود بعد الآن.
جثا أمامها. ومالت نحوه وجلبت طرف صدرها الداكن إلى فمه مثل مرضعة. مع الحركة التي قامت بها بكلتا يديها لتقديم ثديها للرجل، ظهرت قطرة من الحليب في الأعلى شربها بشراهة، ممسكًا بالثديين مثل الثمرة بين شفتيه. وبدأ يرضع بجشع وبشكل منتظم.
كان قد وضع ذراعيه حول خصر المرأة، فعصرها لتقريبها منه؛ وكان يشرب في رشفات بطيئة مع تحريك الرقبة، كحركة الأطفال.
فجأة قالت:
- هذا يكفي لهذا الجانب، الآن خذ الآخر.
مطيعا انتقل إلى الثدي الآخر. وضعت يديها على ظهره وأخذت تتنفس بعمق ورضا، مستمتعة برائحة الزهور الممزوجة بأنفاس الهواء التي تقذفها حركة القطار في العربات.
قالت:
- رائحتها جميلة هنا.
لم يرد واستمر في الشرب من ينبوع الإنسان، وعيناه مغمضتان كما لو كان يستمتع بهما. لكنها دفعته بعيدًا فى رفق:
- هذا يكفي. أشعر بتحسن. لقد عادت روحي إلى جسدي.
قام وهو يمسح فمه بظهر يده
قالت له وهي تعيد إلى داخل ثوبها القرعين المفعمين بالحيوية اللذين نفخا صدرها.
- لقد قدمت لي خدمة رائعة. شكرا جزيلا سيدي.
فأجاب بامتنان:
- أنا من أشكرك يا سيدتي، لقد مضى يومان لم أكل فيهما أي شيء.
( تمت)
***
.................
الكاتب: جي دو موباسان (1850- 1893 م) / كاتب وروائي فرنسي وأحد آباء القصة القصيرة الحديثة. وكان عضوا في ندوة إميل زولا. ولد موباسان بقصر ميرونمسنل بنورمانديا، وكان أبوه من سلالة أرستقراطية تدهورت حالتها المالية إلى مباءة الإفلاس. درس موباسان القانون، والتحق بالجيش الفرنسي ثم عمل ككاتب في البحرية. وقابل جوستاف فلوبير عن طريق صلات أسرته ليصبح فيما بعد تلميذه المخلص، وقد قدم فلوبير لتلميذه نظرية للنجاح الأدبي تتكون من ثلاثة أجزاء: لاحظ، لاحظ، ثم لاحظ. أما هو فكان يقول: " إن هناك من الحقائق ما يساوي الناس عداً.فكل منا يكون لنفسه صورة خادعة عن العالم. وهو خداع شعري أو عاطفي أو بهيج أو مقبض أو قذر أو كئيب حسبما تكون طبيعته.. كخداع الجمال وهو تقليد إنساني.. وخداع الدمامة وهو فكرة متغيرة.. وخداع النذالة الذي يستهوي الكثيرين. وكبار الفنانين هم أولئك الذين يستطيعون حمل الإنسانية على قبول انخداعاتهم الخاصة "
كان موباسان الرسام الأكبر للحزن البشري ودوما ما كان يصاب بصداع وكان يتلوى ساعات من الألم حتى أصيب بالجنون سنة 1891، ومات في إحدى المصحات العقلية عام 1893 م.