ترجمات أدبية
فريدريك: مقتطفات من رواية الهروب (2)
فريدريك: مقتطفات من رواية الهروب (2)
مقتطفات من الفصل الثاني من رواية "الهروب"
بقلم: عبد الرزاق قرنح
ترجمة: صالح الرزوق
***
انحسرت النسمات بعد هبوط الليل، ولكنها كانت قد عملت عملها، وأصبح الهواء خانقا ورطبا. تحتهم كان البحر يجري باتجاه الخليج ويقفز بموجات مرتفعة. قال فريدريك:"هل كنت في سيشيل؟". أضاف ضاحكا:"كلماتك الأولى طريفة. قلت ذلك حينما أفقت. هل تتذكر؟". قال بيرس بتعب باسما:"نعم، وأنت قلت لم يحالفك الحظ".
"فعلا. لم يحالفني. هل شاهدت تلك الموجات في البحر؟ لا يوجد حيد في الخليج، وهذا شيء غريب في هذه الأنحاء. فالنهر يصب على بعد أميال شمالا. لا شيء يفصلنا عن سيشيل من جهة الشرق. وهناك يبدأ المد. وسمعت أنه مكان لم تخربه يد البشر، رغم الفرنسيين والمبشرين، يشبه جنة بحر الجنوب. هل ذهبت إلى هناك؟".
قال بيرس:"كلا".
قال فريدريك متعجبا: "أفوكادو البحر. تبدو لي مقرفة. فهي ثمرة تشبه ثقب المرأة. لا يكتشف الفرنسيون غير جزر تستحي من غطائها النباتي. حسنا، ربما هم لم يكتشفوها، وكان علينا أن نقوم بذلك. ولكن تأكد أنه ما أن تشاهد الفواكه التي تنتجها الجزيرة، حتى تدرك أنها تدعوك لوضع عصا الترحال".
أعاد فريدريك ملء كأسه ونظر إلى بيرس. كانت إشارة مهذبة، لأنه لن يسمح له بالشراب حتى لو طلبه. كان بيرس يستلقي في متكئه، وبالضوء المشع المنبعث عن مصباح الكيروسين لم يكن فريدريك متأكدا إن استلقى مجددا.
قال بيرس بصوت هادئ:"جميل جدا. البحر".
قال فريدريك:" هذا هو البحر. لا شيء أمامه لمسافة ألف ميل، كما تعلم، حتى تبلغ سيشيل التي تسعى وراءها. والبحر طيب المعشر. ذلك هو المحيط الهندي الذي جربته، على الأقل هذا الجزء منه، يشبه بركة بالمقارنة مع وحشية الأطلسي. وهو عنيف حتى تبلغ الشمال الشرقي، فيهدأ حوالي تشرين الثاني أو ما شابه. ثم يكون الرسو عديم النفع كما سمعت. هذا قبل أن أحضر. وحتى الآن الرياح قاسية جدا في بعض الأوقات. كنت بالخدمة في الشهور الأربع الماضية، ولكن نعم، البحر، أفضل شيء في هذا الموضع. ولا شيء غيره يهم عمليا. الأرض ليست رديئة ولكنها كثيرة الرمل وسطحية، المطر مناسب، غير أنه لا يوجد بشر للعمل كما يجب. ولا تستطيع أن تجبرهم على الاجتهاد والكد. والسبب هو العبودية. العبودية والمرض أنهكا قواهم، وبالأخص العبودية. تعلموا من الرق الكسل والمماطلة، والآن لا يتقبلون فكرة الجد والعمل ولا المسؤولية، حتى لو لقاء أجر. العمل الوحيد في هذه البلدة مجرد رجال يجلسون تحت شجرة بانتظار نضج المانغو. انظر ما أنجزت مزرعة الشركة. نتائج عجيبة. محاصيل جديدة، ري، دورة زراعية، ولكن عليهم حض الناس على تغيير طريقة تفكيرهم ليصلوا للهدف المرجو. نحن بحاجة لمزارع بريطانية في هذه الأنحاء، وأعتقد لن يمر وقت طويل قبل أن تظهر. وليس لدى ملاك الأراضي العرب من خيار غير البيع عما قريب".
قال بيرس:"نعم".
رشف فريدريك شرابه وامتص سيجاره بصمت، وحينما زمجر بيرس قليلا، خمن أنه يطلب منه المتابعة. قال:"كانت البلدة تقريبا مهجورة لقرن أو ما شابه بعد أن بنى البرتغاليون قلعة عيسى ونقلوا كل شيء إلى مومباسا. لو فكرت بالأمر جيدا هو نكران للجميل. بعد أربعين عاما طرأت للسلطان ماجد سيد زنجبار، فكرة رائعة، لإحياء البلدة بشكل مستعمرة زراعية. نظريا كان يحكم كل الشريط الساحلي. ولذلك أرسل أعرابه ومرتزقة جيش البلوشي التابع له مع ألوف من العبيد. وكان حصاد أول عشر سنين ممتازا. فأرسل المزيد من العبيد، وبدأ السكان المحليون يغزون القبائل المجاورة لكسب المزيد. وازدهرت البلدة مجددا وجنت ثروات هائلة. ثم جاء شيوخ المذهب وانغمسوا بالتجارة، وأنت تعلم أنني أقول باستمرار: إن رأيت تاجرا هنديا يعمل، عليك أن تتأكد أنه يوجد فرصة أن تجني قرشا أو اثنين. رسخ الهنود أقدامهم هنا لفترة طويلة، أو أنهم على الأقل كانوا متواجدين حينما جاء البرتغاليون ليغرسوا صليبهم في الأرض. ويقال إن القبطان دو غاما، اختار الإبحار من هنا إلى كالكوت، وهو بحار هندي. ويمكنني تصديق هذا. وعلى الأرجح كان عبدا هنديا. كل شيء أنجزه العبيد. حتى أن العبيد كان تحت أمرتهم عبيد. وخلال هذه السنوات وضعت الشركة خططها وباشرت العمل. والجميع يقولون إنه لم يتوفر للشركة فرصة، ولا أفترض أن ماكينون وجماعته نظروا إلى المسألة بهذا الوضوح. وبالتأكيد هي ليست على تلك الصورة بنظر سلطان زنجبار. ولا أعتقد أن السلطان آنذاك هو ماجد. والحقيقة أنا مقتنع أنه ليس هو. وربما هو بارغاش، أو الأقرب للاحتمال من أتى بعده، وهو المجنون، محمود، واحد من تلك الشريحة. وهو، أيا من كان، استفاد على ما يبدو من وسائل وعلوم البريطانيين، وطلب من الشركة - أو من شخص آخر أوكله بالمهمة - لإرسال أحد مدرائهم للإشراف على هذه المزارع. وكان ذلك خطأ مزعجا. أرسلت الشركة سيدا يدعى تينكل - سميث، اسم غريب، وعمد مباشرة لتحرير كافة عبيد المزرعة، ثم وظف كل من يرغب بالعمل لقاء أجر متفق عليه. وحدد ثمن تحرير كل منهم، وقدم لاحقا لمن يريد العمل في مزارع الشركة قرضا يعادل الثمن المطلوب. واعتبر بقية العبيد في المزارع الأخرى أن ذلك إشارة، وقام معظمهم بالهروب، مبدين كراهيتهم للعمل. وأسرعوا جميعا إلى الداخل طمعا بعطلة، عوضا عن قبول العمل مع الشركة. وفي هذا الوقت حتى العبيد علموا أن حكم السلطان نظري، ولا يزيد على مسافة عشرة أميال، فقد تعاهد الألمان والإنكليز على تقاسم المكان بينهما. وكل ما توجب عليهم هو التوغل لمسافة عشرة أميال لينعموا بالحرية. والنتيجة.. العرب المدقعون. جرى ذلك قبل عدة أعوام فقط، ثمانية أو تسعة، وتستطيع أن ترى المزارع المنهكة حاليا لو نظرت حولك. ولكن الهاربين يعودون ونحن نوطنهم في أراضي العرب المهجورة جنوب المدينة قليلا. وتسبب ذلك بالمشاكل، غير أنه ليس بيد العرب شيء سوى الدمدمة والرحيل إلى مومباسا. حسنا، كل شيء كتبت له نهاية سريعة في كل حال، بمجرد الإعلان عن المحمية عام 95'. آه يا عزيزي، أرى أنك تغفو".
أنهى فريدريك كلامه، حين سمع بيرس يشخر بهدوء. صب لنفسه كأسا آخر وأعاد إشعال سيجاره. سيمنحه عدة دقائق ثم يوقظه. فالبعوض سيذبحه إن تركه نائما على الشرفة. لكن ربما اعتاد عليها، البعوض والخنافس والثعابين. خمن أن لدى بيرس شيئا مشينا سيخبره به. لا أحد يسافر وحيدا هكذا، ما لم يكن في بعثة، وحتى في هذه الحالة يرافقه حارس أو اثنان. فقد يتعرض للسرقة أو يتخلى عنه مرافقوه. في كل الحالات كان عليه أن يعترف الآن بشيء، أن يقر بشيء ما. عاد فريدريك إلى بيت دوكا والله مع خادمه هامس ليترجم له، واستجوب الرجل، ثم رفع صوته بالتأنيب والتقريع، ولكن الحانوتي دوكا والله المتين البنيان أكد بعناد وفي النهاية متشكيا ودامع العينين أنه وجد بيرس فارغ اليدين. ورسخ في ذهنه أن لذلك سببا، وأن بيرس يخبئ شيئا ما سيتضح بعد زوال التعب والإنهاك. وهذا لا يعني أنه ليس مرهقا، وهو أمر واضح لا تخطئه العين. فقد استيقظ قليلا من نوم استغرق يوما كاملا، وعاد لغفوته سريعا. ولم يمكنه أن يأكل غير ملاعق قليلة من الحساء الذي جهزه له الطاهي. ولعل فريدريك لاحظ أنه غير نائم تماما حتى وهو يشخر بهدوء هناك إلى جانبه على الشرفة.
وتبادر لذهنه أنه طرد من البعثة بسبب تصرف طائش، وسيضطر للاعتراف والكلام عن الموضوع. نظر إلى بيرس الذي بجانبه، وكان منكفئا وغامضا في ضوء المصباح. كانت له نظرة متماسكة، وهي ليست نتيجة وضعه الحالي، ولكن من خصاله الشخصية، شيء له علاقة بالعمل والمبادئ. سكب فريدريك لنفسه شرابا أخيرا وحذر نفسه أن لا يستسلم لشكوكه. همس لنفسه مبتسما:"تماسك أيها الشاب. لا تدع الشراب يجرفك معه. ربما هذا رجل عائد من ظرف طارئ، من صدفة سامية، ولكنها لا تستطيع أن تكشف نفسها للعيان".
كان فريدريك عند الطاولة في منتصف الصباح حينما سمع صوت بيرس في غرفة الاستقبال المجاورة لغرفة المكتب. كانت أبواب كل الغرف مفتوحة بناء على تعليماته، للتهوية والاحتفاظ ببرودة جو البيت في الصباح. وفي ما بعد الظهيرة تغلق أغطية النوافذ في مقدمة البيت وكذلك تخفض واقيات الشرفة لحمايتها من الشمس. كان فريدريك يتابع تفاصيل بيته بحذافيرها. وكان يحب ذلك، وكرر الكلمة على مسامع نفسه بالحرف الواحد، مؤكدا على كل نبرة بنغمة ساخرة. بحذافيرها. ولذلك كون فكرة وافية عما اشتراه للدكان، وما تم استهلاكه، ومقدار التساهل بالغش. كان يعبئ الساعات بذاته مرة في الأسبوع، ويتأكد أنها كلها تدل على نفس التوقيت. ويفحص كثافة الحليب بين حين وآخر ثم يتأكد أن كامبي الحلاب لم يخلطه بكثير من الماء. كان يحب أن يعرف عماله أنه يحدد لكل منهم عملا دقيقا، وأنه مهتم بأدائهم، ويتوقع منهم أن يحترموا رأيه. لذلك حذر هامس من أن يسمح لأي ضيف إضافي بتناول الغداء إذا ظهر بورتون، وسمع صوت هامس وهو يذهب إلى غرفة بيرس في الثامنة صباحا مع كوب شاي، حسب تعليماته. وحينما سمع صوت بيرس في غرفة الاستقبال، نحى التقرير الخاص بضرائب العام الماضي والذي كان يعمل عليه وخرج ليحييه. ورآه واقفا على الشرفة، يميل على دعامة في الزاوية في ضوء شمس الصباح المتأخر. كان يرتدي أحد قمصان وسراويل فريدريك، ولم يكن المقاس مناسبا له. كان القميص كبيرا جدا والسروال قصيرا بمقدار ثلاث أو أربع بوصات. وبدا له بمظهر حارس شاطئ كسول ومثقف، أحد شخصيات ر. ل. ستيفنسون في خرائب بحر الجنوب، ولا سيما بالقدمين الحافيتين واللحية المشعثة. وابتسم لهذه الفكرة، فقد كانت مناسبة له، شيء له علاقة بهيئة بيرس وليس بالثياب، شيء من التراخي أو الاستعراض، نوع من الخصال الذاتية.
قال فريدريك:"ما كان عليك أن تقف في الشمس كما تعلم. ليس بعد ضربة الشمس أو أي شيء آخر أصابك هناك".
قال بيرس:"آسف". وأطاعه بالابتعاد. أضاف:"هل أزعجتك؟ رجاء لا تقاطع عملك".
قال فريدريك:"يسعدني هذا الإزعاج". وأهاب ببيرس أن يلجأ إلى الداخل البارد. تابع:"أنا أكتب تقريرا عن ضرائب اللوازم لهذا العام، وأقارن الأرقام بالسنة السابقة، إحصائيات إمبراطورية هامة ولكنها تذهب باتجاه بليد. بالعادة أهتم قليلا في هذا الوقت من الصباح. هل تنضم لي لنشرب كوب قهوة أو نأكل بعض الفواكه؟ القهوة هنا لذيذة، وهامس يحمصها بمحبة ويطحنها يوميا. وهي ليست حبات بن متقنة جدا، ولكنها ذات نكهة قوية".
قال بيرس: "نعم. هذا لطيف منك فعلا. أساسا رائحة القهوة أتت بي إلى هنا".
"ممتاز. سيباشر هامس حالا. كيف تشعر؟ تبدو أفضل، وأعتقد أنك جاهز لبعض حساء الطاهي".
قال بيرس وهو يمسد لحيته:"أنا أفضل كثيرا".
قال فريدريك مبتسما:"سنرسل هامس ليأتي بالحلاق، هل توافق؟. أم أنك تريد لحية كثيفة".
"كلا، كلا. تركتها تطول حينما شرعت بالرحلة، لأتجنب مشكلة حلاقتها يوميا. نعم، سأنادي الحلاق من فضلك".
انتظر فريدريك. وتلك اللحظة كانت مناسبة لبيرس ليروي قصته، ولكنه لم يبدأها، فابتسم فريدريك سرا لنفسه. وقرر أن يحفزه. وكان جاهزا ليسمع كل شيء.
قال فريدريك:"أخشى أنني لم أتمكن من تحديد مكان أشيائك. رجعت إلى دوكا والله وسألته بعزم عنها، لكنه لم يقر. هل تتذكر ما هي؟ وربما لا تزال لدينا فرصة لاستخلاص الحقيقة منه".
نفض بيرس رأسه بتعب. قال:"لم يكن هناك شيء. استولى الدليل وجماعته على الموجود، كل شيء. وناقشوا الموضوع فيما بينهم هل يفعلونها أم لا. وحزرت ذلك في كل حال. شعرت بالتعب. ولم أهجع بسبب القلق. ثم في آخر ليلة قبل أن يتركوني، نمت نوما عميقا فاستولوا على بندقيتي. وسمعتهم يتنازعون فيما بينهم، فاستيقظت. كان أحدهم جالسا قربي والبارودة موجهة إلى رأسي. وأجبروني على الاستلقاء ووجهي نحو الأرض، ثم خلعوا حذائي وحزامي واستولوا عليهما. وتركوا لي جراب ماء وحقيبة من الفواكه المجففة. آه، كساء وصندل. سمعت صوت ابتعادهم، وهم يتجادلون فيما بينهم. وكانوا يتناقشون هل يقتلونني أم يسرقونني فقط. أحدهم أراد ذلك، أن يقتلني، ليرتاح، والبقية عارضوا كلامه. وربما لا زالوا يتناقشون حول الحكمة من وراء تركي حيا".
قال فريدريك:" اللعنة على هؤلاء الصعاليك. لكن يجب أن أقر أنك بأعصاب فولاذية. لو أنا لثارت ثائرتي. أين حصل ذلك بالضبط؟ بأي اتجاه كنت ذاهبا؟".
ارتجف بيرس وقال:"هذا الاتجاه. كنا بطريقنا إلى هنا. وبعد أن غادروا توجهت إلى الجنوب. تركت قافلة متجهة إلى الجنوب الغربي، نحو أوغندا، كما تعلم. وكان يتوجب على ثلاثة أشخاص أن يقودوني إلى الساحل الشرقي، ولكن أعتقد أنهم لم يشاؤوا المجيء إلى هنا لسبب ما، أو أنهم فضلوا مكانا آخر. عموما لا يمكنني القتل مجددا".
قال فريدريك بحدة:"قتل".
قال بيرس:"قافلة الصيد. شيء هام حقا. ثلاثة سادة إنكليز، أحدهم مع خادمه الإنكليزي، وصياد أبيض ليعتني بالترتيبات. والصياد الأبيض رتب كل شيء، الجمال، والمستكشفين، والمؤونة، مثل قائد غاضب معظم الوقت".
صمت بيرس لحظة، تنفس بعمق، وجمع قواه وقال:"السيد توملينسون. جلس وحده في خيمته في المساء يخط بسرعة، ويكتب ذكرياته في مفكرة، دون شك. وكان السادة يضعونه في مواقف تثير السخرية، يدفعونه للجنون بتلميحاتهم وشكاياتهم. قابلت أحد هؤلاء السادة في عدن. كان اسمه ويثريل. ولا أعلم إن كنت تعرفه، فقد كان في الهند. وهو شديد الثراء". صمت بيرس مجددا بسبب انقطاع أنفاسه. وحينما تابع تكلم ببطء، على مراحل. قال:"كنت أتنقل في الحبشة لأربعة شهور وكان ويثريل مهتما جدا بمعرفة ذلك. وأراد أن يعلم إذا كنا سنتوغل هناك بينما ميلينيك يلاحق الإيطاليين ويطردهم. هو رجل فضولي رغم مهاراته في الصيد والركوب، ولديه خبرات ثقافية ملحوظة. أراد أن يتكلم عن رامبو، ويسأل هل ذكر اسمه أحد من الأحباش. ثم دعاني للمشاركة برحلته إلى الصومال. ولم أتمكن من المقاومة. كنت أشعر بالتحسن بعد رحلتي السابقة، أنت تعرف يكون هذا الشعور، أنك جاهز دائما. واعتبرني ويثريل ضيفه ولذلك لم أتحمل النفقات. كنت بحاجة من وقتي لثلاثة شهور أو ما يعادلها. ولم يكن هناك سبب ملح للإسراع بالعودة، كما أنني لم أسافر كثيرا في الصومال. فعلا لم أتمكن من مقاومة الإغراء".
قال فريدريك:"وهل قرأ أحد رامبو؟ وهل يقرأه أحد الآن؟ أعتقد أنه معروف في الوقت الحالي بصفة تاجر أسلحة وليس بصفة شاعر". وارتاح للتفاصيل التي ذكرها بيرس، وشعر بتبخر الشبهات التي رافقته في الأمسية السابقة. وحينها وصل هامس وقدم كعكة الأرز والفاكهة والقهوة، ووضع كل شيء على طاولتين صغيرتين أمامهما. وحينما كانا بانتظار أن ينتهي، أنشد فريدريك:
جارية مع السنطور
قابلتها مرة في الرؤيا،
كانت جارية حبشية
وبسنطورها عزفت الأنغام.
سأل فريدريك بعد انصراف هامس:"كم حذرتك من قطاع الطريق الأحباش بينما أنت تعتقد أنهم أخوتك بالدم. ماذا كنت تفعل في الحبشة، هل بمقدوري أن أعلم؟".
اهتم بيرس بكعكة الأرز، وانحنى ليتأملها بعناية، ثم هز كتفيه وقال:" السفر، العمل على كتاب. أنا مؤرخ، شيء من هذا القبيل. في الحقيقة لي الحق في هذه الهواية. أقمت لمدة عام في مصر، وعملت في التعليم. وقطعت وعدا أمام نفسي أن أتجول في الحبشة، فالوقت قد حان لأتابع حياتي. وكنت مهتما دائما بالحبشة، منذ صباي. وأردت أن أرى كيف تبدو، وكيف يكون رنين حروف لغتها".
قال فريدريك:"مستشرق".
ابتسم بيرس. قال:"ربما بعد أن أوسع معارفي".
قال فريدريك:"نعم، تابع من فضلك".
لفت انتباهه تحفظ بيرس حول الحبشة. ربما كان جاسوسا على أعلى المستويات، ويعد تقريرا عن الحبشة لموظف رفيع في وزارة الخارجية. وربما أصاب ويثريل حين اشتبه أننا ننوي الدخول إلى هناك. لكنه لم يكن معجبا بالحبشة.
سأل بيرس :"هل تسمح لي؟". واقتطع شريحة من كعكة الأرز. مضغها ببطء، مستغرقا ما لزمه من وقت، وكان يومئ برأسه متلذذا.
قال: "لذيذة، نكهة واضحة. لها طعم الهال والخميرة. لا يمكن أن تتخيل كيف يبدو ذلك بعد محنتي في الأسابيع القليلة المنصرمة".
صب فريدريك القهوة وانتظر حتى شرب بيرس عدة رشفات. كرر:"تابع من فضلك". ومال إلى الخلف وبالغ بشحذ حواسه ليسمع كلامه.
قال:"ركبنا السفينة من عدن إلى برافا في كانون الأول. واستغرقنا أياما طوالا في الإبحار الممتع، كانت أجمل مرحلة من السفر. الرياح شمالية شرقية مستقرة. ثم تابعنا إلى الصومال مع التيار ودرنا حول القرن. أقمنا في برافا لعدة أيام وانطلقنا إلى ضيف. وهي بلدة يختلط فيها جيش صغير من الرجال والحيوانات، مسلحين كأنهم جاهزون للغزو. واستغرقنا أربع أسابيع نقتل ونذبح في جنوب الصومال. كانت مذبحة تفوق الوصف. نقتل يوميا. أحيانا أربع أو خمس أسود في اليوم، وفهودا وخراتيت ووعولا. وغرقنا جميعا برائحة الدم والأحشاء. واللحوم الميتة والمخابئ الجافة. كان الذباب يحط علينا كما لو أننا جيفة. تناولنا الكثير من اللحوم المتفحمة حتى أن الهواء المختلط بأنفاسنا ومخلفاتنا سبب لنا الغثيان. حينما وصلنا إلى ضيف أخبرت ويثريل أنه لا يمكنني المتابعة. ثار غضبه، وحذا حذوه أصدقاؤه. كانوا في كتيبة فرسان معا وأفترض أنهم اعتبروا أن قراري ليس تصرفا رجوليا. ورفض ويثريل فكرة انسحابي. قال إنني سأواجه المخاطر حتما، وهو غير جاهز للتخلي عن أي رجل لحراستي. وتبدلت الخطة، وتوجه ويثريل مع فريقه إلى أوغندا لصيد الفيلة. كنت أتشاحن مع ويثريل يوميا. هو أيضا لم يشعر أنه بحالة حسنة، لكن رآني أضعف منه. وفي النهاية أقنعته. فقد تابعنا الإطلاق والقتل ونحن بطريقنا نحو الجنوب الغربي حتى وصلنا إلى تانا. وهناك اعتقد ويثريل أنه يستطيع أن يسمح لي بالعودة، أو على الأقل أن أذهب إلى الشاطئ الشرقي. وطلب من الدليل اختيار ثلاثة رجال لمرافقتي. وحالما وصلنا الشاطئ، أجروا حسابهم، ووجدوا أن الخماسين ستهب على الجنوب الغربي بغضون شهرين، ويصبح بمقدور الرجال العودة إلى برافا. وبعد ذلك أستطيع أن أذهب إلى الشيطان".
قال فريدريك:"نعم، أنت محق. الرياح تبدل هبوبها سريعا كما أرى". وافق بيرس بإيماءة من رأسه. وقال:"لم يكن الحراس المرافقون لي مرتاحين لواجبهم. ولا أعرف لماذا تحديدا. كنت أفهم القليل من اللغة الصومالية، القليل جدا. وتعلمته في الطريق، أنفقت بعض الوقت مع أحد الرجال. كنا نتحاور لساعة أو ساعتين في اليوم، وحينما تكلمت مع رجالي لم يفهموني. ولاحظت الخطر والغدر في وقت مبكر. لكن في الحقيقة لم أتوقع أن يهجروني أو يقتلوني. أخبرني ويثريل أن الاحتمال وارد. فهو يعرف رجاله، وهو من جندهم. غير أن كرامتهم لا تسمح لهم بالخيانة. وعلى الأرجح تأثروا بشيء أقوى من ذلك. خطر متوقع ويخشونه. واضطرارهم للسفر إلى الشاطئ كان أكبر من مشاعر عزتهم وكرامتهم، وبناء على ذلك هجروني قبل أربعة أيام من ظهوري في بلدتك الرائعة".
قال فريدريك:"الصوماليون أكثر المتمردين وضاعة يا عزيزي بيرس. لم يهجروك فقط بل سرقوك وتركوك في الصحراء لتموت. وعليك أن تعتبر أنك محظوظ لوجودك هنا".
قال بيرس: "لا فكرة عندي عن ذلك. أقصد أنهم متمردون أنذال. يوجد من يقسم بشرف الصومالي وتقواه. ويثريل تقريبا قال ذلك. لديهم كلمة شرف أو شيء من هذا النوع. ولكن خذله هؤلاء الرجال البسطاء. وربما ستسوء سمعتهمبين بقية الصوماليين لأنهم هجروني. مع ذلك لم يتركوني في عمق الصحراء كما تعلم..".
سأله فريدريك وهو يباشر بالنهوض من مقعده:"وكيف أنت الآن يا صديقي العزيز بيرس؟". ولاحظ الدموع تنبثق من عينيه وهو يقول:" توقعت أنهم سيقتلونني. هذا ما فكرت به أولا. ثم حين تركوني هناك توقعت أن عابر سبيل سيقتلني، أو سيهاجمني وحش مفترس، أو سألقى حتفي من العطش والتعب. توقعت حدوث أي مصيبة كانت. هذا كل شيء. وتمنيت أن أبقى حيا. نعم. أنا على ما يرام. نعم. أعتبر نفسي حسن الحظ لأنني هنا. وأنت ترى السعادة على وجهي".
قال فريدريك:"وفر على نفسك المزيد من المنغصات يا بيرس. لا شك أنك مرهق جدا".
وسكب له كوب قهوة آخر.
قال:"فعلا. واسمي مارتن. ورجاء نادني به. ويجب أن أشكر من أنقذني".
قال فريدريك:"أنت مارتن منذ الآن". ورفع كوبه ليشرب على شرف صديقه. أضاف:"لكن عليك بالحلاق ثم الغداء وبعض الراحة. لا يوجد ضرورة للعجلة".
***
............................
* عبد الرزاق قرنح Abdulrazak Gurnah
كاتب بريطاني من زنجبار. أصوله يمنية. حاز على جائزة نوبل عام 2021.