دراسات وبحوث
إشكاليّات قراءة التراث عند طه عبد الرحمن
أسهم الفيلسوف المغربي طه عبد الرحمن الحاصل على جائزة الإيسيسكو في الفلسفة والفكر الإسلامي عام 2006 من خلال سلسلة من الأعمال الفكرية منذ سبعينيات القرن العشرين في المنهجيات الحديثة في التحليل النصي والدرس التأويلي للنصوص، انطلاقا من قناعته بضرورة تجديد النظر في كثير من المفاهيم المنثورة من حولنا، فحصا ونقدا وتصحيحا وتنقيحا للخروج من تيه الأفكار الذي نعيشه، "والتيه في الفكر كالتيه في الأرض؛ إذ لا أهداف يعلمها التائه يقينا حتّى يتّجه إليها؛ ولا وسائل يملكها حقًّا حتى توصِّله إلى هذه الأهداف؛ والتِّيه الفكري الذي أصابنا ينطق به حال الشتات الذي يوجد فيه أهل الفكر بين أظهرنا؛ وهذا الشتات ألوان شتّى: شتات في المكان؛ فلا رواق يُظلّهم، ولا مجلس يضمّهم، ولا ملتقى يشملهم، ولا دار ندوة تؤويهم. وشتات في الزمان؛ فلا حضور في عالم القرار لأفكارهم، ولا أثر في أفق المستقبل لمواقفهم، ولا تحاور بين أفراد الجيل الواحد منهم، ولا تخاطب بين مختلف أجيالهم. وشتات في الأفكار؛ وهو أسوأ ألوان الشتات؛ فهذا واقع تحت طائلة التقليد، داعياً إلى الترديد والانكماش؛ وذاك واقع تحت طائلة التنميط، داعيا إلى التكيُّف والاندماج؛ وهذا يتشبّث بكل قديم خوفًا على فقدان الهوية؛ وذاك يتقلّب مع كل جديد، طمعا في التحقّق بالغيرية؛ وهذا كل يوم في إشْكال، فتارة يندمج وتارة ينكمش، وتارة بين بين، وذاك لا إشكال عنده، يفكّر لساعته لا يعدوها؛ لكن على تباينهم درج كلُّ واحد منهم على أن يفكّر مذكيا لنفسه، وهيهات أن يفكّر معترضا عليها! والحق أنه لو اشتغل بالاعتراض على نفسه، لأدرك أنه في تيهٍ عظيم، ولا سبيل للخروج منه إلا بالاهتداء إلى الأهداف الصالحة والوسائل النافذة".(1) وهذا ما دفع طه عبد الرحمن إلى الوقوف أمام علاقتنا الحتمية بالتراث على مستوى تصوّر موضوعه ومنهج قراءته، "فنحن في التراث كما نحن في العالم لا اختيار لنا معه ولا انفصال عنه".(2)
والتراث عند عبد الرحمن "عبارة عن جملة المضامين والوسائل الخطابية والسلوكية التي تحدّد الوجود الإنتاجي للمسلم العربي في أخذه بمجموعة مخصوصة من القيم القومية والإنسانية حيّة كانت أم ميتة".(3) ودائرة مصادر التراث الإسلامي العربي ليس مقصورة عنده على اجتهادات المسلمين بل تمتد؛ لتشمل النص الديني المؤسِّس مستندا في ذلك إلى "قول الله عز وجل: أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا (فاطر: 32) فمفهوم التراث موجود في هذا النص الديني، فالقرآن والسُنّة هنا إرث للمؤمنين، أي يندرجان في تراث المسلمين."(4) غير أنّ هذا التصور لا يخلو من إشكاليتين: الأولى اتكائه على الدلالة اللغوية لكلمة الإرث في القرآن الكريم؛ لتحديد مفهوم التراث متجاهلا أنّ المفهوم في التداول الإسلامي اكتسب أبعادا ثقافية أكثر تعقيدا من الدلالة اللغوية للفعل "ورث" الذي لا يُشير في القرآن الكريم سورة الفجر: 19 إلا إلى ما يتركه الميت من مال فيورث عنه، فالمادة اللغوية القرآنية الأقرب إلى مفهوم التراث في التداول الإسلامي هي المشتق "سنة - سنن" في إحدى مدلوليه في القرآن الكريم، وقد حملت مدلولين تبعا لقيد الإضافة، الأوّل: "سُنّة الله" فهي بمعنى القوانين الإلهية العامة الثابتة في الكون والطبيعة من جهة، والإنسان والمجتمع من جهة أخرى، والثاني: "سُنّة الذين خلوا من قبل" فهي المفاهيم والقيم والمعتقدات والتقاليد والمحددات للسلوك والأعراف التي كانوا عليها، فالسنّة بالمفهوم الثاني أقرب الدوال إلى مفهوم التراث.
الإشكالية الثانية: إدماج طه عبدالرحمن القرآنَ الكريم في بنية التراث يُضفي قداسة على التراث، وهذا - من ناحية - يختلف عن رأي مؤتمر الأزهر الأخير الذي أكّد في توصياته(5) على نفي القداسة عن التراث، وأنّ القرآن الكريم ليس جزءا منه، بما يؤسّس لفكرة قابلية التراث للنقد، كما يقودنا هذا الاختلاف حول مفهوم التراث بين عبدالرحمن والأزهر إلى تعدّد الصور الذهنية التي بُنيت حول "التراث" في فكر الإسلاميّين المعاصر، ومن ناحية ثانية يتنافى إدماج القرآن الكريم في بنية التراث مع طبيعته في كونه فكرا واجتهادا إنسانيا لا يتم بمعزل عن واقعه، فهو نتاج مباشر للمكان والزمان الذي أنتج فيه، ووفق الآليات المعرفية التي توفّرت له. كما أنّ التراث ليس معطى واحدا، بل هو متعدّد ومتنوّع، فلا يخضع لمنظومة فكرية موحّدة متجانسة، بل لمجموعة من الأنساق الفكرية المختلفة الرؤى والتوجّهات، ومن أمثلة ذلك الاختلاف حول تعريف "الإيمان" بين كونه قاصرًا على تصديق القلب وبين كونه مرتبطا إلى جانب تصديق القلب بالعمل (العبادات)، ومثل قضية المجاز في القرآن الكريم التي شهدت اختلافا وتنوعا في تراث الأشاعرة والحنابلة والمتصوفة والفلاسفة والمعتزلة وغيرهم... مما يجعل الباحث - شاء أم أبى - في حالة اختيار مع التراث الذي هو في واقعه متنوّع، فالباحث لا يقدّم التراث بالألف واللام الجنسية، وإنما يُقدّم اختيارا وموقفا من التراث.
وفي الوقت الذي نسلّم فيه بتنوّع وتعدّد مجالات واتجاهات التراث إلاّ أنّها تربطها بنية فكرية واحدة، يُمكننا الوقوف عليها من خلال اكتشاف العلاقات العضوية المُشكّلة لمختلف مجالات التراث من اللغة والنقد والبلاغة وعلم الكلام وعلوم القرآن وغيرها، وهذا ما أطلق عليه الدكتور طه عبد الرحمن "القراءة التكاملية" أو "مبدأ تكامل المعارف" احدى المبادئ التي انتهى إليها عبد الرحمن من طول اشتغاله على روح التراث الإسلامي، على حدّ تعبيره، "فلو أنّ الغرب أخذ بمبدأ "تفاصل" أو تباين المعارف، فالمعرفة الإسلامية تتداخل أقسامها تداخلا كاملا، بحيث يبدو الفقه موصولا بعلم الكلام، وعلم الكلام موصولا بالفلسفة، والفلسفة موصولة بأصول الفقه؛ فقد حصل في التراث الإسلامي تداخل قويّ بين المعارف إلى حدّ أنّ بعض العلماء جمعوا بين الطب والفقه أو بين الفلسفة وأصول الفقه. فلا مفرّ لنا عن التكامل، لندخل إلى الحداثة محتفظين بعلاقتنا مع التراث الذي لابدّ لاستئناف النظر فيه من البحث عن الحبل السري الذي يمكن أن يربط بين الإبداع والنهضة في لحظة من لحظات الفعل الحضاري"(6)، وفي هذا الإطار تنوّعت كتابات عبدالرحمن بين التأسيس لقراءة تكاملية اعتمادا على آليات التداخل المعرفي، والتقريب التداولي ونقد الخطابات التجزيئية والتفاضلية في قراءة التراث.
تنوّعت كتابات عبد الرحمن بين التأسيس لقراءة تكاملية اعتمادا على آليات التداخل المعرفي، والتقريب التداولي ونقد الخطابات التجزيئية والتفاضلية في قراءة التراث
وقد فسّر تلك المظاهر التجزيئية بأنّها وليدة تقويم يغلب عليه الانشغال بمضامين النص التراثي، ولا ينظر البتّة في الوسائل اللغوية والمنطقية التي أُنشئت وبُلِّغت بها هذه المضامين".(7) فميّز عبدالرحمن بين نظرة جزئية تفاضلية لا تتجاوز في دراستها المضامين المعرفية للتراث بوسائل تجريدية وتسيسيه منقولة مع نسيان الوسائل التي عملت في تأصيل وتفريع هذه المضامين التراثية، وبين نظرته هو القائمة على الشمولية التكاملية غير التجزيئية للتراث بوصفها منحى غير مسبوق، لكنّ الواقع المعرفي يُشير إلى أنّ من الباحثين من شارك عبدالرحمن بدايات ظهور هذا المنحى (القراءة التكاملية للتراث) منها الدراسة المبكّرة في مسيرة جابر عصفور عن "الصورة الفنية في التراث النقدي والبلاغي" التي قدّم فيها قراءة للنقد والبلاغة في ضوء علاقتها بعلوم التراث كلّها من فلسفة وعلم الكلام وتصوّف وتفسير وعلوم القرآن وغيرها في أوائل سبعينيات القرن الماضي، كما لم يكن ارتياد الجابري أو أركون أو أبو زيد وغيرهم مجال الدراسات التراثية مقصورا على المضامين بل ركّزوا على بنية العقل المنتجة للتراث وأدواته الاستدلالية واللغوية في محاولة لاكتشاف التراث في سياقه التاريخي الثقافي الفكري.
وإذا انتقلنا إلى منهجية عبدالرحمن في قراءة التراث بوصفها الإشكالية التي تُميّز العقل "المتسائل" من العقل "المذعن" والعقل القادر على إنتاج المعرفة من العقل الذي يُلوّن المعرفة، أو يكرّرها، فسنجد أنّها لا تنتمي إلى العقلية الأصولية الرافضة للتجديد بشكل عام والحداثة بوجه خاص تلك التي تُؤمن بكفاءة السلف العلمية وكفاية المرجعية السلفية العلمية التي أخذوها عنهم، داعين إلى القطيعة المعرفية مع الغرب العدوّ الذي يرونه معرفيّا وسياسيا وحْدة واحِدة لا تتجزأ، فيتطابق المعرفي الفكري مع السياسي في العقلية السلفيّة الأصوليّة المشبعة بفكرة المؤامرة، إلاّ أنّ عبدالرحمن تأثّر بالفكر السلفي في التركيز على خصوصية العقل المسلم وخصوصية المعرفة التي يُنتجها، فلا يتعامل مع العقل المعرفي بالمعنى الإنساني العام...
ومن جانب آخر، لا ينتمى منهج عبد الرحمن إلى الحداثة العربية التي رأى في تقليدها للغرب نقيضا لفكر الحداثة القائم على الإبداع، فمثّل تعاطِي الحداثيين العرب مع التراث - من منظوره - أحد مظاهر أزمة علاقتنا مع التراث في مستوى تصوّر موضوعه ومستوى منهج قراءته، فعلى مستوى الموضوع تمّ التعاطي مع التراث بطريقة تجزيئية، وعلى مستوى المنهج خرجت عن المقتضيات المنطقية والمنهجية في المعالجة، "فاستندت إلى أساليب أقل ما يُقال فيها بأنها تعسفية، لم تتردّد في أن تُسلّط على التراث بعض المقولات الماركسية أو البنيوية أو التفكيكية؛ وهكذا، كان الباحث يتقلّب بتقلّب الأدوات التي كان يستخدمها الغرب، فيقوم باستنساخها وتطبيقها على التراث؛ وقد أزعجني هذا الأمر كثيرا، وجعلني أنظر إلى هذا الأعمال على أنّها لا تعدو كونها تمارين يتدرّب فيها العربي على استعمال هذه الأدوات المقتبسة؛ لذلك رغم تقديري لهذه المنهجيات الغربية، ورغم اعتباري للنتائج التي توصّلت إليها في تراثها الأصلي وفائدتها في الوصول إلى نتائج مهمة بالنسبة للدراسات الغربية، كنت لا أرى مثل تلك الفائدة بالنسبة لنقلها إلى التراث الإسلامي العربي؛ فقلت في نفسي لا بدّ من إيجاد منهجية تناسب خصوصية تراثنا، ولا تكون واردة من خارجه أو مسلَّطة عليه بتعسّف بل لابدّ لهذه المنهجية النقدية من أن تنبعث من الداخل؛ فالمطلوب إذًا هو أن نستمدَّ المنهجية التي نقوّم بها تراثنا الإسلامي العربي من التراث نفسه".(8)
فقراءة النص التراثي عند عبدالرحمن قائمة على "مطالبة النص بالتدليل على وسائله أو مضامينه"(9) بأدوات مأصولة، وليس بأدوات منقولة، واختار من بين تلك الآليات والوسائل الاستدلالية واللغوية التي أنشأت المضامين التراثية آلية أطلق عليها "المناظرة العقلانية" أو "العقلانية الحوارية" انطلاقا من أنّ الأصل في الكلام هو الحوار، فحقيقة الكلام الذي تكلّم به الإنسان الأوّل كانت حقيقة حوارية؛ فالحوار موصول بالفطرة بالوجود بالروح، ثم دخلت فيما بعد على الحوار تهذيبات وتقنيات وضوابط محدّدة... والحوار له أهمّية آلية وداخلية وخارجية.. فعلى المستوى الآلي يعطيك الحوار حقوقا ويوجب عليك واجبات، إذ يعطيك حق الاعتقاد والقول فتبدي الرأي الذي تريد، ويعطيك حقّ انتقاد الرأي والاعتقاد المخالف، كما يوجب عليك أيضا واجبات فمن اعتقد شيئا وادّعى دعوى لابد من أن يستدلّ عليها؛ أي يتولّى بنفسه تقديم الأدلة على صحة دعواه واعتقاده، كما أنّه لا بد للمنتقد الذي يُطالب بالأدلة من أن يستمع أولا إلى أدلة المدّعي قبل الدخول في الاعتراض على دعواه؛ وعليه فإنّ الحوار هو مجال لممارسة القوة الاستدلالية للإنسان فعن طريقه يمكنك أن تظهر قوتك العقلية وقدرتك الاستدلالية، فالحوار هبة إلهية للإنسان تُمكّنه من تطوير أساليب استدلالاته على الأشياء. وعلى مستوى الأهمية الداخلية والخارجية، فإنّ الحوار يعود بك إلى الأصل، وهو أنّ الإنسان ليس مفردا بل هو جمع، هو "ذات" و"غير" في الآن نفسه، بدليل أنّ الإنسان قد يحاور ذاته كما يحاور غيرها، فالحوار فرصة لمعرفة الغيرية أو الآخرية، وممارسة لمعرفة الذات من حواري مع الآخرين، فالحوار تحقيق للإنسانية بالتعرّف عليها وتنمية للقوّة الاستدلالية.
وليست "العقلانية الحوارية" عند عبد الرحمن منهجا لتصحيح المعرفة فحسب، بل وسيلة لتحصيل المعرفة والزيادة فيها أيضا؛ فالحوار أصلا هو البحث المشترك طلبا للصواب، سواء ظهر هذا الصواب على يد هذا الجانب المعتقد أو المدّعي أم ذاك المنتقد أو المعترض، فهو بخلاف الجدل القائم على طلب الغلبة والنصرة على الخصم. غير أنّ آفة الحوار في مجتمعاتنا الغضب، فيقول شخص قولا أو يرى رأيا فيتصدى له الآخر قائلا: "لا، رأيك غير صادق، والرأي الصواب هو كذا وكذا"، وهذا ينافى قواعد التناظر الذي يتطلّب السماع للرأي المخالف ومنحه فرصة عرض أدلته ثم أبدأ ليس برفض رأيه أو عرض رأيي بل بإبطال أدلته واحدا واحدا ثمّ بعدها أعرض رأيي المناقض له، فالأصل أنّنا لا ندخل الحوار إلاّ لنُبين لغيرنا أدلتَنا على صحة ما ندعيه، وليس لمجرّد إرسال الكلام على عواهنه، وليس الحوار أن أقول قولا وأن أترك الآخر يقول ضده. والآفة الثانية غياب اللغة التوصيلية الجيدة فخسر الفلاسفة المسلمون معركة الحوار؛ لأنّهم كانوا على خلاف المتصوّفة ينقصهم الكفاءة التبليغيّة، فكانت لغتهم غير توصيلية تكاد لا تبين؛ فتكلموا لغة عربية مشوهة بالترجمة الحرفية، فجاءت العبارات قلقة ركيكة مما جعل الأفكار مستغلقة على الأذهان، وهذا ما جعل الشروح تتسلسل ولا تنتهي يحاول الشارح تلو الآخر رفع ذلك الاستغلاق كل على قدره.(10)
ليست "العقلانية الحوارية" عند عبد الرحمن منهجا لتصحيح المعرفة فحسب، بل وسيلة لتحصيل المعرفة والزيادة فيها أيضا.
وهذا ما جعل عبدالرحمن يرى أنّ تأسيس حداثة بنسخة إسلامية لا يتمّ إلاّ بواسطة مدخلين أساسين؛ أوّلهما مدخل الترجمة المبدعة، وثانيهما: مدخل القراءة الحداثية للقرآن الكريم المصدر المؤسّس الذي ولَّد التراث الذي بين أيدينا، فالدخول إلى الحداثة يحتاج قراءة جديدة مبدعة للقرآن بالمعنى الإنشائي والجمالي، وتلك القراءة الحداثية للقرآن - من منظوره - أبعد ما تكون عن قراءة الحداثيين للقرآن الكريم التي تأثرت بالغرب في تعامله مع الإنجيل بخطط ثلاث للقراءة: الخطة الأولى أطلق عليها خطّة الأنسنة وهي محاولة ردّ النص الإلهي إلى نص إنساني، فيحاولون أن ينقلوا النص من شروطه الإلهية إلى شروط إنسانية بنقل الآيات القرآنية من الوضع الإلهي إلى الوضع الإنساني، والغاية من ذلك هي محو القدسية عن النص الديني؛ وخطة الأرخنة هي وصل النصوص بسياقها التاريخي وبظروفها، والغاية من ذلك هي صرف الأحكام التي جاءت في النصوص الدينية؛ أي صرف ما اصطلح على تسميته بالحُكمية أي صلاحية الأحكام لزمان آخر غير الزمان التي وردت فيه؛ إذ يحاولون أن يرفعوا عن النص القرآني قيمته الحُكمية، حيث تفقد الأحكام قيمتها الإجرائية، فضلا عن قيمتها التشريعية، سالكين طريقا يُخرج هذه الأحكام من مستواها التشريعي المحض إلى مستوى يتجاوز هذا التشريع تاريخيا. ويتجاهل أصحاب هذه الخطط أنّ فرقا بين تراثنا الديني والتراث الغربي، وهو أنّ تراثنا باستمرار فاعل فينا ولو على أقدار مختلفة، وخطّة العقلنة وتعنى تطبيق الوسائل العقلية المستخدمة في المجال العلمي على النص القرآني، وهذا يصرف أثر الغيبية عن النصوص القرآنية، وإقصاء كل ما له دلالة على اللامحسوس واللامعقول (بالمعنى العقلي الحداثي كما حدوده)؛ فكلّ ما يوجد في النص من مضامين غيبية، يعملون على إزالتها باعتبار أنّ هذا الغيب لا يمكن أن نراه أو أن نحسّه، وخطؤهم يكمن في أنّه ليس كل ما لا نراه أو لا نحسه، يلزم بالضرورة أن يبقى كذلك حتى بالنسبة إلى المستقبل القريب أو البعيد.. فالحداثيون العرب يردّون النص القرآني إلى ما هو بشري وعقلي وتاريخي، حيث يصبح مجرّد نصّ من إنتاج العقل العربي، ولم يفعلوا ما فعلوه متوسّلين بآليات ابتكرتها قرائحهم، حتّى يستحقّ أن يكون اجتهادا منهم، ولو أنّه اجتهاد باطل! وإنّما نقلوا وسائلهم النقدية عن الغرب، ونزّلوها على النص القرآني بتقليد أعمى واستنساخ مطلق؛ فكلّ ما وضعه علماء الغرب لدراسة نصوص الكتب المقدّسة -أي التوراة والإنجيل- من مناهج مقرّرة، وما توصلوا إليه من نتائج محددة، أخذه العلمانيون العرب وأنزلوه على القرآن الكريم بخصوصيته المسيحية وبتفاصيله السياقية والتاريخية التي تخص الممارسة الغربية للدين... فليس لهم القدرة على تمثّل الأدوات الإجرائية، واستيعاب المنهجيات العلمية التي وضعها الغرب، بل يسقطون هذه الآليات على تراث الإسلام دون نقد أو تمحيص لها."(11)
وقيّد عبدالرحمن الاستفادة من المناهج المعاصرة بأن تكون لها جذور في التراث، وأن يتّفق المنهج مع طبيعة الموضوع التراثي الذي ستقوم بمعالجته، فيقول: "عندما أحدّد طبيعة الموضوع التراثي الذي أنظر فيه، ويتبين لي أن الآلة المنطقية مفيدة في بيان خصائصه، فإنّي أعالج عمل هذه الآلة المنطقية مفيدة في بيان خصائصه، فإنّي أعالج عمل هذه الآلة داخل النص لا من جهة خصائصها التي أقرّها التراث فحسب، بل يُمكن أن أتوسّل أيضا في هذه المعالجة بالمستوى المعرفي والمنهجي الذي وصلته هذه الآلة في العصر الحديث لقد استفدت كثيرا من تطور الأداة المنطقية كثيرا داخل النص التراثي وهكذا أكون قد استعنت بالآلة المنطقية التي حققت تطورا وتقدما خارج التراث لدراسة الآلة داخل التراث، باعتبارها خاصية مميزة له، وخير مثال على تشبع التراث بالآلة المنطقية هو عنايته بالمناظرة فمعلوم أن منهج المناظرة يقتضي دخول شخصين على الأقل في حوار على أساس الوصول إلى نتيجة غالبا ما تكون معرفية؛ فكانت المناظرة عند المسلمين بمثابة وسيلة لتحصيل المعرفة، ولم تكن وسيلة لحل المشكلات الاجتماعية والسياسية فقط كما هو حالها اليوم؛ ولقد أُهملت المناظرة عند المسلمين لسبب واحد هو تقليد الباحثين العرب للغرب في دراسة التراث؛ فلما لم تكن المناظرة عند الغرب بمثل القوة والتوسع في إنتاج المعرفة اللذين كانا لهما عند المسلمين، فإنهم لم يولوها في دراستهم التاريخية النقدية لتراثهم أهمية كبيرة؛ ولما جاء الدارسون العرب لتناول تراثهم، اتبعوا خطواتهم، فلم يعطوا للمناظرة أيّة قيمة في دارستهم، ولربّما هذا الوجه الذي يُسهّل وصله بالمعاصرة والحداثة. ويتدخّل مع آلية المناظرة العقلانية عند عبدالرحمن النقد المنطقي الذي جعله بديلا للنقد التاريخي في قراءة التراث، فهو من منظوره آلية من داخل التراث تشبّع بها إلى درجة كبيرة كما في أصول الفقه، والفقه، والبلاغة؛ "فكان للآلة المنطقية دور كبير في إنتاج المعرفة الإسلامية؛ لذلك، كان استخدامي لها في الكشف عن روح التراث الإسلامي المتمثلة في المقاصد والقيم والمبادئ التي بُنى عليها التراث وتحّكمت في عملية توليده وتطويره؛ فإذا استطعنا أن نقف على هذه المبادئ التي تحكم التراث وتشكّل روحه، فبإمكاننا من خلال هذه الروح أن نحقّق نتائج إيجابية في الربط بين التراث والمعاصرة حتّى نستأنف العطاء ونتصل بالمعاصرة".(12)
وتقوم قراءة التراث عند طه عبد الرحمن كسائر مشروعه الفكري على ثنائيات، فكما تقوم الأخلاق من منظوره على ثنائية بين الهيئات والأفعال الروحية والظاهر والباطن، وتقوم الحداثة عنده على ثنائية بين واقع متمثل في تطبيقاتها وروح متمثلة في قيمها ومبادئها، كذلك يقوم التراث على ثنائية بين ذاكرة معرفية وروح أنتجت تلك المعرفة، فإعادة الماضي على مقتضاه القديم يستحيل عقليا وتاريخيا؛ لكن ما يمكن أن يُعاد من الماضي هو روح التراث الإسلامي متمثلة في استلهام القيم الإنسانية والأحكام الشرعية القطعية التي تخدم الإنسانية التي لا يمكن نهائيا أن تموت مع مرور الزمن، فالتراث يبقى في الذاكرة التي فيها الميّت والحي، فهناك قيم داخل التراث لم يعد من الممكن اليوم الدخول بواسطتها إلى الحداثة. فيؤسّس عبدالرحمن بذلك لعلاقة تفاعلية بين التراث والحداثة داعيا إلى الأخذ بروح الحداثة التي تكمن في مجموعة القيم والمبادئ التي علينا أن نبحث عنها دون أن نتوقّف أمام واقعها الذي ينقله البعض نقلا حرفيا، فهم تقليديّون، وإن ادعوا الحداثة، ولا أن نرفضها ونراها كفرا، فالحداثة أن يكون الإنسان حاضرا مبدعا في عصره لا في زمان غيره، فنستعيد من أسلافنا قدرتهم الإبداعية في الأخذ من اليونان واللاتين حتى نكون حداثيين، واستكمل الدكتور طه عبد الرحمن مجملا روح الحداثة في ثلاثة مبادئ، الأول: ألا تقبل بوصاية أحد على تفكيرك، ورأى أنّه ليس حداثيا فحسب، بل تراثيا يتّفق مع التصوّر التداولي الإسلامي لا رشد مع تقليد. والمبدأ الثاني: الفكر النقدي أن تكون لك القدرة على الاعتراض على ذاتك وغيرك وعلى الأشياء من حولك، فالاعتراض ليس محدودا بل هو شامل واسع. المبدأ الثالث الشمول، فالحداثة تنتشر في المجتمعات والمجالات كلّها، ولا يمكن حصرها في مجتمع مخصوص، ولا مجال مخصوص، فلا قطيعة بين الحداثة والدين أو الأخلاق فهي الروح التي ينبغي أن نأخذ بها اليوم، ونتوسّل بها كغيرنا من الأمم في تحقيق نهضتنا. إذا أردنا أن نصل التراث الإسلامي بالحداثة اليوم أو بالمعاصرة، فإنّنا في حاجة إلى الاستفادة من الصفات خاصة والمبادئ المميزة التي يقوم عليها التراث وهو ما أسماه ه بـ "مبدأ التداول"، ويقصد به أنّ التراث الإسلامي أو الحضارة الإسلامية كانت دائما تستوعب الوافد عليها أو المنقول إليها استيعابا يُخضعه للقيم المعرفية والقيم اللغوية والقيم العقدية الخاصّة به، فالتراث العربي لديه قدرة متميّزة على تحويل المنقول من ثقافة أخرى إلى مضمون يوافق مقتضيات وقيم الإسلام، فكلّما ورد علينا مضمون حداثي أو مضمون عصري أو مفهوما أو حكما تعيّن علينا أن نخضعه لهذه المقتضيات التداولية التي اختصّ بها التراث الإسلامي من قيم عقدية ولغوية ومعرفية.
فـ"الحداثة ليست في تجاوز المصادر الأصلية للتراث، وإنما أن نجدد استخدامنا لهذه المصادر، فنولد منه تراثا غير مسبوق نضيفه إلى ما سبق... وأدعو هؤلاء إلى قراءة حداثية مبدعة حقا تستجيب لما يبتغون هم، ولكن على الوجه الذي يجب وحيث يجب؛ فهم يريدون أن يرفعوا القدسية، فيمكن أن نرفع هذه القدسية حيث ينبغي، إذ يكفى أن نستبدل مكان هذا المقصد مقصدا آخر أوسع منه مثل "تكريم الإنسان" ومتّى كرّمنا الإنسان، تعين رفع القدسية عن الاجتهادات التي لم تعد صالحة لسلوكه ولا خادمة لوجوده؛ وعلى هذا ينبغي أن تغير المقاصد والغايات التي وظفها أهل التقليد لرفع القداسة ورفع الغيبية ورفع الحكمية، وأن نضع مكانها مقاصد أخرى تعمها وتحفظها جزئيا حيث أصابت، وفي المجالات التي يجب أن تحفظ فيها."(13)
وفي الوقت الذي أقرّ عبدالرحمن التفكير النقدي كأحد مبادئ الحداثة شكّك عبد الرحمن في جدوى القراءات النقدية للتراث، ورأى أنّها ليست سوى صدى لقراءات الغرب النقدية لتراثه الكنسي، مؤكّدا أنّ الغرب في بداية النهضة الأوروبية لم ينتقد التراث، بل عاد إلى التراث اليوناني دون نقد، وكان النقد للتراث الكنسي والسلطة الكنسية، وكان الغرب يعتبر تراثه جزءا من هويته، فاشتغال الغرب بالتراث كان تأييدا لمقوّماته وإحياء لقيمه، بينما أهل الاشتغال بالتراث على أساس مبدأ الحداثة من العرب تولّوا نقد التراث؛ لينتهوا إمّا إلى إلقائه كلّيّا والدعوة إلى الانفصال عنه، بحجة أنه لا يمكن أن ندخل عصر الحداثة إلا بتطليق هذا التراث تطليقا، لا رجعة فيه، وبعضهم رجع إلى ما يراه مقبولا من التراث، وهو نصوص الفلسفة اليونانية التي نقلت إلى العربية فهو مقبول عندهم من حيث كونه جانبا موصولا مع التراث اليوناني، وحاول بعض الحداثيين العرب البحث عن المفاهيم الموجودة في الحضارة الغربية مثل العقلانية في التراث بشكل انتقائي، فاتجه الأغلبية نحو التراث المعتزلي واعتبروه نقطة الانطلاق، وهذا تعاطي تجزيئي مع التراث ينتهى إلى ترك أغلب التراث، أو تنتهي إلى الانقطاع كليا، فالبحث عن مفاهيم موجودة في الأصل عند الغرب وفي ثقافته وتسليطها على التراث الإسلامي في شكل استنساخ لها من غير القيام بنقدها وتمحيصها، بل من غير التمكن من آلياتها هو أمر يتعارض مع مقتضيات البحث العلمي: فكم من مفاهيم أخذ بها الدارسون للتراث لم يتمكنوا من ناصية إجراءاتها ومن طرق استثمارها في التراث مما أفضى إلى نتائج فاسدة عن التراث.(14)
ولا تخلو منهجية عبدالرحمن في قراءة التراث من جوانب نتفق معها ونُؤسّس عليها، وجوانب أخرى نختلف معها ونُعيد التفكير فيها، فمن إشكاليات منهاجيته في قراءة التراث التعالي به عن النقد بزعم خصوصية الأدوات التي أنتجت مضمونه، وأنه لا يستقيم إخضاع مضامين التراث لأدوات تمّ إنتاجها في غير بيئته، ورأي في اعتماد العقل الحداثي على آلية نقد النصوص تقليدا للدراسات الغربية في محاولتها رد النصوص إلى سياقاتها التاريخية المنتجة لها، فهو يعتقد اعتقادا جازما بأنّه لابدّ من أن يقوّم التراث ويُنقد بحسب الأدوات التي استخدمت في إنتاجه، حتى يُعرف هل استوفى شرائط هذه الأدوات أم لم يستوفها.. وأنّه لا يجوز الاعتماد على أدوات أخرى لم تُنتج مضمونه إلاّ على سبيل المقارنة لا على سبيل التحقيق. فشكّك في جدوى قراءات الحداثيين للتراث، ووصفها بمحاولات تنقية أو استصلاح أو عقلنة للتراث، باعتبار أنّ قسما قليلا منه فقط ينسجم في رأيهم مع روح العصر، فقراءات الحداثيين للتراث قراءات مقلدة، وليس لها من الحداثة شيء؛ لأنّها تنقل وسائل وأدوات تخص الغرب وحضارته وتاريخه، وإن كان يتّفق معهم في حاجتنا إلى نهوض الإسلام إلى تجديد قراءة التراث، ولكنّه تجديد ينبغي أن نبدع فيه، فنأتي من عندنا بأدوات وآليات يحدّدها تاريخنا وتراثنا أي مجالنا التداولي الخاصّ بنا، فيتناقض عبد الرحمن مع نفسه حين يتحدّث عن الإبداع، وفي الوقت نفسه يُلزم بأن نستولد من التراث وسائلنا في تحديث هذا التراث، ويجعل القراءة الحداثية مقيّدة بما يجب وحيث يجب.. فما انتهى له الدرس اللغوي الحديث مثلا ليس نتاج فكر إنساني عام يصلح لدراسة النصوص العربية، فيستعلى بنصوص وخطابات التراث عن الخضوع لتلك النظريات اللغوية الحديثة، ويرى أنّ أدوات ووسائل القدامى هي الأجدى في التحليل والفهم ليس لشيء سوى لتراثيتها.
إنّها الإشكالية التي تغلّب عليها الشيخ عبد القاهر الجرجاني، فتفرّد عن معاصريه بتجديد ما زلنا نحتفي به إلى يومنا، وعجزنا نحن عن مواجهة إشكالية المنهج فلا تعدو قراءاتنا للتراث عن كونها عكوفا على القديم نقلا وترديدا فحسب، وإذا كان عبد القاهر قد أفاد لا من جهود سابقيه فقط، وعلى رأسهم "القاضي عبد الجبار الأسد آبادي المعتزلي"، بل من إنجازات "أرسطو" اليوناني في كتابه "الشعر" و"الخطابة"، فإنّ واجبنا كباحثين معاصرين أن نفيد من إنجازات المناهج الحديثة المعاصرة في "اللسانيات" و"علم تحليل الخطاب" و"السميولوجيا"، و"السرديات" إنّ التخوّف من هذه المناهج في دراسة التراث بدافع الخوف من الخطأ يتنافى مع الإسلام الذي جعل للمجتهد المخطئ أجرين، والتخوّف منها بدافع من الوقوع في التبعية يعكس ضعفا في الثقة بالنفس، ويوهم بقداسة التراث وتعاليه عن كونه اجتهادات صاغها القدامى في الوقت الذي نُقرّ فيه بنفي القداسة عنه وقابليته للنقد، القراءة الواعية للتراث لا سقف يحدّها ولا شروطا تعوقها سوى "التمكّن" المعرفي أي تمام العلم بشروط وأدوات "المعرفة" والتمرّس بأدوات البحث ومناهجه حسب المواصفات التي وصل إليها التقدّم المعرفي في عصر الباحث. وليس معقولًا، ونحن في القرن والحادي والعشرين، أن نتمسّك بشروط وقواعد القراءة العلمية التي وضعها أسلافنا تمسّكا حرفيا، ونتجاهل تطوّر أدوات المعرفة في عصرنا هذا. "إذا كانت علوم اللغة والبلاغة وعلوم القرآن من العلوم الأساسية التي اعتبر أسلافنا -على حق- أنّ الإلمام بها شرط من شروط التأهُّل للاجتهاد والقراءة العلمية المنتجة. فهل معنى ذلك أن نتمسك بمستوى علوم اللغة والبلاغة في القرن الخامس أو السادس الهجريين، وأن نتجاهل مستوى التقدم المُذهل الذي تحقق في مجال هذين العلمين! لماذا لا نستفيد في المنجزات المتغيرة للعلم والمعرفة في قراءة النصوص اللغوية والخطابات الفكرية"!(15) لماذا عندما نتحدّث عن تناول التراث وفق أدوات منهج التحليل اللغوي الحديث مثلا نراها محاولات لإخضاع التراث لمنهجيات غربية ألم تكن لغة العلم لغتنا في عصور التألق الحضاري، لماذا ألصقناها اليوم بالغرب وجعلناها مرادفة له!
من ناحية ثانية، تتمحوّر مركزية التراث في مشروع طه عبد الرحمن في كونه وسيلة لتثبيت الهوية، وأداة لدعم الإبداع، "فلا إبداع بغير تراث ولا هوية بغير تراث إذ يكون التراث بمثابة المرتكز الذي يسمح للإنسان أن يستجمع قواه ليمتدّ في المستقبل، فالماضي هو عبارة عن نقطة ارتكاز للاندفاع بقوة إلى المستقبل... ففي الماضي وفي إنتاجه كل ما يمكن أن يمدّ المسلم بأسس تثبيت هويته ودعم إبداعه."(16) ويُعلل ذلك بأنّ الإنسان بطبعه كائن متّصل واتصاله يكون بالزمان والمكان، واتصاله بالزمان يجعله يربط الماضي بالحاضر والمستقبل معا؛ فلابد لكلّ إنسان، كيفما كان حاله، من أن يكون له امتداد فيما سبق وامتداد فيما سيأتي؛ فعنده حاجة ميتافيزيقية أو روحية إلى أن تكون ذاته موصولة؛ ووجوب هذه "الموصولية" هو الذي يدفعه إلى الاهتمام بالتراث، فإنه يرجع إلى حالة الاتصال بالماضي باعتباره مقوّما من مقوّمات ذاته؛ لذلك كان الماضي يمدّ الإنسان بشيئين أوّلهما الهويّة فهذا الاتصال يوفّر للفرد البعد الثقافي الذي يجعله يحدد ذاته، مدركا تميّزه عن باقي أفراد الإنسانية، ولعلّ هذا ما دفع عبد الرحمن إلى عدم التفكير خارج مجال التداول الإسلامي التراثي، على حد قوله: "إذا انتابني ولو للحظات الشعور بأنّني أفكّر بعيدا عن هذا المجال، سرعان ما أعود إليه وأغوص بكلّيتي فيه؛ لأستخرج ما يمكن استخراجه من الحقائق".(17)
تتمحوّر مركزية التراث في مشروع طه عبد الرحمن في كونه وسيلة لتثبيت الهوية، وأداة لدعم الإبداع.
نتّفق مع عبدالرحمن في أنّ الماضي، وإن كان قد انقطعت صيرورته ولم يعد فاعلا إلاّ أنّه ما زال يتحرّك من خلالنا في وعينا به وتفاعله - إيجابا أو سلبا - مع سعينا لبناء الحاضر واستشراف المستقبل، غير أنّ التراث ليس هو الذي يُؤثّر في الحاضر على نحو أحادي الاتجاه فحسب، بل الحاضر أيضا يُؤثّر في التراث بالقدر نفسه، لأنّه ليس كيانا منفصلا عنّا، بل نحن مركز ذاك التراث نعيد تشكيله وفق الحاضر منه في عقولنا، لذا تتعدّد صور التراث بتعدّد العقول المستدعية للتراث، فكلّ قراءة للتراث ليست سوى محاولة لإعادة تفسيره من خلال الحاضر، ولا تبدأ تلك القراءة من فراغ بل من طرح أسئلة الحاضر التي تبحث لها عن إجابات داخل بنية التراث، ففي حالة الأسئلة المعلنة الصريحة الواضحة تكون آلية إنتاج المعرفة من التراث واضحة، وتكون القراءة قادرة على إنتاج وعي علمي بالتراث، وفي حالة السؤال المضمر تكون آليات القراءة مضمرة، وتكون القراءة للتراث مزيّفة للوعي متحيزة لموقف أيديولوجي، وإن تظاهرت بالموضوعيّة.
كما أنّ فكرة عبد الرحمن في التعامل مع التراث كجزء من الهويّة سرعان ما تتحوّل إلى كل الهوية في التداول الإسلامي، ومثل هذا الاختصار لهوية الإنسان في بعد واحد، وإن كان "الدين" فهو إشكالية كبيرة؛ لأنّ تلك الخصوصية المُغلقة تجعل الإنسان يحصر المعرفة في الدين، ويزعم امتلاكها، ومن تجلّيات تلك المشكلة أنّه وجدت جماعات تحتكر الإسلام، وتنسب نفسها وحدها إليه، والأدهى أنّها لا تحتكر جانب المعنى الديني فحسب، بل المعنى الاجتماعي والمعنى الثقافي والمعني السياسي، بالإضافة إلى المعاني الأخلاقية والروحية، ونصبت كل جماعة من نفسها سلطة حامية لفهمها الذي جعلته دينا.
ومن جانب آخر، يصبح الماضي بمثابة نقطة استقرار وجمود، فالاستغراق في الماضي هو أحد الأمراض الفكرية المزمنة للعقل المسلم التي تقتل فيها الإبداع أهمّ سمات المشروع الحداثي، فلا يتّبع مسار التطوّر الإنساني التقدّمي إلى الأمام، بل يقف عند نقطة من الماضي يريد الارتداد بالزمن إليها؛ بغية تطهير الحاضر بإعادته إلى الماضي، ويضيع الأفق المستقبلي بالارتداد إلى حلم الماضي، فنسعى إلى المستقبل ليس في نقطة زمن آتية، بل في نقطة زمنية ماضية، ويقتل الإبداع بالتقليد، وتتحوّل الحداثة إلى عمليّات طلاء مستمرة لتقديم الموروث التراثي في صورة الحداثي.
أخيرا إذا كان التراث الذي بين أيدينا تشّكل في مصنفات من خلال اللغة التي هي ظاهرة اجتماعية ثقافية وموجّهة إلى متلقٍّ اجتماعي تاريخي، فلماذا لا نقرؤه من خلال المناهج التي انتهى إليها الإنسان حديثا في تحليل النصوص اللغوية، لماذا نتعامل مع تراثنا ولغتنا كاستثناء! لماذا لا نفتح الباب للاختلاف في الفهم والقراءة والتفسير، الجهل لا يحارب بالجهل بل بالمعرفة العلمية التي تهدف إلى إطلاق حيوية البحث والتفكير وإعلاء شأن العلم في هذه الأمّة... إنّ وقوع بعض الدراسات في التعسّف على مستوى النتائج لا يقتضي رفض المناهج العلمية المتبعة في تلك الدراسات، وإنّما حصر الرفض في التطبيقات الخاطئة أو المتعسّفة في استخدام الأدوات المعرفية، وتظلّ جميع نصوص التراث نصوصا لغوية موصولة بالسياقات الاجتماعية والثقافية التي تشكّلت فيها، لا تكتفي القراءة العلمية الدقيقة باكتشاف دلالاتها في سياقها التاريخي الثقافي الفكري، بل تتعدّى ذلك إلى ضرورة الوصول إلى "المغزى" المعاصر للنصّ التراثي في أيّ مجال معرفي، وإذا كنّا في حالة خوف من ضياع الهويّة والقلق من حالة التبعيّة الثقافية الكاملة للآخر، فإنّ الوعي العلمي بحقيقة تراث وكيفية تكوّنه والعوامل التي ساهمت في حركته وتطوّره حتّى وصل إلينا سيُساعدنا على الصمود والتصدّي والمقاومة بل والتجاوز والتأسيس والمضيّ في البناء المعرفي.
***
بقلم عبد الباسط سلامة هيكل
....................
(1) د. طه عبد الرحمن (2013)، الحوار أُفقا للفكر، الشبكة العربية للأبحاث والنشر، بيروت، الطبعة الأولى، ص 7
(2) د. طه عبد الرحمن (2011)، حوارات من أجل المستقبل، الشبكة العربية للأبحاث والنشر، بيروت، الطبعة الأولى، ص 13
(3) ا. د. طه عبد الرحمن (1993)، تجديد المنهج في تقويم التراث، بيروت، المركز الثقافي العربي، الطبعة الثانية، ص 19
(4) السابق، ص 19
(5) توصيات مؤتمر الأزهر "قراءة التراث الإسلامي" موقع فيتو، القاهرة، 8 مارس 2018
(6) الحوار أفقا للفكر، ص 48
(7) تجديد المنهج في تقويم التراث، ص 75، 76
(8) تجديد المنهج في تقويم التراث، ص 237
(9) السابق، ص 81
(10) ينظر: الحوار أُفقا للفكر، ص 25: 37
(11) د. طه عبدالرحمن، روح الحداثة المدخل إلى تأسيس الحداثة الإسلامية، ص١٦١، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء/المغرب، الطبعة الأولى، 2006
(12) الحوار أفقا للفكر، ص 79
(13) روح الحداثة، 32، 33
(14) يُنظر: تجديد المنهج في تقويم التراث، ص 257: 237، روح الحداثة: ص 35: 54
(15) ينظر: د. نصر حامد أبو زيد، دوائر الخوف قراءة في خطاب المرأة، ص ص 7، 8
(16) الحوار أُفقا للفكر، ص 60
(17) السابق، ص 62