قراءات نقدية

صالح الرزوق: تحية وذكرى.. اسكوتلاندا وجيمس كيلمان

تعكس حالة الرواية الإسكوتلاندية نوعا من نمط الأدب الثانوي أو بعبارة أوضح أدب الأكثرية الثانوية. وأستعير هذا التعبير من دولوز وغوتاري كما ورد في كتابهما الشهير "نحو الأدب الثانوي" وموضوعه كافكا. ويبدو لي أن الإسكتلانديبن مثله.

فهم يكتبون بلغة غريبة، وهي غير لسانهم الأصلي الغيليك. ويعيشون في بلد يرتبط بالتاج البريطاني، وإن كان لدى بعضهم مشروع انفصالي على شاكلة استقلال الهند. ولو لا التجاور الجغرافي لوقع المحظور وأعلنت إسكوتلاندا انفصالها.

ولديهم رغبة بالتكامل مع الأوروبيين بعكس الإنكليز الذين يفضلون إغلاق أبواب قلعتهم.

ولم يحمل أعباء هذه الهموم أحد أكثر من حلقة أدباء غلاسكو. وأذكر من بينهم ألاسدير غراي وابنه الروحي روج غلاس. وأضيف طبعا كاتب البوكر، والذي كان أول من توج بها إسكوتلاندا عن روايته "كم تأخر الوقت. كم تأخر".

و برأيي كان يشير بالعنوان إلى الزمن الإسكوتلاندي وإلى نضج الهوية الغيلية وانبعاثها على غرار بقية القوميات والوطنيات في أوروبا وجنوب أمريكا.

تعرفت على كيلمان عن طريق صديقه الدكتور سكوت هايمس والذي خصص له بيبلوغرافيا شاملة. وأعتقد أنها أفضل مدخل يضيء لك كيلمان، أو جيمي كما يحب أن يدعوه، ومن الداخل.

فنور القلب مثل النجوم للبدوي في الصحراء. تقوده إلى مأمنه حتى لو لم يكن معه نار. وكيلمان لا يهتدي إلا بمحبته وغرامه لإسكوتلاندا، جغرافيا الأرض، وشكل القبة السماوية، وهي تنفتح وتغلق أبوابها بين الليل والنهار. ولمزيد من الإعراب عن انتمائه سمح لشخصياته أن تعبر عن نفسها بصوتها الخاص. فاختار الكتابة باللغة الثالثة. وهذه المرة أستعير هذا الاصطلاح من عميد المسرح العربي توفيق الحكيم. ويضاف إلى ذلك الأخطاء الإملائية المتعمدة ليطابق بين الحرف وصوته المقابل. وبهذه الطريقة شق كيلمان لنفسه طريقه. وكان يحرص على تعديله بين عمل وآخر حتى وصل إلى لغة مشذبة ومعلقة بالهواء. لا هي فصحى ولا هي عامية، وقريبة من لغة الصحف والأفلام، وذلك في عمله المهاجر "طريق التراب" والذي تدور أحداثه في أمريكا.

وكان قد مهد لهذا الأسلوب بلغة مرتجلة، تتكلم شخصياتها ولا تفكر. أو تفكر ولا تتكلم. ولجأ إلى ذلك في روايته التي رشحت أيضا للبوكر وهي بعنوان "النفور".

ولا تحلو كتابات كيلمان من مورثات سلفه ألكسندر تروكي. كلاهما يشاغب ولا يضع العواقب بحسبانه، وذلك قبل أن يغمره الندم، ويتحول إلى فريسة لضميره. غير أن كيلمان يستيقظ من هذا الكابوس في كل مرة، ويراجع حساباته. بمعنى أنه لا يبت بأي أمر، ويتبنى سياسة النهايات المفتوحة، ويترك الأزمة مؤجلة حتى يجد الحل. وإذا انتهى تروكي لتدمير نفسه، وسقط في حفرة أدب الإيروتيكا والمخدرات (تيمنا بالأمريكي وليام بوروز مؤلف "الوليمة العارية")، يردع كيلمان نفسه ويكتب عن دايستوبيا سياسية، وبأسلوب تجريبي كما فعل في "تفاصيل مترجمة"، وهي رواية بدون أحداث وتعتمد على تبادل البرقيات على شاكلة "الصندوق الأسود" للإسرائيلي عاموس عوز.

بلغ كيلمان حوالي الثمانين عاما. وغطى في سنواته الأخيرة قضايا تهم البشرية، من مشكلة كردستان في العراق، وحتى ظاهرة الاتحاد الروسي. ولنكون دقيقين قلق أوروبا الغربية من الروس. ولكنه حافظ على إخلاصه لأبناء الطبقة البائسة وكتب عن محنتهم مع ظروف حياتهم القاسية بلغة يتقاسمها الإحساس بالتمرد الممتزج باللامبالاة المسؤولة - لا الوجودية، والقيام بالواجب الذي يفرضه عليه وعيه الاستثنائي لهوية حضارته وتاريخه.

وختاما برأيي جيمس كيلمان اليوم هو آخر الأحياء الذين حملوا مشعل رواية اسكوتلاندية بإطار أوروبي وإنساني.

***

د. صالح الرزوق

حلب 2025

في المثقف اليوم