قراءات نقدية
إبراهيم أبو عواد: الطبقة الكادحة بين نجيب محفوظ وجون شتاينبك
يُعْتَبَرُ الكاتبُ المِصْري نجيب محفوظ (1911 _ 2006 / نوبل 1988) أعظمَ روائي في الأدبِ العربي على الإطلاقِ. تُعَدُّ أعمالهُ سِجِلًّا حَيًّا للتَّحَوُّلات الاجتماعية في مِصْر.
كَتَبَ في فَترةِ التَّحَوُّلاتِ السِّياسية والاجتماعية العَميقة في المُجتمعِ المِصْرِيِّ، مِنَ الاحتلالِ البريطاني إلى ثَورة 1919 ثُمَّ ثَورة يوليو 1952، ومَا تَبِعَها مِنْ تَغْييرات في البُنْيَةِ الطَّبَقِيَّة. وانطلقَ مِنْ واقعٍ اجتماعي مُضطرِب، فَجَعَلَ مِنَ الأدبِ وسيلةً لكشفِ أزَمَاتِ العَدالةِ الاجتماعية، وعاشَ مَراحلَ الصِّراعِ بَيْنَ الطَّبَقَاتِ الاجتماعية، حَيْثُ كانت الطَّبَقَةُ الكادحة (العُمَّال، الفُقَراء، صِغَار المُوظَّفين، سُكَّان الحَارَاتِ الشَّعْبية) في مُواجَهةِ الفَقْرِ والسُّلطةِ والبيروقراطية. وَقَدْ كانتْ مِصْر تَمُرُّ بِمَرحلةِ انتقالٍ مِنَ الإقطاع إلى نَوْعٍ مِنَ الاشتراكية، فانعكسَ ذلك في أدبِه كَصِرَاعٍ بَيْنَ القَديمِ والجديد، وصارَ مَادَّةً خِصْبَةً في كِتَاباته التي رَصَدَتْ حَركةَ المُجتمعِ بَيْنَ القَهْرِ والأملِ.
قَدَّمَ تَصويرًا دقيقًا لِعَالَمِ الكادحين في الحَارَاتِ الشَّعْبية، حَيْثُ يَتجسَّد الفَقْرُ لَيْسَ كحالةٍ ماديَّةٍ فَقَط، بَلْ أيضًا كَمُعَاناةٍ وُجوديةٍ وإنسانية. وكانَ يَرى أنَّ الفَقْرَ لَيْسَ عَيْبًا فرديًّا، بَلْ نتيجة لعوامل اجتماعية وتاريخية مُعقَّدة، إلا أنَّه يُعالجه بِمَنظورٍ إنسانيٍّ أكثر مِنْ كَوْنِه سِياسيًّا. فالكادحُ عِندَه هُوَ إنسان يَسْعَى إلى حِفْظِ كَرامته رَغْمَ انكسارِه، وَيَظَلُّ قادرًا على الحُلْمِ والمُقاوَمة.
شَخصياتُه غالبًا مِنَ الحَارَةِ الشَّعْبية: الحَلَّاق، البائع، البَوَّاب، الفتاة الفقيرة. يُصورِّهم بَيْنَ مِطْرقةِ الفَقْرِ وَسِنْدَانِ السُّلطة، لكنَّهم يَحْتفظون بِكَرامتهم وإنسانيتهم. والكِفَاحُ عِندَه لَيْسَ اقتصاديًّا فَحَسْب، بَلْ هُوَ أيضًا وُجودي وأخلاقي، وَبَحْثٌ عَنْ مَعْنى الحَياةِ والعَدْلِ والكَرامة.
تَتجلَّى الطَّبَقَةُ الكادحةُ بِوُضوحٍ في أعمالِه الواقعية، فَهُوَ يَرسُم لَوْحةً مُتكاملة للحَياةِ الشَّعْبية في أحياءِ القاهرةِ القديمة، حَيْثُ تتقاطع طُموحاتُ الفُقَراءِ معَ قَسْوَةِ الواقعِ، وَيَتجسَّد حُلْمُ الإنسانِ بالتَّحَرُّرِ مِنَ الفَقْرِ، وأحيانًا يَسْقَط في بَراثِنِ الاستغلالِ، فَيَتَحَوَّل الحُلْمُ إلى مَأساةٍ.
وَقَدْ قَدَّمَ في أعمالِه مَأساةَ الأُسْرَةِ المِصْرِيَّة الفقيرة التي تُكافِح مِنْ أجْلِ البَقاءِ بعد وَفاةِ عائلها، فَيَتَحَوَّل الفَقْرُ إلى قَدَرٍ يَخْتبر القِيَمَ والأخلاقَ والمَبادئ. وفي بعضِ أعمالِه، تَتَحَوَّلُ الحَارَةُ إلى نَمُوذج مُصغَّر للمُجتمعِ الإنسانيِّ، حَيْثُ يَتوارث الناسُ الصِّراعَ بَيْنَ العَدْلِ والطُّغيان، وَيَظَلُّ " الفُتُوَّة " رمزًا للسُّلطةِ التي يَسعى الكادحون لِتَقْويمها أوْ مُواجهتها. وَهُوَ يَرى في الطَّبَقَةِ الكادحةِ الضَّميرَ الأخلاقيَّ للأُمَّة، لكنَّها في الوَقْتِ نَفْسِه ضَحِيَّةٌ لِبُنْيةٍ اجتماعية ظالمة. خَلاصُها يَتحقَّق بالوَعْي والنَّزْعةِ الأخلاقية النابعة مِنَ الداخل.
والرِّوائيُّ الأمريكيُّ جون شتاينبك (1902 _ 1968 / نوبل 1962) مِنْ أبرزِ الأُدباءِ الذينَ عَالَجُوا مَوضوعَ الطَّبَقَةِ الكادحة. كَتَبَ في ظِلِّ فَترةِ الكَسَادِ العظيم (1929_ 1939) حِينَ انهارَ الاقتصادُ الأمريكي، وَخَسِرَ مَلايين الناسِ أراضيهم وأعمالَهم، وَتَحَوَّلوا إلى مُشرَّدين يَبْحثون عن العملِ في الحُقولِ والمَصانع.
تعاملَ معَ الطَّبَقَةِ الكادحة بِرُؤيةٍ إنسانيَّة احتجاجيَّة، فَهُوَ لا يَكْتفي بِوَصْفِ مُعاناتهم، بَلْ يُدِينُ النظامَ الاقتصاديَّ الذي أنتجها، ويُبْرِز القِيَمَ الإنسانية مِثْلَ التَّضَامُنِ، والحُبِّ، والإخلاصِ، باعتبارِها السِّلاح الوحيد في مُواجهةِ القَسوةِ الاجتماعية. كما يَتميَّز أُسلوبُه بالواقعية المَمْزوجة بالرَّمْز، إذْ يَتحوَّل العملُ وَالأرضُ وَالأُسْرَةُ إلى رُموز كُبْرى للكَرامةِ الإنسانيَّة.
شَخصياتُه مِنَ العُمَّالِ الزِّراعيين والمُهاجِرين الفُقَراء، يُصارِعون الجُوعَ والاستغلال. والكِفَاحُ عِندَه ماديٌّ ومَعْنويٌّ في آنٍ معًا : الجُوع، والقَهْر الاجتماعي، وَضَياع الحُلْمِ الأمريكيِّ. لكنَّه يُغلِّف مُعَاناتهم بإحساسٍ عميق بالتضامُنِ الإنسانيِّ، والكَرامةِ، والأملِ بالعَدالةِ الاجتماعية.
جَعَلَ مِنَ الكادحين الأمريكيين رَمْزًا للمُعَاناةِ الكَوْنِيَّة، فالفَقْرُ عِندَه لَيْسَ حالةً اقتصادية فَحَسْب، بَلْ أيضًا مأساة وُجودية تَنْبُع مِن انعدامِ العَدالة. وَهُوَ يُؤْمِنُ بِقُدْرتهم على التضامنِ والتَّمَرُّدِ، والوِلادةِ الجديدةِ مِنْ رَحِمِ المُعاناة.
وَنَقَلَ في أعمالِه مَأساتهم بِلُغَةٍ تَمْتزج فيها الشاعريةُ بالغضب. والأرضُ عِندَه لَيْسَتْ مُجرَّد خَلْفِيَّة للأحداث، بَلْ هِيَ مُعَادِلٌ رُوحيٌّ للإنسانِ، حِينَ تُغْتَصَبُ الأرضُ، وَيُغْتَصَبُ الوُجودُ الإنساني.
وَجَعَلَ مِنَ الحَقْلِ الأمريكيِّ مِنْبَرًا للعَدالةِ والتَّمَرُّدِ. وَهُوَ لا يَكْتُب عَن الفَقْرِ كَقَدَرٍ، بَلْ كَجَريمة. الأرضُ التي يُطرَد مِنها الفلاحون تَتحوَّل إلى كائنٍ جريح، والإنسانُ الذي يُسحَق تحت عَجَلاتِ الرأسمالية يَتحوَّل إلى رَمْزٍ للمُقاوَمةِ الصامتة. وَقَدْ صَوَّرَ الحُلْمَ الأمريكيَّ وَهُوَ يَتفتَّت بين أصابع العاملين في المَزارع، حِينَ يُصْبح الحُلْمُ نَفْسُه سِلْعَةً لا يَقْدِرُون على شِرائها.
كَتَبَ بلسانِ الجماعة لا الفَرْدِ، بِصَوْتِ الغضبِ الجَمْعِيِّ الذي يُشبِه صَفِيرَ الرِّيحِ في الحُقولِ الخالية. لُغَتُهُ مُشْبَعَةٌ برائحةِ التُّرابِ، وَعَرَقِ الأجسادِ، وَدُموعِ الأُمَّهات. والكادحون لا يَسْكُنون عَالَمَ الهزيمةِ، بَلْ عَالَم النُّهوضِ مِنَ الرُّكام، حَيْث الحُلْم آخِر مَا يُنْتَزَع مِنَ الإنسان.
لَقَدْ رَكَّزَ محفوظ على الداخلِ المِصْرِيِّ، حَيْث الصِّراع بَيْنَ القِيَمِ والتقاليدِ والحَداثة، فَجَعَلَ الكادحين رُموزًا للبَقَاءِ والكَرامة، أمَّا شتاينبك، فَقَدْ رَكَّزَ على الإنسانِ العالميِّ في مُواجهةِ النِّظامِ الرأسماليِّ القاسي، فَجَعَلَ الكادحين رُموزًا للأملِ والمُقاوَمة.
***
إبراهيم أبو عواد / كاتب من الأردن






