قراءات نقدية

عماد خالد رحمة: دراسة نقدية تحليلية موسعة لقصيدة "ما الحب !؟" للشاعرة إيمان السويلمي

الحنينُ ليس مجرّدَ انفعالٍ عابرٍ أو رعشةٍ وجدانية تُلامس القلب في لحظةٍ شرود، بل هو حالةٌ وجودية مركّبة، يتقاطع فيها الزمنُ مع الذاكرة، وتتداخل فيها صورةُ الذات مع أطياف ما غاب وما لم يكتمل. إنّه عودةٌ لا تحدث فعلاً، بل تُستعادُ في الداخل؛ استدعاءٌ لنهاراتٍ بعيدةٍ وأمكنةٍ غابرة، تستحيل في الوجدان أكثر صفاءً مما كانت عليه في الواقع. ولأنَّ الحنين يقيمُ في الهامش بين الحقيقة والوهم، فهو يملك القدرة على إعادة تشكيل الماضي وفق رغبةٍ تتجاوز الوقائع إلى الحلم. ومن هنا كان الحنين جوهرَ السؤال الإنساني عن المعنى: لماذا تكتسب الأشياء قيمتها حين تفلت من اليد؟ ولماذا يتحوّل الغياب إلى حضور أشدّ وقعاً من الوجود نفسه؟ إنه محاولةُ الإنسان للاحتفاظ بما يتساقط منه، وتثبيتُ ما لا يمكن تثبيته—الزمن.

1. مدخل ومنهجية العمل:

هذه الدراسة تقرأ القصيدة عبر علاقاتٍ متداخلة من التأويل:

1. المنهج الهيرمينوطيقي لالتقاط معاني النص كأفق تأويل متعدِّد يعتمد تخييل القارئ وسياق الشاعرة إيمان السويلمي .

2. المنهج الأسلوبي لتحليل اللغة، الإيقاع، الإسقاطات البلاغية والدوال الصوتية.

3. التحليل الرمزي والسيميائي لكشف نظام العلامات داخل النص (القلب، النار، النافذة، الحقيبة...) ودلالاتها الثقافية.

4. المستوى الجمالي والوطني للنظر في كيف يتحول الرمز العاطفي إلى رمز وجودي/وطني (وطنٌ داخل الحقيبة).

5. البنى النفسية والدينية لكشف أنساق الفقد، الافتقاد، المقدس والندبة التي تصوغ تجربة الحب في القصيدة.

الهدف: استنباط قراءات متعددة متكاملة تُبرز النص كمساحة زمنية ونفسية وثقافية، لا كمجرد خبر شعري.

2. قراءة إجمالية للقصيدة — الفكرة المركزية:

القصيدة تبني تصوّرا للحب لا كامتلاك مادي أو لقاء خارجي، بل كـ«خلق مكان داخلي» لا يُغْلَب؛ الحب جرحٌ وجمرٌ ووطنٌ داخلي محفوظ. الحب هنا فعلُ خلقٍ وترك أثر/نقش في الذات: ليسَ أن يُؤخذ القلب، بل أن يُبقى «مكان» لا يسكنه سواه. الحضور يكون كذلك في الغياب — حضور متعدِّد الطبقات: في الصوت، في الطقس، في الأشياء اليومية (نافذة ـ تجاعيد ـ ارتباك اليد).

3. التحليل الهيرمينوطيقي التأويلي:

١- الأفق النصّي: القصيدة تقدم نصًا إرشاديًا عن الحب: جملةُ تعريفاتٍ متتابعة (ليس الحب أن... بل الحب أن...) تشكل حركة تأويلية تصعد من النفي إلى التصريح. هذه البنية تكسب القصيدة طابعا تربوياً/مقنعاً كما لو أن القصيدة تحاول تأسيس مفهومٍ جديد عن الحب.

٢- الأفق القارئ/القارئ المُؤول: القارئ يتعامل مع نص مكتنز بصورٍ ممكنة التفعيل: «جمر صوتك»، «مكان صغير» و«حقيبة السفر». كل علامة تفتح مساحة تأويل — مجاورة النصوص الدينية، تجارب الغربة، تجارب الافتقاد.

٣- التأويل متعدد الطبقات: النص لا يقدم معنى واحداً، بل مجموعة من دلالات متداخلة: وجودي، نفسي، اجتماعي، وطني.

4. التحليل الأسلوبي (اللغة والبلاغة والإيقاع):

١- الأسلوب النحوي: تكرار البناء النفي ـ التصريحي: «ليسَ... بل...»؛ يعطي عتبة منهجية تعريفية ويعمل كإطار شعري متماسك.

٢- الصور الاستعارية: امتزاج الأجناس: «جمر صوتك» (استعارة حية تجمع بين الحسي والصوتي)، «وطنٌ نحمله داخل حقيبة السفر» (استعارة استعرافية تحمل منطقًا وجوديًا وسياسيًا).

٣- الدلالات الصوتية: توازن بين حروفٍ رخوة وحادة يحقق وقعًا موسيقيًا داخليًا مناسبًا للّون الوجداني (مثلاً تكرار السين والنون يشي برقة وحنين).

٤- التكرار والأنفاس اللغوية: تكرار الفعل «أترك»، «أحملك»، «انتظر» يولِّد إيقاعًا سرديًا يركّز التجربة من الذاكرة نحو الانتظار.

٥- المقامات السجلّية: استعمال خطاب مباشر (نداء: «يا من كنتَ دهشتي») مقترنًا بمستوى وصفي تأملي يمنح القصيدة حيوية بين الحميميّة والعامة.

5. السيميائيات: نظام العلامات والدلالات

تحلل العلامات الرئيسة ودلالاتها المحتملة:

١- القلب/القلب يؤخذ: القلب علامة على الذات/المكان العاطفي؛ النفي هنا يدل على رفض لقراءة الحب كامتلاك.

٢- الجمر/النار: رمزٌ مزدوج: حرارة الحب، لكنه أيضًا جرح يستلهم موتًا/تكفينًا؛ النوم على الرماد واستيقاظ الفجر يشير إلى دورة ألم/تجدد.

٣- النافذة/التجاعيد/اليد: علامات الحضور في الأشياء اليومية — تُحوِّل الحبيب إلى طقس يومي ومقدس.

٤- حقيبة السفر/الوطن: استبدال الوطن بمحمول شخصي يؤشر إلى تجربة غربة ونزعة حماية؛ الحقيبة هنا علامة على هشاشة الوطن وإتاحته للسرقة، فالحب يتحول إلى وطنٍ هش لكنه مقدّس.

٥- الجرح والندبة: الحب «جرحٌ جميل»، وهو علامة تضع الذات في مسار الرحمة والألم كشرط للاكتمال.

6. البُعد النفسي: آليات الافتقاد والتعلق والهوية.

١- الاشتياق/الاحتلال الداخلي: النص يصور الحب كخلق «مكان» داخلي؛ هذا القراء يقارب مفاهيم الارتباط (attachment) حيث يصبح الآخر جزءًا من بنية الذات.

٢- الجرح كمصدر للهوية: النزف اليومي دون شفاء يدل على مرور الحب في نمط من الحزن المصاحب للتحول — هو جرح يكرّس علاقة ثابته بالهوية: الهوية المُحبّة.

٣- آلية الدفاع: «أترك لي هذا المكان الصغير» هو طلب للحفاظ على حد شعوريّ، مثل حدود النفور أو مساحة الاستقلال في العلاقة، حماية لذاتٍ مهددة بالاستلاب.

٤- الزمن النفسي: الحضور في الغياب — رؤية الحبيب في ضوء النافذة والتجاعيد — تكشف عن زمن داخلي لا يتطابق مع الزمن الخارجي؛ زمن تأبيدي يحفظ العلاقة في طقوس الذاكرة.

7. البُعد الديني والطقوسي:

المقامات الطقوسية: استعمال لغة مشحونة (جمر، صلاة ضمنيّة عبر الإيقاعات الليلية) تجعل من الحب طقساً يومياً مقدسًا: النوم على رماد الصوت، الفجر المذعور، كل ذلك يذكر بعناصر التكفير والقيامة الرمزية.

الاستعارات الدينية/الكتابية: استخدام مفردات مثل «وطن»، «جمر»، «نُزِف» قد تستدعي خلفياتٍ دينية/مقدّسة (ضحايا، تبرّع بالنفس، حِفاظ على شيء مُقَدَّس). النص لا يصرّح بمذهبٍ ما، لكنه يُفعل شعورًا دينيًا/روحيًا في الحب الذي يكتسب خاصية المُقدّس.

القداسة الشخصية: الحبيب يتحول إلى قدّاس داخلي؛ الحقيبة الوطن المقدّس تُحفظ كما يُحفظ المقدّس في النصوص الدينية.

8. البُعد الوطني/السياسي (قراءة استعاريّة):

١- الوطن والحقيبة: عبارة «وطنٌ نحمله داخل حقيبةِ السفر» تُقلب المعنى من علاقة وطن/مكان إلى وطن/حمل شخصي. هذا قد يرتبط بتجربة الشتات والنفي: الوطن يصبح ذاكرة شخصية محفوظة خشية السرقة أو الضياع.

٢- الخوف من السلب: «نخاف أن نضعه أرضًا كي لا يسرقهُ أحد» تُعبر عن شعورٍ جماعي تاريخي بالهشاشة أمام قوى خارجية — الحب كوعي وطني مُصغّر.

٣- التقاطع بين الخاص والعام: القصيدة تكشف أن الوجد الشخصي يمكن أن يكون متنًا لتجارب وطنية، وأن الحميميّة قد تصبح عملة مقاومة للحضور السلطوي أو النزوح الثقافي.

9. المستوى الجمالي: لُغة القصيدة وصورتها الفنية

١- التكثيف والصورة المركبة: التركيز على صور مركزة (جمر صوتك، وطن داخل حقيبة) يمنح القصيدة طاقة جمالية تُقنع القارئ بتصورٍ واحد قوي.

٢- التوازن بين العذوبة والمرارة: الأسلوب الحميمي المُقاس بالواقعية اليومية (النافذة، اليد) مع استعارات مؤلمة (النزف، الجمر) يولّد جماليةٍ مزدوجة: لحم وجرح.

٣- الأنا الشاعرة: صوتُ متكلمٍ أقوى ما في النص — يؤسس علاقة مباشرة وصريحة مع القارئ، تجعل من التجربة فردية لكنها قابلة للتعميم.

10. قراءة تفصيلية سطر بـ سطر (مقتطفات محورية):

«ليسَ الحُبُّ أن تأخذَ قلبي...»: افتتاحية تفكيك الفكرة النمطية للحب كامتلاك، وتوجيه القارئ نحو تعريفٍ بديل.

«أن تخلقَ في داخلي مكانًا لا يستطيعُ أحدٌ أن يسكنَهُ بعدكَ»: تكوين الحب كعمل خلقي؛ المكان هنا ليس مكانًا فيزيائيًا بل معمار نفساني.

«جمر صوتك... يستيقظُ منه الفجر مذعورًا»: تصوير صوت المحبوب كشرارة تبقى حيّة، والفجر كزمن يزلزلها — صورة للحضور الذي يزعزع الزمن.

«هو وطنٌ نحملهُ داخلَ حقيبةِ السفر»: تجسيد للحب كوطن، والحقيبة كرمز لحمل الذاكرة/الهوية خلال التنقل والتهجير.

«خذ كل شيءٍ مني... لكن اترك لي هذا المكان»: ذروة النص: استسلام ثنائي مع طلب حدود؛ الحب إذن توازن بين العطاء والحفاظ على مساحة ذاتيّة.

11. إمكانات قرائية واختلافات التفسير:

قراءة رومانسية بحتة: الحب كخلق داخلي واحتفاء بالجروح.

١- قراءة هجرة/نسيبية: الحقيبة والوطن يوحيان بتجربة اللاجئ أو المنفي — الحب يتحول إلى مخزون ذاكرة.

٢- قراءة دينية/صوفية: الجمر والرماد والدورة الليلية/الفجرية تُفهم كعملية تطهير وذكر.

٣- قراءة نقدية اجتماعية: الخوف من سرقة الوطن يشير إلى قلق ثقافي/سياسي، والحب عمل مقاومة نفسية.

كل قراءة مقبولة ضمن أفق هيرمينوطيقي شرط أن تُؤسَّس على دلائل نصية.

13. خاتمة:

قصيدة «ما الحب !؟...» لإيمان السويلمي نص غني متعدد المستويات: لغة حميمة متزنة بصور قوية، وتأويلات ممكنة تمتد من النفسي إلى الديني والوطني. تجعل القصيدة من الحب «خلقًا» داخليًا مقدسًا ـ جرحًا ووطناً في آنٍ واحد. هذا التداخل هو ما يمنح النص عمقه وإمكانية قراءات متجددة.

***

بقلم: عماد خالد رحمة - برلين

..........................

ما الحب !؟...

ليسَ الحُبُّ أن تأخذَ قلبي...

فكلُّ القلوبِ تُؤخذُ حينَ تُغوى،

بل الحُبُّ أن تخلقَ في داخلي

مكانًا لا يستطيعُ أحدٌ أن يسكنَهُ بعدكَ.

*

أن تتركَ في صدري

جمرَ صوتِكَ،

ينامُ على رمادهِ الليلُ،

ويستيقظُ منهُ الفجرُ مذعورًا...

*

ليسَ الحُبُّ أن نلتقي،

بل أنْ نظلَّ نلتقي

حتى ونحنُ غائبون،

أنْ أراكَ في ضوءِ النافذة،

وفي تجاعيدِ الوقت،

وفي ارتباكِ يدي حينَ أكتبُ اسمَكَ صدفةً.

*

الحُبُّ يا من كنتَ دهشتي

ليسَ وعدًا ولا ميثاقًا،

هو جرحٌ جميلٌ

ننزفُ منهُ كلَّ يومٍ دونَ أنْ نُشفى،

هو وطنٌ نحملهُ داخلَ حقيبةِ السفر،

ونخافُ أن نضعَهُ أرضًا

كي لا يسرقهُ أحد.

*

خذْ كلَّ شيءٍ منّي...

خُذْ أيامي، وضحكتي، ونومي،

لكنْ اتركْ لي هذا المكانَ الصغيرَ

الذي خلقتَهُ فيَّ،

فلا أنتَ تستطيعُ استرجاعَه،

ولا الزمانُ يستطيعُ محوَه.

 

في المثقف اليوم