قراءات نقدية

حسن لمين: الذاكرة المنسية.. سيرة تنبع من النداء لا من الرغبة

تبدو سيرة الزهرة رميج الذاكرة المنسية (فضاءات، 2016) وكأنها لا تمثل نهاية لمسار إبداعي بل بداية لتأمل جديد في معنى الكتابة ذاتها. فالسيرة، التي جرت العادة أن تُكتب في ختام الرحلة بوصفها تتويجًا لمسار أدبي طويل، جاءت هنا لتُثير السؤال لا لتُجيب عنه: هل تمثل السيرة لحظة اكتمال، أم لحظة استعادة لماضٍ لا يكتمل أبدًا؟

الكتابة في جوهرها فعل استحضار للمنسيّ، والذاكرة هي منجمها الأول. كل سرد، مهما بدا متخيلًا، ينطلق من رواسب التجربة ومن ترسبات العيش التي يسعى المبدع إلى تثبيتها بالكلمات. هكذا تتبدى الذاكرة المنسية كرحلة داخل اللاوعي، محاولة للقبض على ما أفلت من التذكر، ولملمة الشذرات التي ظلت معلقة بين الذاكرة والنسيان.

وإذا كانت بعض مشاهد هذه السيرة تمتد جذورها في روايات الزهرة رميج السابقة مثل عزوزة وأخاديد الأسوار، فإن هذا الامتداد يؤكد أن السيرة تنبني على تراكم سردي يمهّد لها ويغذيها. فهي لحظة وعي بما سبقها من كتابة، ووعي الكاتبة بذاتها الكاتبة.

فرادة الذاكرة المنسية تتجلى في الطريقة التي وُلدت بها. فالكاتبة لم تُقرر كتابة سيرتها بدافع ذاتي، بل استجابت لطلب من قارئ مهتم، هو الأستاذ الجامعي رشيد بيي، الذي رأى في مسارها ما يستحق التوثيق البصري عبر فيلم وثائقي. غير أن هذا الفيلم لم يُنجز، وبقيت السيرة الأثر الوحيد لتلك الرغبة. تقول رميج في التوطئة: «ولأني مدينة بكتابة هذه السيرة لرشيد بيي»، اعتراف يضع السيرة منذ البداية في موقع «الاستدعاء»، لا «الاختيار». إنها سيرة تحت الطلب، كتبَتها لتستجيب لأسئلة الآخر، لكنها في العمق استجابة لأسئلة الذات.

من هنا جاءت بنية الكتاب على شكل مشاهد أو شذرات غير متسلسلة زمنياً. فالزمن في هذه السيرة ليس خطيًا بل استرجاعي، يتشكل من ومضات الذاكرة لا من ترتيب الأحداث. وهذا ما يمنح النص حيوية سردية، تجعله أقرب إلى حكايات تتقاطع فيها الذات بالآخر، والذاكرة بالكتابة.

وتُذكّرنا هذه الطريقة في كتابة السيرة بتجارب عربية أخرى أعادت النظر في معنى كتابة الذات. فجبرا إبراهيم جبرا في البئر الأولى وشارع الأميرات جمع شتات ذاته الموزعة في رواياته السابقة، ليحوّلها إلى سردٍ اعترافيّ ناضج. أما إحسان عباس، فكتب غربة الراعي بعد إلحاح من أخيه، رغم قناعته بأن حياته لا تستحق التأريخ، فإذا بها من أصدق السير في الأدب العربي الحديث. بينما محمد زفزاف رفض كتابة سيرته أصلاً، مفضلاً أن تُقرأ حياته في نصوصه الروائية، مؤكداً أن كل رواية كتبها كانت مرآةً له.

تتقاطع تجربة الزهرة رميج مع هؤلاء جميعًا في نقطة جوهرية: أن السيرة ليست قرارًا إراديًا بقدر ما هي استجابة لنداء داخلي أو خارجي يُعيد ترتيب العلاقة بين الحياة والكتابة. فالأدب، في النهاية، ينمو من تلاقح التجارب وتشابك المصائر الإنسانية، كما تنمو شجرة تتغذى من جذور الآخرين لتُثمر فرادتها الخاصة.

الذاكرة المنسية نصّ مفتوح على التأمل، واحتفاء بالكتابة كوسيلة لإنقاذ الذات من محوها. كتبته الزهرة رميج استجابةً لطلب، لكنها وجدت فيه لحظة مصالحة مع ماضيها، وإعلانًا بأن الكتابة لا تنتهي حتى حين تظن أنها تختم نفسها.

***

حسن لمين - كاتب مغربي

في المثقف اليوم