قراءات نقدية

عماد خالد رحمة: التيه بوصفه استعارة للوجود

قراءة هيرمينوطيقية رمزية في نص "راهبة الريح" للشاعر أيمن معروف

يشكّل التيه أحد أكثر الرموز رسوخًا في المخيال الإنساني، منذ أسطورة خروج بني إسرائيل في الصحراء، حتى فلسفة الوجود والاغتراب الحديثة. فهو فضاء اللامكان، ومجاز العدم، وحدود الذات حين تتقاطع مع المجهول. في النص الذي نحن بصدده، يتخذ الكاتب من التيه صورةً أنطولوجية، تكشف عن مأزق الإنسان المعاصر الذي يعيش في عالمٍ محكوم بالضياع الرمزي، وبتهاوي القيم والمعايير أمام طغيان العولمة وفقدان المعنى.

النص ليس مجرد إنشاء شعري أو تأمّل وجداني قدمه الشاعر أيمن معروف، بل هو تمثيل فكريّ لحالة الكائن حين يقف عارياً أمام أسئلة المصير، في حوارٍ داخليٍّ بين الذات والوعي، بين الإنسان وصوته الكونيّ الذي يحثّه على المضيّ والتراجع في آنٍ واحد.

في هذه القراءة، سأعتمد المنهج الهيرمينوطيقي التأويلي لفهم المعنى العميق للرموز والدلالات، والمنهج الرمزي والأسلوبي لتحليل اللغة وبنيتها، إلى جانب المقاربة الأنطولوجية الفلسفية لفهم الوجود الإنساني في ضوء نصٍّ يعبّر عن تيهٍ جمعيّ بقدر ما هو فرديّ. مستل من روح ما قدمه عبد الجبار النفري  من أعلام التصوف الإسلامي في كتابه الهام المواقف والمخاطبات .وهو أحد أكثر المتصوفة غموضاً وعمقاً في التعبير عن التجربة الوجودية الصوفية، حتى لُقّب بـ"صوفي المواقف والغياب". في كتابه «المواقف والمخاطبات» تتجلّى لغة تتجاوز حدود البيان إلى تخوم الكشف والإشراق، إذ يجعل النفّري من اللغة نفسها تجربة روحية، لا وسيلة للتوصيل فحسب. فهو لا يصف الطريق إلى الله، بل يُفصح عن لحظة التجلّي نفسها حين يغدو العارف وجهاً للمعرفة، والموقف حدّاً بين الفناء والبقاء.

تقوم طريقته الأسلوبية على الإيجاز الموحِي والغموض البنّاء؛ فهو يكتب كما لو كان ينقل ومضات من عالم الغيب إلى سطور التراب. يقول في أحد مواقفه:

 "أوقفني في الموقف وقال لي: إذا اتسعت الرؤية ضاقت العبارة.".

هذه العبارة تُعدّ مفتاحاً لتجربته كلّها؛ فالرؤية الصوفية عند النفّري تفيض حتى تعجز اللغة عن احتوائها، ولهذا جاء أسلوبه قائماً على التقطيع والسكوت والإشارة، أكثر من البيان والتقرير. أما «المخاطبات»، فهي نصوص فيضية تجري على لسان "الحق" الذي يخاطب العارف، كقوله:

 "يا عبد، كلما اتسعت الرؤية ضاقت العبارة، وكلما ضاقت العبارة قرب اللقاء."

أولاً: التيه كاستعارة للوجود والاغتراب

التيه في النص ليس طريقاً يُضلّ فيه المسافر، بل هو الحالة الوجودية التي يفقد فيها الإنسان علاقته بمركزه الداخلي. يقول النص:

 "التّيه جحيمٌ لا نأمةَ فيه... التّيهُ فضاءٌ أسود لا دمعة فيه."

هنا تتحوّل صورة التيه إلى كناية عن الانفصال بين الذات والعالم، وعن صمت الوجود أمام سؤال الإنسان. يتجاوب هذا المعنى مع فلسفة مارتن هايدغر الذي رأى أن "الوجود يُلقى في العالم ككائنٍ منفيٍّ بلا مرجع"، وأن مهمة الفكر هي استعادة "السكينة في قلب الضياع".

إنّ المتكلّم في النص يعي هذا المنفى، لكنه يحاول تحويله إلى وعيٍ خلاّق، إذ يُؤمَر بـ«التقدّم» و«التمهّل»، في مفارقةٍ تكشف عن ثنائية الإرادة والعجز، بين الحثّ على الحركة والخشية من المجهول، تمامًا كما عبّر سورين كيركغارد عن القفزة الإيمانية التي لا يمكن تجاوزها إلا بالجنون الوجودي.

ثانياً: اللغة بين الإرشاد والهاوية

يتبنى النص أسلوباً خطابياً ميتافيزيقياً، حيث تأتي اللغة محمّلة بالأوامر والنواهي: "تقدّم، تمهّل، اعلم..." وهي بنية تحاكي لغة الوحي، أو النصوص المقدسة، لكنها في عمقها حوار داخلي بين الإنسان وضميره الوجودي.

يُعيد هذا الخطاب إلى الأذهان ما أشار إليه بول ريكور في كتابه الرمز يعطي الفكر، حين أكّد أن اللغة الرمزية لا تشرح العالم بل تخلقه من جديد، وأن التأويل هو عبور من ظاهر النص إلى باطنه، من القول إلى الكينونة.

الشاعر أيمن معروف يمارس عبر لغته سلطة معرفية، لكنه في الوقت نفسه يكشف هشاشتها، فكل أمرٍ أو نهيٍ يُقابله شكٌّ أو ارتياب، كما لو أن النص يُفكّك ذاته في حركة دائرية مستمرة، شبيهة بما تحدّث عنه جاك دريدا في تفكيكيته، حيث لا وجود لحقيقة نهائية خارج النص، بل هناك تتابع دائم للمعنى المؤجّل.

ثالثاً: من العولمة إلى ميتافيزيقا الإنسان

حين يرد في النص:

"وترى، أطلسَ هذا العالَمِ يدخلُ من عولمةِ الشّعرِ إلى عولمةِ الفكرِ..."

يتحوّل الخطاب من البعد الفردي إلى البعد الكونيّ، ليشير إلى تشييء الإنسان وضياع هويته في العولمة الحديثة. هنا نسمع صدى أفكار هربرت ماركوز في نقده للعقل الأداتي، وزيغمونت باومان في توصيفه للمجتمع السائل، حيث الذوات تفقد صلابتها وتتحول إلى كياناتٍ هشّة تائهة في الاستهلاك والمعنى المفرغ.

يتقاطع النص إذاً مع رؤية ميشال فوكو حول "الذات المراقَبة والمقيّدة"، ويُعلن في الوقت نفسه تمرّداً أنطولوجياً على هذا التشييء حين يقول:

 "تمسّك بهويّتك الآن، التيه مؤامرة كبرى."

وهو تصريح وجوديّ حادّ بأن استعادة الذات فعل مقاومة، وأن الخلاص لا يأتي من الخارج بل من عمق الوعي نفسه.

رابعاً: التيه كتجربة كشفٍ روحي

في مستواه الأعمق، يبدو النص سلوكاً عرفانياً، يعيد الإنسان إلى منطقة الخطر حيث يتجلّى الوعي الكونيّ. فالمتكلم يُقاد إلى التيه، لا ليهلك، بل ليُبصر، كما قال محـي الدين بن عربي:

 "من لم يدخل البحر لا يعرف العمق، ومن لم يضلّ الطريق لا يعرف الرجوع."

وبذلك يصبح التيه شرطاً للمعرفة، والظلام مقدمة للنور، والضياع طريقًا إلى الوعي بذاتٍ أكثر صفاءً.

النص الذي بين أيدينا ليس مجرد قصيدة نثرية أو تأمل وجداني، بل هو بيان فلسفي-جمالي في مأزق الإنسان أمام ذاته والعالم. إنه نصّ يزاوج بين التجربة الوجودية العميقة واللغة الصوفية المتوهجة والنقد الثقافي المعاصر، ليقدّم صورة شاملة عن التيه كقدرٍ إنسانيّ وفضاءٍ للمعرفة والتحوّل.

لقد نجح الشاعر أيمن معروف في بناء رؤية مركبة تجعل من الشعر مساحةً للفكر، ومن الفكر مساحةً للرؤيا. إنه نص يذكّرنا بأن التيه ليس لعنة، بل ضرورة روحية لاستعادة الإنسان إنسانيته في عالمٍ فقد معناه.

لذا فقد جاء هذا النص كنصٌّ فلسفيّ عميق، يتشح بعباءة الرؤيا والقلق الوجودي، ويستبطن وعياً نقدياً كثيفاً بمأزق الإنسان المعاصر في زمن «التيه» الذي صار مجازاً كونيّاً للاغتراب والضياع وفقدان البوصلة.

الشاعر أيمن معروف استخدم تقنية الخطاب المونولوجي المتداخل مع صوتٍ إرشاديٍّ متعالٍ، كأنه نداء من الداخل أو «نبيّ» الوعي الذي يخاطب الإنسان في صحراء العالم المعاصر. فيتجلّى التيه لا كحدثٍ عارض، بل كشرطٍ أنطولوجيٍّ للوجود الإنساني، حيث تتفكّك الجهات وتتشظّى الذات بين أسطورة اليومي، وتاريخ المعنى، وخواء الروح.

قوّة النص تكمن في لغته المكثّفة، المتوتّرة، ذات النَفَس القرآنيّ والتوراتيّ في آنٍ واحد، حيث تُبنى الجمل بالأمر والنهي («تقدّم»، «تمهّل»، «اعلم»)، بما يشي بوجود «معلّمٍ كونيّ» يقود الذات عبر مراحل الانكشاف، كما في مسارات التصوّف أو فلسفة الوجود عند كيركغارد وهايدغر. فـ«التيه» هنا ليس جغرافياً، بل سفرٌ في الذات، واختبارٌ لحضور الإنسان أمام عبث العالم.

كما أن تضمين النص إشارات إلى ميتا التاريخ وفوكوياما وعولمة الفكر يُخرجه من فضاء التجريد الصوفي إلى قراءة نقديّة معاصرة للعالم، حيث يتحوّل التيه إلى رمز للعصر النيوليبرالي والعولمي، الذي التهم الإنسان وأحال ذاته إلى سلعة، وهويّته إلى طيف.

إنّ النص بهذا المعنى يجمع بين اللغة الشعرية العالية والفكر الفلسفي التأويلي، ويتّكئ على مجازاتٍ تُعيد للأدب العربي بعده الرمزي العميق، وتذكّر بأسلوب أدونيس في أغاني مهيار الدمشقي أو أنسي الحاج في الرسولة بشعرها الطويل حتى الينابيع.

- خاتمة:

نصّ يفيض بالرؤيا والجدل، ويؤسس لمساحة تأمل بين الأدب والفكر، بين الإشارة والحدس، بين المعنى وضدّه. لغته مشحونة بطاقاتٍ روحيةٍ وفكريةٍ تجعل من القراءة تجربة تأملية أكثر منها تحليلية. لو عُرض هذا النص في مجلة أدبية فلسفية، لأوصيت بنشره دون تردّد مع تثبيت عنوان فرعيّ هو:

 التيه بوصفه استعارة للوجود وفضاءً لفقدان المعنى.

***

بقلم: عماد خالد رحمة - برلين

.....................

أوقفَني في التّيهِ، وقالَ: تقدّمْ، فتقدّمتْ

  ورأيتُ طريقاً،

  تتفرّعُ منها طرقٌ شتّى فاختلطتْ قدّامي

  أسطورةُ يومي بجهاتي العشرين.

*

  وقالَ: تمهّلْ. لا تذهبْ أبعدَ،

  حتّى تكتملَ العدَّةُ في ترتيبِ الفوضى وإعادةِ

  تأهيلِ الذّاتِ لمقتضياتِ الوقفةِ

  في التّيه.

*

  وقالَ: التّيهُ جحيمٌ لا نأمةَ فيه.

  وقال: التّيهُ دخان. فاعلمْ أنُكَ دون سلاحٍ وبأنُ

  وسيلتَكَ المثلى كي تعبرَ هذي الفلواتِ

  الممهورةَ بجنونِ اللُيلِ تَوَقُّدُ عينينِ

  انطفأ بريقُهما في العتمةِ.

*

  واعلمْ،

  أنَّ هواءَكَ منهوبٌ وثلاثةَ أرباعِكَ

  متروكٌ للخوفِ وأنُ سماءك مطفأةٌ وسراجكَ

  منتهَكٌ في منتصفِ القول.

*

  وقال: التُيهُ فضاءٌ أسود لا دمعة فيه.

  فلتتذكَر في هذا البهتانِ كتابَ الحكمةِ ولتتوقَّع

  أن يختلطَ المشهدُ حين تمرُ قريباً

  من موتِكَ

*

  وترى، أطلسَ هذا العالَمِ

  يدخلُ من عولمةِ الشّعرِ إلى عولمةِ الفكرِ

  وعولمةِ الفلسفةِ السوداءِ ويشهقُ

  في عولمةِ التّبه.

*

  وقال: فلا تذهبْ في التُيهِ بعيداً.

  التّيهُ مهادٌ والتّيهُ بلادٌ تدخلها فترى غموضَكَ

  قربك مشغولاً في تأويلِ براءتِكَ الأولى

  وترى وضوحَكَ محضَ غبارٍ

  مبثوثٍ في التّيه.

*

  وقال: التُيهُ أراجيح. التُيهُ تباريح.

  فاحذر من مِيتا التّاريخِ وفوكوياما واسطِرلابِ

  الوهمِ و ميتا التّيه.

*

  وقال: وقد لا تعرف كيف ستبدأ يومَكَ

  أو تُنهي الأمر. وقال: طبيعيٌّ أن تنتصر الآن

  لذاتك.. ألُا تترك بابَكَ مفتوحاً لجنونِ التّيه.

*

  وقال: تقدّمْ. وتمسَّكْ بخِراجِ يديكَ..

  تمسَّكْ بهوائِكَ وترابِك.

*

  قال: تقدّمْ.

  وتمسَّكْ بهويَّتِكَ الآنَ.. التّيهُ مؤامرةٌ كبرى

***

في المثقف اليوم