قراءات نقدية

أحمد جمرادي: قراءة في قصيدة "غزّةُ الإسلام" لنورالدين حنيف

عتبة الولوج: غزة الإسلام أو النبش في الجذور للعبور من النضالي المشروع إلى الإنساني

نستهل هذا التحليل لهذه القصيدة التي تحمل بُعدًا دينيًا-وطنيًا-إنسانيًا واضحًا، وتستعرض غزّة بوصفها رمزًا للصمود والبطولة الإسلامية، بصيغة كلاسيكية ذات نفس عمودي بالوقفة العروضبة أو تحديد البحر الخليلي:

نظم الشاعر قصيدته وفق بنية الشعر العربي العمودي الموزون (الشطرين المتناظرين) والقافية الموحدة وقد احترم فيها تفعيلات بحر المديد الذي أرجع فيه الخليل بن أحمد الفراهيدي هذه التسمية إلى تمدد سباعييه حول خماسييه، بمعنى أن الأسباب قد امتدت في أجزائه السباعية، فصار أحدهما في أول جزء والآخر في آخره، وهذه البنية لها أثر صوتي ناتج عن اختيار البحر (المديد) وأيضا دور في تثبيت الموسيقى الداخلية وتعضيد الدلالة.

وقد خلص الاستقراء العروضي للقصيدة إلى إحدى صور بحر المديد كالتالي:

فاعلاتن/فاعلن/فعلن ¤¤  فاعلاتن/فاعلن/فعلن

1. التحليل الصوتي:

التوزيع الفونيمي (الحركات والسكنات)

وندرس فيه الظواهر الصوتية البارزة (مثل التجانس، الجناس، الفاصلة الصوتية) وكذا توزيع الفونيمات والتأثير العاطفي

بدءا حضور مكثف للحروف الجهرية والمفخّمة مثل: ق، ط، ص، غ، خ، ر، ح --> تخلق جوًا من القوة، التحدي، العمق، مثلًا في البيت:  ما رهبوا قصف صهينةٍ، نلاحظ: ق/ص/ف/ص/هـ/ن/ة --> تناوب الصوت القوي (ق، ص) مع الأصوات المهموسة (هـ، ن) يصنع صراعًا سمعيًا يعكس الصراع الواقعي.

الجرس الموسيقي: البحر المديد (فاعلاتن – فاعلن – فعلن)

يتميز بإيقاع متوسط السرعة، متدلٍّ، مرن، يوفّر مجالًا للانفعالات الحزينة أو التأملية، كما أن التفعيلة الأخيرة (فعلن) توفّر نهاية مغلقة للصوت، تُشبه الإغلاق العاطفي أو الانكسار.

مثلا: حال قلبي شأنه تعبُ (فعلاتن – فاعلن – فعلن) الحركات المتوالية في "تعبُ" = انتهاء صوتي متشظٍّ، كأنّه تنهيدة.

الانسجام الصوتي (الصوائت/الصوامت): الصوائت القصيرة (فتحة، ضمة، كسرة) تُستخدم بكثافة: الفتحة: تعبير عن الفتح، الغليان العاطفي والضمة: تضيف جرسًا قويًا وقاطعًا.

الصوامت المتقاربة صوتيًا (تجانس صوتي): "طرب / تعب" --> تقارب صوتي (ط/ت + ر/ب)

"نصب / حسب / نجب" --> نهاية باء ساكنة --> توحّد صوتي.

الظواهر الصوتية البلاغية

الظاهرة المثال التأثير

الجناس طرب / تعب توتر دلالي في تشابه صوتي

السجع نسب / حسب / نصب توحيد سمعي – يعزز الإيقاع

التكرار الصوتي "حالُ" تكررت كثيرًا إصرار صوتي يرمز للدوام

الانسجام الصوتي: يتجلى في تكرار الحروف الرخوة المهموسة مثل (ح، ر) والحروف المتوسطة المجهورة (ن، م) التي تمنح النص موسيقى داخلية هادئة تتصاعد مع المعاني القوية.

الجناس: تكرار بعض المقاطع الصوتية مثل: "حالُهُ طربُ / شأنُهُ تعبُ" – التشابه في البنية الصوتية يعطي إيقاعًا صوتيًا متزنًا.

الصوائت القصيرة والطويلة (المدّ الصوتي): تم توظيف الحركات بذكاء لتدعيم الإيقاع الداخلي ولخدمة المعنى، كـ"سَمَقَتْ / سِيماؤُها / شُهُبُ" --> الصوائت الطويلة تعزز الرفعة والعظمة.

وفيما يخص الإيقاع: اعتمد على التكرار الصوتي المتوازن، واستخدم الحركات القصيرة والطويلة بشكل متناغم، مما يعزز من موسيقية الأبيات.

أما في التقارب الصوتي: فنجدكثرة التراكيب التي تحتوي على الأصوات المفخمة مثل (ط، ق، ص، غ) مثل: "طرب، قصف، صهينة، غنّ".

وكذلك في الجناس الصوتي: نلاحظ بعض التكرار في المقاطع مثل: (حالُه – حالُ قلبي)-(نَسَبُ – حَسَبُ).

في خلاصة هذا المستوى نستنتج أن الشاعر استخدم توليفة من الصوتيات للتعبير عن البعد الوجداني الحاد في القصيدة، وتدعيم التوتر العاطفي والقوة التعبيرية.

2. التحليل النحوي والصرفي:

اعتمد الشاعر في هذه القصيدة الجمل الاسمية والفعلية، ما يعكس تنوع التركيب وحيوية المعاني:

في البنية النحوية العامة، استعمل تنويعا في استعمال الجمل، حيث نجد الجمل الإسمية تُستخدم لترسيخ الدلالة، بثبات، وتحويل المعاناة إلى حالة وجودية: "غزّة الإسلام قد سمقت" ليعبر عن الثبات والديمومة في حين كان استعمال الجمل الفعلية بتركيز وفاعلية: "رَكبتْ / نسلتْ / أنجبتْ / يطلبون" وهي جمل تعكس الحركية والنشاط والدينامية والتحوّل والفعل المقاوم وتؤكد على التاريخ والمجد المتجذّر. من حيث زمن الأفعال، نجد الفعل الماضي طاغٍ: "ركبت، زانه، نسلت، سمقت، أنجبت" والفعل المضارع في النهاية "يطلبون" و"يجبُ" يشير إلى استمرار النضال وتجدّده، كما تم توظيف الضمائر المتصلة والمنفصلة مثل: (حالُهُ / شأنُهُ / عطرُهُ / قد رهبوا)، للدلالة على تركيز شعوري وانفعالي.

استخدام أدوات التوكيد والتقوية: "قد" (قد زانه نسب – قد سمقت)، "ما رهبوا" (نفي مؤكد بالفعل).

وخلاصة القول أن التركيب النحوي مرن؛ استخدام المبتدأ والخبر بشكل بلاغي يعكس المعنى الحسي، وعليه، فالبنية النحوية تعكس حالة وجدانية عالية، بتوظيف تنويع الجمل والتوكيد لإبراز المضمون البطولي والتراجيدي.

- الصيغ الصرفية: تركيز على المشتقات

أسماء الفاعل: "طالب" غير مذكورة صراحة، لكن ضمنيًا في "يطلبون"، "هاربون" ضمنيًا في "قد هربوا"

أسماء المفعول: "مرفوع" ضمنًا في "قد سمقت"، لأن غزة "مرفوعة السمْت"

الصيغ المصدرية: إذا كان المصدر هو اسم الحدث المجرد من الزمان والفاعل فلدينا في القصيدة، عدة مصادر، بعضها ظاهر وبعضها مقدّر أو متحوّل:

أمثلة على المصادر الصريحة:

المصدر السياق الدلالي

العتق "يطلبون العتق" الخلاص الروحي والسياسي

الرهب "قد رهبوا"- "رهبة" خوف تعظيمي لله

النصب "حالُها، عنوانه نصب" التعب المتواصل (نَصَب لا منصب!)

الطرب "حالُه طرب" انفعال وجداني عالٍ (فرح أو شوق)

التعب "شأنه تعب" إعياء روحي أو جسدي

ملاحظات على المصادر:

اختيار المصدر دون الفعل --> توجيه الانتباه للحالة كقيمة.

"النصب" --> لا يقول "تنصب" بل "عنوانه نصب" --> التركيز على الحالة لا الفعل.

المصادر مرتبطة بالضمير الإنساني:

"حالُه طرب" --> القلب، "حالُها نصب" --> العيون، "شأنُه تعب" --> الذات

هذه المصادر تتحول إلى علامات دلالية، فهي توصّف الشخصيات والأشياء لا بالأفعال، بل بالأحوال.

أمثلة على المصادر المقدّرة:

في بعض المواضع، نجد أفعالًا تحيل إلى مصادر غير مصرح بها:

"قد رهبوا" --> المصدر: الرهب، ولكن ورد الفعل للتعبير عن الخوف التعظيمي من الله.

"ما رهبوا قصف":  "الرهب" مقابل "القصف" --> مفارقة بلاغية: لم يخافوا القصف، بل رهبوا الله!

"أنجبت فرسانها عبقًا"،  "الإنجاب" هنا يُرادف الإبداع/الخلق/الإخصاب

والمفعول به "عبقًا" --> مصدر مجازي = "عطر معنوي"

في التحليل الدلالي للمصادر:

المصدر القيمة البلاغية

العتق التحرر من "سقر" --> الجحيم --> الاحتلال --> الذنب

الطرب انفعال شعوري شديد --> وجد ديني/وطني

النصب/التعب ديمومة الألم، لا لحظة عابرة

العبق تجريد للفعل الجهادي في صورة "عطر" معنوي

الرهب تحويل الخوف من عدو إلى خشية من الله

3. التحليل المعجمي (اللفظي)

يزخر المعجم الشعري لهذه القصيدة بحقول معجمية غنية ومتنوعة، إذ نجد:

حقل الجهاد والمقاومة: "فرسان، صهينة، العتق، قصف، فجرنا، نصرًا"

حقل الكرامة والمجد: "سؤدد، تليد، حسب، نسب، شرف، نجب"

حقل المعاناة: "تعب، لم تذق رغدًا، نصب، سقر"

حقل الصراع والمقاومة: "قصف، صهينة، العدى، فرسان، فجر"

حقل العزة والنسب الشريف: "هاشم، سؤدد، تليد، حسب، نجب"

حقل الدين والخوف من الله: "عتق، سقر، ربّ، رهبوا"

من الملاحظ أن الشاعر وظف ألفاظا من التراث العربي: "هاشم، سؤدد، تليد، حسب، نسب" ل ربط الماضي بالحاضر واتسمت قصيدته بقلة الألفاظ الدخيلة، مما يدل على نقاء اللغة وعمقها العربي الإسلامي.

وخلاصة القول أن المعجم محكم الدلالة، ويجمع بين البعد النضالي والتاريخي والديني، مما يعطي القصيدة عمقًا في المعنى والرسالة.

4. التحليل التركيبي اللغوي:

اتسمت القصيدة بالأسلوب التقريري المتماسك حيث تؤدي الجمل معاني مباشرة مع صور بيانية مضمّنة.

التوازي التركيبي بين الشطرين المتناظرين في كثير من الأبيات (تكرار البنية النحوية):

"في عيونٍ لم تذق رغدًا / حالُها، عنوانُهُ نصبُ"

"أنجبت فرسانَها عبقًا / من رحيقٍ، عطرُهُ نُجُبُ"

هذا التوازي يمنح النص تناغمًا منطقيًا وشعريًا.

الاستعارات والتشابيه: "فرسانها عبقًا" --> استعارة تصف المقاتلين بأنهم عبق، أي ذوو أثر جميل ومؤثر.

"سيماؤها شهب" --> استعارة وصفية قوية.

في الروابط البلاغية:

استخدام الحروف (قد، في، من، و) لتقوية الربط بين المعاني، أما  النفي في "ما رهبوا قصف صهينة" فهو يعمّق دلالة الثبات.

الإزاحة الأسلوبية: تُغيّب بعض التركيبات المألوفة لصالح تراكيب موحية.

هكذا نجد أن التركيب اللغوي يُوظَّف بلاغيًا لخدمة الإيحاء أكثر من المباشرة، ويُعزز الانفعالات الشعورية للقصيدة.

5. التحليل الدلالي

الثيمة الأساسية التي شيد عليها معمار القصيدة هي: غزة بوصفها رمزًا إسلاميًا، نضاليًا، نقيًا، متجذرًا في النسب الهاشمي.

--غزة --> الأنثى الوردة --> الأم الباس

يمكن حصر الدلالات الكبرى في: غزة كرمز للإسلام والمقاومة-->استخدم الشاعر اسم "غزة الإسلام" لا كمدينة جغرافية، بل كرمز حضاري ومقدّس، وكان التركيز على المعاناة والنبل، ورغم الألم والتعب، فإن غزة تزدهر بالنسب، بالأنفة، بالفروسية.

تستحضر القصيدة البُعد الديني والتاريخي من خلال إشارات مثل "سقر، ربّ، رهَبوا، فرسانها، عتق" وهذا يعزز توظيفًها للموروث الديني والتاريخي.

ويتبثق الأمل في الحمولة الدلالية للرسالة الخاتمية: الفجر قادم، من خلال البيت الأخير الذي يحمل أملاً مؤكَّدًا:

"فَجْرُنَا آتٍ سَرَى يَجِبُ"

بذلك تكون هذه القصيدة ذات دلالة مقاومية روحية، تجمع بين الحزن والفخر، بين الألم والأمل.

6. المستوى التداولي (البراغماتي)

المُرسل (الشاعر): يتحدث من موقف وجداني حاد، كمن يعيش أو يتماشى مع معاناة غزة.

الرسالة: هي دعوة للصمود، وتثبيت للمقاومة، وشحن للعاطفة الإسلامية الجمعية.

المُخاطَب (الجمهور): الأمة، القارئ العربي، والمجتمع المسلم وقد تنفنح على كل أحرار العالم.

السياق الواقعي: يشير إلى معاناة غزة تحت الحصار والاحتلال، مع تطعيم الخطاب بنَفَس إسلامي نضالي.

وأخيرا وليس آخرا، فهذه القصيدة تُوظَّف لأغراض تعبويّة وتوعوية، لكنها تظل ضمن إطار شعري فني.

الخلاصة العامة:

الجانب التحليل

البحر المديد يدعم التوتر العاطفي، الفاصلات الصوتية تخدم الانفعال

الصوتي إيقاع قوي، حروف مفخمة، جناس--توزيع متقن بين الحروف الجهرية والمهموسة

النحوي تنوع نحوي، أدوات توكيد--توظيف دقيق للجمل الاسمية لإثبات الحالة، والفعلية لإبراز الفعل المقاوم، التراكيب مشحونة بالمعاني دون إفراط

المعجمي معجم نضالي – وجداني – ديني

التركيبي توازي، استعارات، بلاغة متقدمة

الصرفي صيغ مصدرية كثيرة (طرب، نصب، رهب، عتق) تعبّر عن الحالات الشعورية والمصيرية بدلاً من الحركات المؤقتة--المصدر يوظَّف هنا كوسيلة لتكثيف المعنى، وتحويل الانفعال إلى كيان لغوي محسوس

الدلالي ثنائية الألم/العز، غزة كرمز، وعد بالنصر--

التداولي خطاب تعبوي موجه للأمة.

***

بقلم د. أحمد جمرادي

***

.....................

غزةُ الإسلام

رُبّ قلْـبٍ حــــالُهُ طَــــــــرَبُ

حـــــــالُ قلْبِي شـــأْنُهُ تَعَبُ

*

في عُيــونٍ لمْ تَذُقْ رَغَـــداً

حــــالُها، عُنْـوانُهُ نَصَـــبُ

*

ورْدَةٌ فـــي هــــاشِمٍ رَكبتْ

عُودَها، قدْ زانَــــهُ نَسَبُ

*

مِنْ عَتِيــــقٍ سُؤْدَدٍ نسَلَتْ

مِنْ تَلِيــــــدٍ قَدّهُ حَسَـــبُ

*

غَزّةُ الْإسْـــلامِ قَدْ سَمَقَتْ

سَمْتُها سِيمـاؤُها شُهُبُ

*

أنْجَبَتْ فُرْســــــــــانَها عَبَقاً

منْ رَحِيقٍ، عِطْرُهُ نُجُبُ

*

يَطْلُبُـونَ الْعِتْقَ مِنْ سَقَرٍ

خَوْفَ رَبٍّ عالٍ، قدْ رَهَبُوا

*

مَا رَهَبُـوا قَصْفَ صَهْيَنَةٍ

و الْعِـــــدا جُبْناً قدْ هَرَبُوا

*

غَنِّ يـــــــا نَصْراً عَلا شَرَفاً

فَجْرُنــــــــا آتٍ سَرَى يَجِبُ

***

قصيدة من إبداع الشاعر نورالدين حنيف أبوشامة

 

في المثقف اليوم