قراءات نقدية

فاطمة عبد الله: احتراق الصمت بين الرغبة واللغة

دراسة نقدية في شعر الشاعرة د. مرشدة جاويش

*  المقدمة وإشكالية البحث: بشكل الشعر النسوي العربي المعاصر فضاء إبداعياً خصباً لتفجير اللغة واستعادة الجسد وتوليد أنماط جديدة من القول الشعري، حيث تتجاوز المرأة فيه حدود التعبير التقليدي نحو تأسيس كتابة أنثوية حداثية. وفي هذا السياق تنفتح قصيدة مرشدة جاويش «حين يتهجّى الجسد مجازه» على شبكة من الثنائيات المتوترة:  الصمت/الكلام، الجسد/اللغة، الرغبة/الغياب، لتعيد صياغة علاقة الذات بالعالم عبر استراتيجية جمالية ترى في الصمت ليس انطفاء بل احتراقاً داخلياً يفرز المعنى. ومن هنا تبرز إشكالية البحث: كيف يتحول الصمت في هذا النص إلى احتراق خلاق ينتج كتابة نسوية تتجاوز الفردي نحو الكوني؟ وانطلاقاً من هذه الإشكالية، تبنى فرضية الدراسة على أن القصيدة لا تعكس تجربة وجدانية معزولة، بل تؤسس لمشروع شعري حداثي / نسوي يوظف الصمت كأداة جمالية معرفيةو صوفية.

*  الإطار النظري

ينفتح النص على جملة من المرجعيات النظرية التي تسهم في تفسير بنيته العميقة: فالحداثة الشعرية عند رولان بارت ترى أن ولادة النص تتحقق عبر تصدع اللغة المألوفة، حيث يغدو الصمت مادة للقول. أما التحليل النفسي عند لاكان  فيبرز أن الرغبة تسكن الدال وتتحرك بين العلامات، فيما يؤكد فرويد أن المكبوت يعود متنكراً في صور رمزية. ومن منظور النقد النسوي، طورت  Hélène Cixous  مفهوم( écriture féminine)  أو كتابة الجسد، التي لا تسجل تجربة المرأة من الخارج بل تعيد كتابة الذات من الداخل. وتلتقي هذه المرجعيات مع البعد الصوفي في نصوص الحلاج وابن عربي، حيث يمثل الاحتراق فعلاً وجودياً يذيب الحدود بين الأنا والآخر.

* اللغة كاحتراق دلالي

انطلاقاً من ذلك، تتبدى اللغة في نص د.مرشدة  جاويش بوصفها مجالاً للاحتراق، إذ تقوم على جمالية الانفجار الدلالي عبر صور مثل: «اشتعال السكوت» و«تفور بي نيران» و«كأنّي وُلدتُ من احتراق الرغبة». هذه التراكيب لا تحيل النار إلى معناها الفيزيائي، بل تحولها إلى ميتافور وجودي–إنشائي يعيد تشكيل اللغة ذاتها. وهكذا يتحقق ما يسميه بارت «تصدع الخطاب المألوف»، حيث تضيق اللغة التقليدية لكنها تنتج من خلال وحداتها الصغرى (النقطة، الرعشة، الشهقة) طاقة دلالية جديدة. ومن هنا ينتقل النص من المحاكاة (mimesis) إلى الإنشاء (poiesis)، أي من تمثيل الواقع إلى توليد واقع لغوي مغاير.

* الجسد والرغبة في النص

كما يعيد النص تموضع الجسد ليغدو جهازاً دلالياً، لا موضوعاً خارجياً. فالقصيدة تقول: «أتحسّسني نبضاً ينسلّ من مسامّ الرعشة / كأنّ الجلد يُزهر بالشّهقة».

هنا تتماهى العلامة الشعرية مع الرغبة اللاواعية ، في تجسيد لما يسميه لاكان «تموضع الرغبة في الدال».

  اي تصبح العلامة الشعرية (النبض، الرعشة، الزهرة) وسيطاً للرغبة اللاواعية. إن «انزياح اللغة» (déviation du langage) يعكس في جوهره انزياح الرغبة، أي انتقالها من المكبوت إلى التعبير الرمزي.

أما عودة المكبوت الفرويدي  فتتجلى في قولها: «ألف أنثى تنبثق من ظلي»، حيث يتحول الغياب الاجتماعي والثقافي إلى فائض رمزي يضاعف حضور الأنا الأنثوية. إن الصمت هنا لا يمثل كبتاً  سلبياً، بل يحتضن الرغبة ويحولها إلى احتراق داخلي يولد اللغة.

إذن، النص يظهر علاقة جدلية بين الهو (id) و الأنا (ego)، حيث يترجم «الصمت» كبنية كابتة، لكنه يتفجر في شكل «احتراق» هو في جوهره عودة للرغبة المقموعة...

* كتابة الجسد واستراتيجية النسوية المضادة

وعلى مستوى الكتابة النسوية، تتجلى écriture féminine في تمحور النص حول الجسد، فقولها: «عرّيتُ صبري من كبرياء الحذر / أزحتُ ستائر الخفر عن نفسي وارتجفت»

 يظهر أن الكتابة فعل تعرٍّ رمزي، أي رفع للأقنعة المفروضة اجتماعياً على الأنثى. إن النص لا يكتب الجسد كموضوع للنظرة الذكورية، بل يقدم الجسد كفاعل كتابة يترجم رعشته إلى نص. فالجسد هنا ليس غائباً يكتب عنه، بل هو الحاضر الكاتب الذي يترجم رعشته إلى نص. ويؤكد ذلك قول الشاعرة: «كأنّ الجلد يُزهر بالشّهقة»، حيث تتحول التجربة الحسية إلى بلاغة جسدية، أي بلاغة تتأسس على الإيقاع الحيوي للأنثى.

كما أن حضور الغياب ذاته (في قولها: «فسيفساء الغياب») يمثل استراتيجياً نسوياً مضاداً: تحويل ما فرض على المرأة كغياب إلى حضور شعري يتمظهر في فسيفساء لغوية.

وبذلك تتحقق استراتيجية نسوية مضادة تفكك البنية البطرياركية، عبر ما يسميه أوستن وباتلر بـ «الأفعال الإنجازية» (performative acts)، حيث يتحول القول إلى فعل تحرري داخل النص.

* البعد الصوفي والاحتراق كقربان

ولا يقف النص عند حدود الرغبة الجسدية، بل يتجاوزها إلى أفق صوفي حيث يتجلى الاحتراق كقربان معرفي. فالقصيدة تقول:

 «أطلّ منّي عليّ / فأصير مرآةً لجرحي المتورّد في ندى الذكرى».

إن هذه الحركة تمثل حواراً داخلياً يفضي إلى ذوبان الحدود بين الأنا والآخر، في استعادة واضحة لرموز الحلول والاتحاد عند الحلاج وابن عربي. وهنا يصبح الاحتراق فعل ذوبان يتخطى الفردي إلى الكوني، ويحول الصمت إلى تجربة رؤيوية.

 إذاً ،  النص الشعري عند الشاعرة مرشدة جاويش يشتغل كـ مختبر لغوي/ نفسي / جسدي/صوفي، حيث تتقاطع الاستعارة مع اللاوعي، ويتحول الجسد إلى نص، والصمت إلى أداة مقاومة. وهو ما يجعل من النص نموذجاً لما يمكن تسميته: الكتابة الأنثوية الحداثية ذات الأفق الصوفي.

* مقارنة مع تجارب نسوية عربية أخرى

يكتسب نص مرشدة جاويش قيمته الإبداعية من كونه ينخرط في مشروع أوسع للكتابة النسوية العربية المعاصرة، حيث يتجاور مع تجارب لشاعرات مثل نازك الملائكة التي دشنت مسار تحرر الشكل الشعري، كما في قولها «سكن الليل / أصغِ إلى وقع صدى الأنات»، حيث يتحول الصمت إلى خلفية تولد منها الأصوات المكبوتة. وكذلك مع فدوى طوقان التي كتبت عن الجسد والغياب بوصفهما قيداً ودافعاً للكتابة: «وأفكر: هل هذا الجسد الأنثوي / سوى قفص يضيق بروحي؟». أما سعاد الصباح فقد أعادت إنتاج خطاب الجسد والرغبة بشكل تحرري–رومانسي: «أريد أن أكتب عن جسدي / عن حضارة تبدأ من شفتيك».

ما يميز الشاعرة مرشدة جاويش أنها تمزج بين هذه المسارات: فهي من جهة تلتقي مع هيلين سيكسو في فكرة «كتابة الجسد»، حيث يتحول الجسد من موضوع إلى فاعل نصي، ومن جهة أخرى تحاكي خطاب الصوفية في بلورة الاحتراق كقربان وجودي، كما تستثمر الصمت كبنية إنتاجية كما عند بعض الأصوات النسوية المغاربية التي كتبت عن الغياب بوصفه حضوراً كثيفاً. وبهذا المعنى، فإن نص الشاعرة مرشدة جاويش لا يقف عند حدود التجربة الفردية، بل يقدم بوصفه حلقة في سلسلة إبداعية نسوية عربية تسعى إلى تفكيك الخطاب الذكوري المهيمن، وتأسيس بلاغة جديدة للصمت والرغبة والجسد.

* الخاتمة والنتائج

 وبالتالي، وتكشف قصيدة مرشدة جاويش عن مشروع كتابة أنثوية حداثية تستثمر التوتر بين الصمت واللغة لتؤسس خطاباً شعرياً يتقاطع فيه النفسي مع النسوي، والجسدي مع الصوفي. إنها كتابة تقوم على الاحتراق الخلاق الذي يذيب الحدود بين الرغبة واللغة، وبين الغياب والحضور، لتقدم الذات الأنثوية نصاً يتوهج بالحرية و الكونية. وبهذا يغدو النص نموذجاً دالاً على قدرة الشعر النسوي العربي المعاصر على إنتاج بلاغة جديدة للصمت، حيث يستعاد الصوت عبر اشتعال السكوت، ويتحول الاحتراق إلى ولادة لغوية وجمالية ومعرفية متجددة ...

***  

دراسة نقدية من إنجاز فاطمة عبد الله

..............................

حِينَ يَتَهَجَّى الجَسَدُ مَجَازَهُ

وَيَغْدُو الصَّمْتُ مِرْآةً لِلاِحْتِرَاقِ:

اشْتِعالُ السُّكُوتِ

أُلامِسُ ما لا يُرى

نُقْطَةَ الضَّوْءِ الَّتي تَخْتَبِئُ

تَحْتَ سَطْرِ الغَوايَةِ

تَنْبِضُ بي كَأَنِّي أَتَهَجَّى

أَلْفَ أُنْثى تَنْبَثِقُ مِن ظِلِّي

أَتَحَسَّسُنِي

نَبْضاً يَنْسَلُّ مِن مَسَامِّ الرَّعْشَةِ

كَأَنَّ الجِلْدَ يُزْهِرُ بِالشَّهْقَةِ

حينَ تَهْبِطُ الحَوَاسُّ بِلا إِذْنٍ

عَلى فُسَيْفِسَاءِ الغِيابِ

يا جُوعَ المَدَى

يا عُرْيَ المَجازِ

يا رَغْبَةً تَتَقَمَّصُ نُبُوءَةَ السُّكُوتِ

أُطِلُّ مِنِّي عَلَيَّ

فَأَصِيرُ مِرْآةً

لِجُرْحِي المُتَوَرِّدِ في نَدَى الذِّكْرَى

عَرَّيْتُ صَبْرِي مِن كِبْرِياءِ الحَذَرِ

أَزَحْتُ سَتَائِرَ الخَفَرِ عَنْ نَفْسِي

وَارْتَجَفْتُ

لا خَوْفاً

بَلْ لِأَنَّنِي أَصْغَيْتُ أَخِيراً

لِجُنُونِي المُبَجَّلِ

تَفُورُ بي نِيرَانٌ لَمْ أُسَمِّهَا

تَضِيقُ اللُّغَةُ

تَتَّسِعُ النُّقْطَةُ

أَسْتَحِيلُ ضَوْءاً يَغْرَقُ في ضَوْءٍ

كَأَنِّي وُلِدْتُ مِنِ احْتِرَاقِ الرَّغْبَةِ

بِوَجْهِهَا الغَامِضِ

هاتِي الغِيَابَ

لِأَكْتُبَهُ عَلى جِلْدِي

هاتِي التَّنْهِيدَةَ

أُعَلِّقُهَا قُرْبَ نُقْطَةِ انْفِجَارِي

سَأَجْمَعُنِي مِنِّي

كَأَنِّي أَخْلُقُنِي مِن جُمْرِ ما لَمْ أُقَلْ

* * *

مرشدة جاويش

في المثقف اليوم