قراءات نقدية

عماد خالد رحمة: دراسة نقدية تحليلية موسعة لقصيدة "حصرمٌ يُفسِدُ الملحَ"

للشاعر السوري سليمان إبراهيم

قراءة هيرمينوطيقية، أسلوبية، رمزية، وطنية، وسيميائية

***

1. مدخل إلى النص: قصيدة سليمان إبراهيم «حصرمٌ يُفسِدُ الملحَ» تنفتح منذ عتبتها الأولى على صراع داخلي متفجّر بين الألفة والغرابة، بين المقدّس والمدنّس، بين الموروث القرآني والرمزي الشعبي، وبين التجربة الذاتية التي تسعى لتفكيك قشرة الواقع الصلب وكشف لبّ الحقيقة المؤجّلة. العنوان نفسه «حصرمٌ يُفسِدُ الملحَ» يقدّم مفارقة دلالية لافتة: الحصرم بما يحمله من طعم لاذع ناقص النضج، والملح بما يمثّل من حفظٍ وقداسة ودوام. هنا يضعنا الشاعر أمام تناقض رمزي، حيث الفساد يطلّ من داخل أدوات الحفظ نفسها، وكأنّ المعنى يريد أن يقول: إنّ الداخل الموبوء أقدر على الإفساد من الخارج.

2. المنهج الهيرمينوطيقي التأويلي:

الهيرمينوطيقا تقتضي الغوص في النص كدائرة بين الكل والجزء. لا يمكن فهم صورة «سلافٌ لا تنتظر الحقيقة» إلا بالعودة إلى الكل الشعري الذي ينسج ثنائية الحضور/الغياب. فـ«السلاف» رمز الخمرة المقطّرة، لكنها هنا خمرة يائسة لا تُنتج يقيناً بل تذيب الرماد في الوعي. اللغة ذاتها تُبنى على توتر وجودي: الحقيقة مؤجَّلة، السماء عارية، والاسم في عراءٍ لا يملك سوى شموخه.

هايدغر يذكّرنا بأنّ الشعر هو «بيت الكينونة»، وفي هذا النص يصبح الشعر بيتاً مؤقتاً تتجاذبه الريح، حيث يُستحضر المقدّس («يا ألله»، «وتيناً وزيتوناً») لكن يُعاد إنتاجه ضمن بنية شعرية تكسر يقينية النص الديني وتعيده إلى فضاء المجاز والشكّ.

3. التحليل الأسلوبي:

من الناحية الأسلوبية، القصيدة تنتمي إلى الشعر الحرّ، حيث كُسرت أنظمة الوزن الخليلي التقليدي لصالح إيقاع داخلي نابع من التكرار («الآنَ الآنَ»، «يا أللهُ»)، ومن التوازي التركيبي («حينَ تقتني سماءَكَ الثّامنة»، «رأسي المحشو في قدميكَ»).

النحو الشعري هنا ينزاح عن المألوف: فالأفعال تأخذ صيغة الأمر («التَحِفْ»، «تحقّقْ») وكأنّ الذات تخاطب ذاتها في مرآة مزدوجة.

الإيقاع يتولّد من الصدمة بين الصور: من قداسة السماء إلى عراء الاسم، من يأجوج ومأجوج إلى الزيتون والتين. إنّه تداخل الأصوات والأساليب الذي يمنح النصّ قوّة تفجيرية.

4. البنية الرمزية:

القصيدة مليئة بالرموز المقتبسة من المخيال الديني والأسطوري:

- الحصرم: رمز للنقصان وعدم الاكتمال، للدلالة على مشروع لم ينضج بعد.

- الملح: رمز للطهارة والحفظ، لكن فساده يعني انهيار الثبات.

- السماء الثامنة: إحالة إلى ما وراء التصوّرات التقليدية للسماء السبع، أي البحث عن مطلق جديد أو يوتوبيا ميتافيزيقية.

- يأجوج ومأجوج: رمز للفوضى والخراب، يوظَّف لتجسيد الدم الفاسد والفساد التاريخي.

- التين والزيتون: رمز قرآني للأرض المقدسة والبركة، هنا يتقاطع مع الذاكرة الوطنية السورية والفلسطينية في آن.

5. المنهج الوطني:

النص يحمل ملامح وطنية كامنة، إذ يُحيل إلى التجربة السورية المعاصرة وما يعتريها من فساد ودمار. «دمهم الفاسد» ليست مجرد صورة أسطورية، بل انعكاس مباشر للدماء المسفوكة في واقع الحرب. الزيتون والتين يشيران إلى هوية الأرض، إلى الخصوبة المقاومة رغم الخراب. القصيدة تتأرجح بين الدعاء واللعنة، بين الابتهال والتمرد، في استعادة لصوت الجماعة الذي يحاول إعادة تعريف الله والسماء من جديد.

6. المنهج السيميائي:

- من زاوية السيمياء، القصيدة شبكة من العلامات:

- العنوان يعمل كعلامة استباقية (تكشف مسبقاً طبيعة الانحراف القادم.

- الأوامر («التَحِفْ سماءَكَ»، «تحقّقْ») علامات على أزمة الهوية وضرورة إعادة امتلاك الذات.

- الرموز الدينية (الله، يأجوج ومأجوج، الزيتون والتين) تتحوّل من علامات لليقين إلى علامات للتوتر والقلق.

- التكرار السيميائي لـ«سماء» يفتح أفقاً تأويلياً: السماء لم تعد أفقاً للعلو فقط، بل أفقاً للمساءلة والاغتراب.

7. البنية النفسية والدينية:

من منظور التحليل النفسي، القصيدة تعبّر عن انقسام الذات بين الرغبة في التسامي والاغتراب عن المقدّس. هناك توتر بين الابتهال لله وبين التمرد الضمني عليه: «رأسي المحشو في قدميك» صورة صادمة تمزج بين الذلّ المقدّس والتمرد السري. هذا التناقض يكشف عن قلق ديني-وجودي، حيث يتحوّل الخطاب الإيماني إلى مساحة للصراع النفسي أكثر منه إلى ملاذ روحي.

8. ما تحت الجلد الشعري:

- القصيدة تنبض بقلق داخلي عميق:

- التوتر بين السخرية من الطهر (الحصرم الفاسد) واستدعاء القداسة (التين والزيتون).

- الرمزية التي تحوّل النص إلى صرخة وجودية ضد الفساد الروحي والسياسي.

- اللغة التي تتأرجح بين الشموخ والانكسار، بين الأمر والتوسّل، بين العلو والعراء.

إنّ ما تحت الجلد الشعري هنا ليس إلا صرخة ذات جريحة تبحث عن معنى وسط الخراب، عن سماء ثامنة خارج كل الخرائط، عن الله جديد يطهّر الدماء الفاسدة.

خلاصة:

قصيدة «حصرمٌ يُفسِدُ الملحَ» ليست نصاً شعرياً عادياً، بل هي أنطولوجيا صغيرة للقلق السوري والعربي، تُعيد إنتاج الأسطورة والدين بلغة شعرية متوترة تكشف هشاشة المعنى. من خلال المنهج الهيرمينوطيقي والأسلوبي والرمزي والسيميائي، نكتشف أنّ النص يحاور نفسه كما يحاور قارئه، ويفتح أفقاً لتأويلات متعددة. إنّه نصّ يكتب ذاته في التوتر بين الفساد والقداسة، بين الأرض والسماء، بين الإنسان والله، ويكشف في النهاية عن جرح وجودي ووطني لا يزال ينزف تحت الجلد الشعري.

***

بقلم: عماد خالد رحمة - برلين

........................

حصرمٌ يُفسِدُ الملحَ

هذي سلافٌ لا تنتظرُ الحقيقةَ

سُلانُ رمادِها يُقطّرُ نقيبَ ضلعِكَ

الآنَ الآنَ..

تحقّقْ من نوايا شموخِكَ

اِلتَحِفْ سماءَكَ

عليٌّ أنتَ في عراءِ اسمِكَ

كلُّ مايعلو الآنَ

لا يطالُ صوبَ صلاتِكَ

حينَ تقتني سماءَكَ الثّامنة:

"يا أللهُ!

رأسي المحشوُ في قدميكَ

يؤلمُه في وهادِهِ

يأجوجُ ومأجوجُ قَدُّ دمِهِم الفاسدِ

هناكَ؛

حيثُ أجني نطافَ ريحِكَ

وتيناً

خلايا تثمرُ زيتوناً وتيناً...

يا ربّيّ اللهُ!

إِنْ شئتَ تباركَ اسمُكَ فيها

وإنْ شاؤوا زنَتْ الرّيحُ بتاليها..."

 

في المثقف اليوم