قراءات نقدية

سُوف عبيد: القصيدة أنثى

أنا أزعم أن القصائد الأولى في التاريخ هي الأغاني التي كانت تردّدها النساء وهُنّ يحتضنّ ويُرقّصن بَنينهنّ وبناتهنّ أو ينتظرن رجالهنّ العائدين بما اِصطادوه أو قطفوه من الغابات والأدغال والبراري أو هنّ يعتنين بما تنتجه الأراضي الخصبة القريبة من مقرّات إقامتهنّ ولعل القصيدة البابلية المُدوَّنة بالخط المسماري في سطور لوح طيني والتي تعود إلى أكثر من أربعة آلاف سنة تؤكّد أن المرأة هي الأولى التي وصلت إلينا قصيدتها أو مقطع منها حيث تقول في بعض سطورها:

أنا في البريّة وقد اِنتهيت من اِقتلاع الأشواك

والآن سأزرعُ كرمة عنبٍ

وقد غمرت النَّار المستعرة في داخلي بالماء

فأحبّني كما تحبُّ حملانك الصغيرة

واِعتنِ بي كما تعتني بقطيع ماشيتك

واِبحثْ عنِّي إلى أنْ تجِدني

في القرن السابع قبل الميلاد اِكتملت صياغة ملحمتي الإلياذة والأوديسا حسب بعض الباحثين وفي نفس هذا القرن في بلاد الإغريق ظهرت الشاعرة ـ صافُو ـ وهي أول شاعرة وصلتنا قصائدها فربما تكون إذن معاصرة للشاعر ـ هوميروس ـ ومن قصائد الشاعرة ـ صافُو ـ قولها في مقطوعة

في فجر الربيع

يبزغ القمر مكتملا

وتأخذ الفتيات أماكنهن

كما لو كن يتحلقن حول المصلّى

غير أنّ تاريخ الشّعر العربي لم يسجّل بوضوح بعض الشاعرات إلا في القرن الأول الهجري الموافق للقرن السابع الميلادي فذكر ليلى الأخيلية مع صاحبها توبة بن الحمير ـ والخنساء مع أخيها صخر.

وسجّل بوضوح جرأة الشاعرة ولادة بنت المستكفي الأندلسية تلك التي طرزت بيتين من شِعرها على وشاحها قائلة.

أنا واللَه أصلُح للمعالي * وأَمشي مشيتي وأتيهُ تِيهَا

وَأمكّنُ عاشقي من صَحن خدّي * وأعطي قُبلتي مَن يشتَهيهَا

أمّا في تونس وعلى ساحلها الشرقي وبالقرب من مدينة الشّابة فما يزال ـ برج خديجة ـ قائما إلى اليوم شاهدا على الشاعرة ـ خدّوج الرّصفية ـ وهي من معاصري القرن الرّابع الهجري وقد ذكر حسن حسني عبد الوهّاب أنّها أحبّت الشاعر أبا مروان عبد الملك بن زيادة الله وأحبّها وكتب فيها شعرًا ممّا أغضب إخوتها ففرّقوا بينهما ومن شعرها قولها في ذلك:

فرّقوا بيننا فلمّا اِجتمعنا * مزّقونا بالزّور والبهتان

ما أرى فعلهم بنا اليوم إلّا * مثلَ فعل الشيطان بالإنسان

أوّل شاعرة تونسية أصدرت ديوانا شعريا هي الشاعرة ـ زبيدة بشير ـ بعنوان ـ حنين ـ سنة 1968 وقد عبّرت قصائده عن وهج الوجدان في خضمّ مشاعر الحبّ بين مدّه وجزره ووردت القصائد في نمط شعر البحر أو شعر التفعيلة ولم تكد تمض سنوات قليلة حتى أصدرت الشاعرة فضيلة الشابي ديوانها الأوّل بعنوان ـ روائح الأرض والغضب ـ سنة 1973 وكانت جميع القصائد في غير نمط البحور والتفعيلات ومعبّرة عن توقها للحريّة والقيم الإنسانية

بظهور الشّاعرة فضيلة الشابي وبتواتر إصداراتها الأدبية المتنوعة اِنفتح المجال على مصراعيه أمام الأقلام النسائية وماكان ذلك إلا بفضل اِنتشار التعليم عامّة واِكتساب المرأة التونسية مكانة متقدّمة في شتّى المجالات وخاصّة في التعليم والصحّة والإدارة والفنون وما بروز أسماء أدبية نسائية في تونس إلا تتويج للنّقلة الاِجتماعية والحضارية الشاملة التي شهدتها البلاد

من بين هذه الأسماء الجديدة البارزة نذكر الأديبة والشّاعرة الأستاذة ـ فاتن كشو ـ التي ساهمت في إثراء المكتبة التونسية بإصداراتها المتواصلة في السّرد القصصي والرّوائي بالإضافة إلى الدراسات والشّعر حيث تميزت أغلب قصائدها بخروجها عن السّرب المعتاد في مواضيع وقاموس بكائيات العشق والغرام وأطلقت جناحيها ترفرف نحو أبعاد إنسانية شفّافة أو تغوص في أعماق التراث الإنساني مستحضرة قصص الخلق القديمة مثلما تقول في قصيدة ـ تفّاحة الرّيح ـ

زيفُ آدم

يغتصب تفّاحة

ويلعن فيها

طعم الكبرياء

لكأنما الشاعرة تتقمّص شخصية حوّاء فتصرخ في وجه القيم الذكورية بما تحمله من أنانية واِستغلال ومظالم عبر عصور التاريخ وترفض أن تكون المفعولة بها أو حتى أن تقوم بدور الضحية ناهيك أن تصبح الموؤودة ولا حتى أن تقبل أن تنتهي شهيدة حيث تصرخ معلنة التمرّد والثورة قائلة في قصيدة ـ وتموت في عتمة الجليد ـ

اِشتعلتُ

تأجّجتُ

تمرّدتُ

اِلتويتُ

صرختُ

وكما لم أشأ أن أولد مقتوله

لم أشأْ أيضًا أن أموتَ على قيد الحياه

وخلعتُ عني صَلَفَ القَبيله

الشاعرة فاتن كشو تعلن التمرّد والثورة على القيم والثوابت التي جعلت من الأنثى ترضى بقيود الإهانة وتذعن للمذلّة التي كبّلت شخصيتها على مدى العصور الماضية. لهذا وذاك ترنو الشاعرة نحو عالم جديد وتحلم بدنيا أخرى جميلة تحقق فيها ما تصبو إليه في آمالها من تحرّر واِنعتاق وانطلاق مثلما ورد في قصيدة - حلم بلون الدم -

كنا كلّما دقت الأجراسه

نشرب رحيق شتاتنا

نداوي العمر الحزن

ببحر للدموع

هذه الآلام لي

تلك الأحلام

خانتني

تكتب مواثيق جديدة

نختمها بالدم الأحمر

فاجع إذن ما تراه وما تكابده الشاعرة وهي تقارع شراسة الواقع وتتحدّاه بما فيه من عوائق وتحديات ومصاعب فهي كمن يتقدّم على درب من الجمر إن تقدم وجد أمامه اللّهب وإن تراجع فاجأه الحريق لكن الشاعرة في هذه الحالة تنبثق بين اللّهب والحريق أو بين النار والنار كطائر الفينيق الذي ينبعث من اِحتراقه فتولد من جديد عندما ترسم بالكلمات لوحة الخلق الأولى

ما بين نار ونار

تشتغل أحداقي

أضرم فتيلا في مشكاتي

أسمع زغرودة

تثرثر لحظة الولادة الأولى

ما بين نار ونار

صوت الشاعرة فاتن كشو قادم من أصداء عصور القهر التي رزحت تحت كلكلها المرأة فلا عجب أن تكون عناوين بعض القصائد متّشحة بألوان القتامة والأسى ومعبرة عن الخيبة وضراوة المعاناة مثل هذه العناوين

نجوم لا تضيء - مزيفة شمسك - حب مسموم - طغيان مذكر.

وإنّ القتامة لئن ظهرت في مثل هذه العناوين فإنها تتجلّى بوضوح أيضا في كثير من مفردات القصائد مثل كلمات الجثث - القنابل - القتل - غول الفقر - الجماجم - قهوة دموية - الجيف.... صوت مثخن بجراح الأنثى الآتي صداه من سحيق العصور حاملا نبرات التحدي والكبرياء!

صوت قادم من جبال لا تهدم

من رعد لا يهزم

هو صوت الشاعرة فاتن كشو !

***

سُوف عبيد - تونس

 

في المثقف اليوم