قراءات نقدية
رياض عبد الواحد: الحلم والاغتراب في النص الشعري الحديث

مقاربة بنيوية-سيكولوجية لمقاطع من قصيدة للشاعر يحيى السماوي
المقدمة: يُعَدُّ الشعر الحديث مختبرًا للتوترات الكبرى بين الذات والوجود، وبين الرغبة والخذلان، وبين الحلم والواقع. لم يعد النص الشعري الحديث حاملاً لمعنى أحاديٍّ أو رسالة مغلقة، بل أصبح فضاءً لتعدد الأصوات والرؤى، ومرآةً لأزمة الإنسان في زمن الاغتراب. من هنا، فإنّ تحليل النصوص الحديثة لا يمكن أن يكتفي بالقراءة الظاهرية، بل يتطلب الغوص في بنياتها العميقة ورصد دينامياتها النفسية والرمزية.
النص الذي بين أيدينا – مقاطع من قصيدة قيد الإنجاز – يقدّم خطابًا شعريًا مفعمًا بالأسئلة، يحاول فيه الشاعر أن يستعيد فردوسه المفقود عبر أسطرة الحلم واستدعاء الذاكرة الحضارية. إنه نصّ مشحون بالصور الحسية والمجازات الوجودية، تتقاطع فيه الثيمات الكبرى: الحب، الغياب، الأمل، الموت الرمزي. ترمي هذه القراءة إلى مقاربة هذا النص بواسطة ثلاثية تحليلية: البنية السطحية، البنية العميقة، والبعد السيكولوجي، مع إضاءة على البنية الموسيقية التي تشكّل النسيج الصوتي للنص.
تنطلق القراءة من فرضية أساسية: أن النص يتحرك ضمن جدلية الحلم والاغتراب عبر بنيات متقابلة، تتجسد في الصور، وفي الإيقاع، وفي الحقول المعجمية التي تشتغل على ثنائيات ضدية، مما يجعل النص مشهداً درامياً لصراع داخلي يعيشه الشاعر بين توقه للخلاص وانكساراته المتكررة.
الإطار النظري
1. البنيوية والنص الشعري:
البنيوية، كما بلورها فرديناند دي سوسير، تقوم على مبدأ أن اللغة نظام من العلامات، وأن الدالّ والمدلول لا ينفصلان عن النسق الذي يحكمهما[١]. وقد طبّق رولان بارت هذه الرؤية على النصوص الأدبية، مؤكدًا أنّ النص ليس مجرد حامل لمعنى، بل هو شبكة من العلاقات داخلية، لا تُفهم إلا بواسطة رصد البنية العميقة التي تتحكم في إنتاج الدلالة[٢].
أما غريماس فقد قدّم أداة مهمة لتحليل البنية الدلالية هي المربع السيميائي، الذي يقوم على إبراز العلاقات التضادية والتقابلية بين المفاهيم (الحياة/الموت، الأمل/اليأس)[٣]. سنستعين بهذا المربع في الكشف عن الثنائيات التي تنظم النص المدروس.
2. التحليل النفسي والخيال الشعري:
يرى فرويد أن الإبداع الفني ينهل من اللاوعي، وأن الحلم – مثل الشعر – يقوم على آليات الكبت والتعويض والإزاحة[٤]. أما كارل يونغ فيرى أنّ النصوص العميقة تحرك ما يسميه "الأرشيتيب" أو النماذج البدئية التي تنتمي إلى اللاوعي الجمعي[٥]. في نصنا هذا، سنلاحظ حضور رموز بدئية مثل: الماء، الصحراء، السفينة، المدينة الأسطورية (أوروك)، وهي رموز تحمل دلالات نفسية وثقافية متراكبة.
تحليل البنية السطحية:
1. الحقول المعجمية:
يتوزع المعجم الشعري في النص بين حقلين متقابلين:
حقل الخصوبة والحياة:
«تأتينني في الحلم أمطارًا / فيعشب رملُ صحرائي / ويغسل حزني الممتد»
كلمات مثل: أمطار، يعشب، الأزهار، النخيل، الينابيع تشكّل شبكة دلالية توحي بالبعث والامتلاء.
حقل الموت والفقد:
«ما الذي أبقت لي الأيام من أشجار بستان الهوى غير العقيم من الفسيل؟»
يتقابل هذا المعجم مع مفردات مثل: الصحراء، الحزن الممتد، العقيم، المتاهة، البئر.
2. الصورة الشعرية:
تقوم الصورة على التحويل الدلالي (المرأة → مطر، المطر → حياة)، وهو ما يسميه بارت "الأسطرة الثانية" حيث تتحول العلامة من وظيفتها الطبيعية إلى وظيفة أسطورية[٦]:
«حمامةً تأتينَ تُلبسنِي قميصًا من هديل»
الحمامة هنا ليست مجرد طائر، بل رمز للطهر والسلام، يتحول في المخيال الشعري إلى معادل للخلاص النفسي.
3. المشهدية:
يتميز النص بتكوين مشهدي بصري:
«فيعود طفلاً شيخُ بادية السماوة، خلفه يمشي من الأزهار جيش والسواقي والنخيل»
هنا نجد استحضارًا لأسلوب "التراكب البصري"، حيث تتحول الكلمات إلى لقطات سينمائية، ما يجعل القارئ يعيش انفعال المشهد.
البنية الإيقاعية:
الإيقاع يتراوح بين الانسياب والتوتر:
في مقاطع الحلم:
«لتقوم مملكةُ المحبة والهوى / فيها النساء جميعهن بثينة»
النغمة رخوة، الأصوات السائلة (م، ن، ل) تهيمن، مما يمنح النص نبرة هادئة.
في مقاطع الخيبة
«كيف الوصول إلى المرام إذا السفن يقودها القرصان والمنبوذ والنفر العميل؟»
النغمة حادة، الأصوات الصامتة القاسية (ق، ط، د) تعكس غضبًا داخليًا.
هذا التحول الإيقاعي يجسد ما يسميه ياكبسون بـ"التوازي الإيقاعي" كآلية دلالية تواكب التحول النفسي[٧].
تحليل البنية العميقة:
1. شبكة الثنائيات الضدية
باستعمال المربع السيميائي (غريماس)، يمكن اختزال الصراع في النص إلى ثنائيات:
الحياة مقابل الموت:
«أمطارًا» ↔ «العقيم من الفسيل»
الأمل مقابل اليأس:
«بشارة عذراء» ↔ «فلتشطبيني من كتاب حياتك الوردي»
الأصل مقابل الاغتراب:
«جيلان في أوروك» ↔ «سأفر من أوروك ثانية»
هذه الثنائيات لا تبقى متقابلة فقط، بل تتداخل في حركة جدلية، إذ يتحول الأمل إلى خيبة، والحياة إلى موت رمزي، مما يمنح النص ديناميكية دلالية.
البعد السيكولوجي:
النص يكشف عن ذات مأزومة تمارس آلية التعويض من خلال بناء مملكة وهمية:
«لتقوم مملكةُ المحبة والهوى فيها النساء جميعهن بثينة»
هذه اليوتوبيا تكشف الحاجة إلى طهر مثالي، في مواجهة واقع موبوء (القرصان والمنبوذ والنفر العميل).
كذلك نجد حضور آلية النكوص في الخاتمة:
«فلتشطبيني من كتاب حياتك الوردي… لم يعد في كأس قلبي من نمير النبض غير الأقل من القليل»
هنا يعود الشاعر إلى نقطة العدم، بعد رحلة حلمية لم تُثمر، ما يشي بصدمة وجودية تدفع إلى الانسحاب.
يونغ يفسر استدعاء الرموز (أوروك، السفينة) بكونها محاولات لاستعادة النموذج البدئي للأمان، لكن النص يفشل في تحقيقه، فينقلب الرمز إلى نقيضه: السفينة أداة نجاة تتحول إلى "بحر متاهة".
الخاتمة:
يمكن القول إن النص يمثل بنية حلمية تنهض على تقابلات حادة بين امتلاء الرغبة وفراغ الواقع، بين يوتوبيا العشق وديستوبيا المنفى. البنية السطحية تُخفي خلف زخرف الصور شبكة من التوترات الدلالية التي تكشفها البنية العميقة، فيما يعكس الإيقاع تحولات المزاج النفسي من الأمل إلى الخيبة. سيكولوجيًا، يتبدّى النص كصرخة مكبوتة، يحاول عبرها الشاعر أن يستعيد زمناً طاهراً في عالم ملوّث، لكنه ينتهي إلى خذلان يوسّع دائرة غربته.
بهذا المعنى، لا يكتفي النص بتمثيل تجربة شخصية، بل يفتح على مأزق الوعي العربي الحديث في صراعه مع الخراب والاغتراب، مما يجعله نصًا غنيًا بإمكانات القراءة، وقابلاً لأن يُدرج في خانة الشعر الوجودي الذي يزاوج بين الرؤيا والجرح.
***
رياض عبد الواحد
....................
الإحالات:
فرديناند دي سوسير، محاضرات في علم اللغة العام، ماكغرو-هيل، 1966.
2. رولان بارت، درجة الصفر في الكتابة، دار هيل ووانغ، 1977.
3. ألجيرداس غريماس، الدلالات البنيوية: محاولة في المنهج، جامعة نبراسكا، 1983.
4. سيغموند فرويد، تأويل الأحلام، دار بيسك بوكس، 2010.
5. كارل غوستاف يونغ، الإنسان ورموزه، دار ديل، 1968.
6. رولان بارت، أسطوريات، دار سوي، 1957.
7. رومان ياكبسون، اللسانيات والشعرية، مطبوعات جامعة هارفارد، 1960.
........................
مقاطع من قصيدة طويلة قيد الإنجاز
تـأتـيـنـنــي في الحلم أمطارًا
فـيَـعـشـبُ رمـلُ صـحـرائـي
ويـغـسـلُ حـزنـيَ الـمـمـتـدَّ مـن أمـسـي
الـى يـومـي الـعـلـيـلْ
//
وحـمـامـةً تـأتـيـنَ
تُـلـبِـسُـنـي قـمـيـصـًا مـن هـديـلْ
//
وبِـشـارةً عـذراءَ عـن
مـفـتـاحِ قُـفـلِ الـمـسـتـحـيـلْ
//
فـيـعـودُ طـفـلاً شـيـخُ بـاديـةِ الـسـمـاوةِ
خـلـفـهُ يـمـشـي مـن الأزهـارِ جـيـشٌ
والـسـواقـي والـنـخـيـلْ
//
يـطـوي الـفـيـافـي
يـقـتـفـي آثـارَ قـيـس بـنِ الـمُـلـوَّحِ
والـسـمـوألِ
والـيـنـابـيـعِ الـتـي ســتُـقـيـمُ غـدرانـًا
لأعـذبِ سـلـسـبـيـلْ
//
لِـتـقـومَ مـمـلـكـةُ الـمـحـبَّـةِ والـهـوى
فـيـهـا الـنـسـاءُ جـمـيـعـهـنَّ :" بثينةٌ "
وجـمـيـعُ حـادٍ فـي مـضـاربِـهـا : " جميلْ "
//
وأنـا وأنـتِ : الشاهدانِ على قِرانِ
ندى صباح اللوزِ والكَرَزِ الشذيِّ
على فمِ العطشانِ منذ غيابِ آخرِ نجمةٍ حيرى
إلى شمس الأصيلْ
//
جـيـلانِ فـي أوروكَ فـي رعـبٍ
ومـثـلـهـمـا نـزيـلُ الـغـربـتـيـنِ
وهـا أنـا فـي بـئـرِ حـزنـي
مـنـذ جـيـلْ
//
مُـتـرقِّـبـًا حـبـلاً مـن الـفـرَحِ الـمُـؤجَّـلِ مـنـذُ
عام تحاصص المتفيقهين الزور ما أبقى لنا من
زادنا ألغازي الدخيلْ
//
كيف الوصول إلى المرامِ
إذا آلسفين يقوده القرصانُ والمنبوذُ
والنفر العميلْ ؟
//
سأفر من " أورك " ثانيةً
وأُلقي بيْ إلى بحر المتاهةِ ..
ما الذي أبقت ليَ الأيامُ
من أشجار بستانِ الهوى
غيرَ العقيم من الفسيل ؟
//
ما دُمتِ هيّأتِ السفينةَ والشراعَ لتُبحري
خلفَ المدى
وعزمتِ عن مُقلي الرحيلْ :
//
فلتشطبيني من كتابِ حياتكِ الورديِّ ..
حسبي :
لم يعدْ في كأسِ قلبي من نميرِ النبضِ
يا نهر الهوى
غيرُ الأقلِّ من القليلْ !